يقول الإمام المجدد رحمه الله تعالى في ثنايا وصيته التي كتبها قبل وفاته: “ألا وإن لي أشياء أوصي بها من يسمع ويعقل، صدى وترجيعا يبلغه الله عز وجل آذانا واعية وقلوبا صاغية”. فكان أول ما أوصى به بعد بسط مقاصد الوصية بر الوالدين، قائلا: “أوصي من وقف على كلماتي هذه قراءة أو استماعا بما أوصى الله عز وجل به الإنسان، وصى الله عز وجل خالق الإنسان بوالديه حسنا بما حملت الأم وأرضعت الأم وحنت الأم وبما كفلت وكفل الأب جنينا لا حول له ولا قوة ثم وليدا في المهد ودارجا في مراحل الحياة. وصى الله عز وجل بالوالدين إحسانا وحسنا، لاسيما عند الكبر في سن الضعف والحاجة والافتقار إلى اليد الحانية والقلب العاطف والمعاملة الجميلة الوفية المتحببة” (1) في قوله جل شأنه: وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وأمر سبحانه بصحبتهما بالمعروف وخفض الجناح لهما وعدم إغضابهما وإسخاطهما، ورتب برهما بعد توحيده عز وجل. قال: وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (سورة الإسراء، 23 -24).
إن طاعة الوالدين والبر بهما لمن أعظم الأعمال أجرا وأفضلها عند الله عز وجل، روى الشيخان مرفوعا: “أن عبد الله ابن مسعود قال: يا رسول الله، أيُّ العمل أحبُّ إلى الله تعالى؟ قال: “الصَّلاةُ عَلى وَقْتهَا”، قَالَ: ثُمَّ أيُّ؟ قَالَ: “برُّ آلْوَالدَيْن”، قال: ثمَّ أيُّ؟ قَالَ: “الجهَادُ في سَبيل الله” (2).
“أمُّكَ أمُّكَ”
يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “نستمع إلى كلمة الحق، راجعين من الجدل الهوسي، في وصية الله ورسوله بالأم. قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حسناۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا . حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنَ اشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنَ أعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (سورة الأحقاف، الآية: 14)”.
ويوضح: “المسلمون لله المنتصحون بنصيحة رسول الله، العاملون بوصية شكر من حملت على وَهن وكَره، وأرضعت، وغذّت، ونظّفت، حتى بلغ أشدَّه المسلم، وبلغت أشُدّها المسلمة، دعا الله ودعت لمن ولداها وربياها، وسألته الصلاح في ذريتها ليتصل نسب الدين من جيل لجيل كما هو متصل نسب الطين.
وصية القرآن ذكرت الوالدين وفريضة الإحسان إليهما إجمالا ثم فصلت وأطنبت في الأم ترجيحا لحقها وتقديما. وكذلك رجح وفصَّل وقدر المعلم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة الذي رواه الشيخان، قال: “جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله من أحقُّ الناس بحُسْن صَحابَتي؟ قال أمُّكَ. قال ثُمَّ من؟ قال أمُّكَ. قال ثُمَّ مَنْ؟ قال أمُّكَ. قال ثُمَّ مَنْ؟ قال: أبُوكَ” (3).
يُبر بالأم وتوصل مشركة، ويبر بها بعد موتها كما كان يبر بها في حياتها. روى مسلم والترمذى وأبو داود عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال “بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت، فقال وجب أجرك، وردها عليك الميراث. قالت: يا رسول الله إنها كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحج، أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها” (4).
وكما أوصى الله بالأمهات إحسانا، توعَّد من عقهن، وقَرن بين حرامَين كبيرين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات، ووَأد البنات، وَمنعاً وهات. وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» (5). حرامان متوازيان؛ عقوق الأمهات قتل لآمالهن كما هو وأد البنات إقبار لأجسادهن. وفي الحديث تغطية كاملة لـحُرمة المرأة من لَدُن ولادتها إلى كبر سنها.
وبيّن لنا الصادق الأمين أن الإحسان إلى الأم يرفع الإنسان إلى درجة الغازي المجاهد في سبيل الله، وكمن حج واعتمر؛ عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: “أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي الْجِهَادَ وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَلْ بَقِيَ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: أُمِّي، قَالَ: فَأَبْلِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عُذْرًا فِي بِرِّهَا، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَأَنْتَ حَاجٌّ وَمُعْتَمِرٌ وَمُجَاهدٌ إِذَا رَضِيَتْ عَنْكَ أُمُّكَ، فَاتَّقِ اللَّهَ وَبَرَّهَا” (6).
“أنت ومالك لأبيك”
روى ابن ماجة والبزار والطبراني والبيهقي عن جابر: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله إن لي مالا وولدا وإن أبي يريد يجتاح مالي، فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: أنت ومالك لأبيك”.
فضائل بر الوالدين
من فضائل بر الوالدين أنه:
– سبب في نيل رضى الله تعالى؛ عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “رضى الله في رضى الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين (7).
– يمحو الذنوب؛ يقول الإمام المجدد رحمه الله تعالى: “نشر رسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية وبسطها لتشمل الأم وأقرباء الأم والأب وأصدقاء الأب. يبر بهما بعد موتهما. جاء رجل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله؟ إني أصبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة؟ فقال: هل لك من أم؟ قال: لا، قال: هل لك من خالة؟ قال نعم، قال: فبرها (8).
– سبب لدخول العبد البار إلى الجنة؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: “مَن أصبَحَ مُطيعًا للهِ في والِدَيهِ أصبح لهُ بابانِ مَفتوحانِ مِن الجنَّةِ، وإن كانَ واحدًا فواحدٌ، ومن أمسَى عاصيًا للهِ في والدَيهِ أصبَحَ لهُ بابانِ مفتوحانِ من النَّارِ، وإن كانَ واحدًا فواحدٌ، قال الرَّجلُ: وإن ظلَماهُ؟ قال: “وإن ظَلماهُ، وإن ظَلماهُ، وإن ظَلَماهُ” (9). وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “العبد المطيع لوالديه ولربه في أعلى عليين” (10).
– سبب في انفراج المحن واستجابة الدعاء. ونذكر هنا قصة الثلاثة الذين حوصروا داخل غار في جبل؛ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “بينما ثلاثة نفر يمشون أخذهم المطر، فآووا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فانطبقت عليهم. فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله، فادعوا الله بها، لعله يفرجها عنكم. قال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي أسقيهما قبل بني، وإني استأجرت ذات يوم فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما ناما، فحلبت كما كنت أحلب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما وأكره أن أسقي الصبية والصبية يتضاغون عند قدمي حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلته ابتغاء وجهك فأفرج لنا فرجة نرى منها السماء. ففرج الله فرأوا السماء” (11).
– يطيل العمر ويوسع في الرزق؛ “عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ وَيُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ وَلْيَصِلْ رحمه” (12). وفي كتاب “الترغيب والترهيب” للحافظ أبي موسى المديني، روى من حديث عبد الرحمن بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إني رأيت البارحة عجبا؛ رأيت رجلا من أمتي أتاه ملك الموت عليه السلام ليقبض روحه، فجاءه بر والده فرد ملك الموت عنه”. وروى عن أبي هريرة وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ابن آدم؛ اتق ربك، وبر والديك، وصل رحمك، يمد لك في عمرك، وييسر لك يسرك، ويجنب عسرك، وييسر لك في رزقك”.
قال أحد الصالحين: بر الوالدين يثمر شكرا لله تعالى، قال الله عز وجل: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنُ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (سورة لقمان، الآية 14)، فإذَا برهما فقد شكرهما، ومن شكرهما فقد شكر الله تعالى. وقد قال الله عز وجل وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (سورة إبراهيم، الآية 7)، فهو سبحانه وتعالى يتفضل بالزيادة للشاكرين في الأرزاق المادية والمعنوية.
– النظر إلى الوالدين عبادة: قال النبي صلى الله عليه وسلم “ما من رجل ينظر إلى والديه نظرة رحمة إلا كتب الله له بها حجة مقبولة مبرورة” (13). وفي رواية بلفظ “ما من ولد بار ينظر إلى والديه نظرة رحمة إلا كتب الله له بكل نظرة حجة مبرورة”. قالوا: وإن نظر كل يوم مائة مرة؟ قال: “نعم، الله أكبر وأطيب”. قال العلماء: أكبر: أي أعظم مما يتصور وخيره أكثر مما يحصى ويحصر، وأطيب: أي أطهر من أن ينسب إلى قصور في قدرته ونقصان في مشيئته وإرادته. وقالوا: هو رد لاستبعاده من أن يعطي الرجل بسبب النظرة حجة وإن نظر مئة مرة، يعني الله أكبر مما في اعتقادك من أنه لا يكتب له. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: “النظر في ثلاثة أشياء عبادة؛ النظر في وجه الأبوين، وفي المصحف، وفي البحر” (14). وفي رواية “النظر إلى الكعبة عبادة، والنظر إلى وجه الوالدين عبادة، والنظر في كتاب الله عبادة” (15).
– من بر والديه بره أولاده جزاء وفاقا؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: “بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم” (16). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “عفوا تعف نساؤكم، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم، ومن اعتذر إلى أخيه المسلم من شيء بلغه عنه فلم يقبل عذره لم يرد على الحوض” (17).
وكذلك من عق والديه عقه أولاده، قال الله عز وجل: ومن يعمل سوءا يجز به (سورة النساء، الآية 123). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، فكن كما شئت، فكما تدين تدان” (18). وعن ثابت البناني قال: رأيت رجلا يضرب أباه في موضع، فقيل له: ما هذا؟ فقال الأب: خلوا عنه فإني كنت أضرب أبي في هذا الموضع، فابتليت بابني يضربني في هذا الموضع.
نماذج خالدة في بر الوالدين
مَن مِثلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك وتعليما وتأديبا لنا، يضرب لنا المثَل والأسوة الحسنة لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيا حثيثا، ابتغاء مرضاة الله ورجاء في رحمته، قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (سورة الأحزاب، الآية 21).
“ونجد في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، والمثَل الرائع والمِثال في البِرّ بالوالدين. مات والده صلى الله عليه وسلم قبل ولادته، وماتت أمه وهو ابن ست سنوات. فحضنته بعد حليمة السعدية أم أيمن الحبشية. حاضِنة تولت من شؤون الأمومة أيْسَرَها، فاستحقت من البَرّ الكامل صلى الله عليه وسلم أتَمَّ الإحسان. أيّ إدْلالٍ كان لك على رسول الله يا أمة الله يا أم أيمن! روى مسلم عن أنسٍ رضي الله عنه قال: «انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم أيْمَن، فانطلقتُ معه. فناولته إناءً فيه شراب. قال: فلا أدري أصادفته صائما أم لم يُرِدْهُ. فجعلت تصخَبُ عليه (تصيح عليه) وتذَمَّرُ منه (تتَكره من رفضه لشرابها)». أم أيمن وما أدراكُنَّ ما أم أيمن؟ هاجرت من مكة إلى المدينة مسافة أكثر من 500 كيلومتر وحدها، في حَرِّ الجزيرة العربية، على قدميها. كما روى ذلك ابن هشام، رضي الله عنها.
في حديث مُرسل عند أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا يوما، فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه، فقعد عليه. ثم أقبلت أمه من الرضاعة (حليمة)، فوضع لها شِقّ ثوبه من الجانب الآخر، فجلست عليه. ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه (19).
سيدنا إبراهيم عليه السلام كان والده مشرك، وكان يناديه نداء لطيفا؛ فيه رحمة وتودد وخوف عليه من عذاب الله، يقول الله عز وجل على لسان نبيه: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (46) (سورة مريم).
أدب ودعاء واستغفار وتضرع وحسن ظن بالله من سيدنا إبراهيم لأبيه عسى ألا يكون بدعاء ربه شقيا.
أما عن سيدنا يحيى عليه السلام فقال تعالى: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا، لما ذكر تعالى طاعته لربه، وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقوى، عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما ومجانبته عقوقهما؛ قولا وفعلا وأمرا ونهيا، ولهذا قال: “ولم يكن جبارا عصيا”.
– وقال سبحانه على لسان نبيه عيسى عليه السلام: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) (سورة مريم).
“ولم يجعلني جبارا شقيا” أي: ولم يجعلني جبارا مستكبرا عن عبادته وطاعته وبر والدتي، فأشقى بذلك. قال سفيان الثوري: الجبار الشقي: الذي يُقبل على الغضب.
وكان ابن سيرين إذا كلم أمه كأنه يتضرع، وإذا دخلت أمه يتغير وجهه.
وقال أبو بردة: “إن رجلاً من أهل اليمن حمل أمه على عنقه، فجعل يطوف بها حول البيت، وهو يقول:
إني لها بعيرها المدلل
إذا ذعرت ركابها لم أذعر
وما حملتني أكثر
ثم قال: أتراني جزيتها؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: لا، ولا بزفرة واحدة من زفرات الولادة”.
وكان زين العابدين كثير البر بأمه، حتى قيل له: “إنك من أبرّ الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة؟ فرد عليهم: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها؛ فأكون قد عققتها”.
وسئل أبو عمر عن ولده ذر فقيل له: كيف كانت عشرته معك؟ فقال: “ما مشى معي قط في ليل إلا كان أمامي، ولا مشى معي في نهار إلا كان ورائي، ولا ارتقى سقفاً كنتُ تحته” .
وعن ابن عون المزني أن أمه نادته، فأجابها، فعلا صوتُه صوتَها فأعتق رقبتين.
وعن أبي مُرَّة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بـالعقيق فلما دخل أرضه صاح بأعلى صوته: “السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا أماه، تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، يقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرًا، فتقول: يا بني! وأنت فجزاك الله خيرًا ورضي عنك كما بررتني كبيرًا”.
بر لا ينقطع
لا ينقطع بر الوالدين حتى بعد موتهما؛ روى مسلم عن ابن عمر أن رجلا من الأعراب لقيه بطريق مكة فسلم عليه عبد الله ابن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلت له: أصلحك الله إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير، فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن أبر البر صلة الولد ود أبيه”.
وفي حديث آخر قال عليه السلام: “من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده” (20).
ويروى أن رجلا من بني سلمة قال: “يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما بعد موتهما؟ فقال: نعم. الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما”.
“نشر رسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية وبسطها لتشمل الأم وأقرباء الأم والأب وأصدقاء الأب. تبرهم المومنة بعد موت الوالدين. جاء رجل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: “يا رسول الله ! إني أصبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة؟ فقال هل لك من أم؟ قال: لا، قال هل لك من خالة؟ قال نعم، قال: فبرها” (21).
وفقنا الله المتفضل إلى البر بهما والإحسان إليهما.
الإحالات:
(1) انظر وصية الإمام عبد السلام ياسين:
https://www.yassine.net/ar/2015/12/وصية-الإمام-المجدد-عبد-السلام-ياسين-رح/
(2) رواه الشيخان.
(3) تنوير المومنات لعبد السلام ياسين، ج2، ص 213. الرابط على موسوعة سراج:
http://siraj.net/تنوير-المومنات-ج-2-666.212.html#page/212
(4) رواه الترمذي.
(5) رواه الشيخان عن المغيرة بن شعبة.
(6) البر والصلة لابن الجوزي، الْبَابُ الثَّامِنُ فِي تَقْدِيرِ الْأُمِّ فِي الْبِرِّ، الحديث 48.
(7) أَخْرَجَهُ التِّرمذيُّ، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ والحاكِم. البر والصلة، م. س. (4/13).
(8) تنوير المؤمنات، م. س. ج2. ص 214.
(9) رواه عبد الله بن عباس، نقله ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان.
(10) الجامع الصغير من حديث البشير النذير، باب: حرف العين، ج 2، ص 109.
(11) كِتَاب الْأَدَبِ، باب إِجَابَةِ دُعَاءِ مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ، رقم الحديث: 554.
(12) مسند أحمد.
(13) البيهقي في شعب الإيمان.
(14) رواه أبو نعيم.
(15) رواه أبو داود.
(16) رواه الطبراني.
(17) رواه الطبراني.
(18) المقاصد الحسنة فيما اشتهر على الألسنة، الديلمي، رقم الحديث 796.
(19) تنوير المومنات، م. س. ج2، ص213، الرابط على موسوعة سراج:
http://siraj.net/تنوير-المومنات-ج-2-666.212.html#page/215
(20) رواه ابن حبان في صحيحه.
(21) تنوير المومنات، م. س. ج2، ص 216. الرابط على موسوعة سراج:
http://siraj.net/تنوير-المومنات-ج-2-666.216.q.+نشر+رسول+الله+صلى+الله+عليه+وسلم+الوصية+وبسطها+لتشمل+الأم+وأقرباء+.html#page/216