من وصلها وصله الله

Cover Image for من وصلها وصله الله
نشر بتاريخ

اهتم الإسلام بالرحم، وأمر ببرها ووصلها، وجعل ثوابها عظيما، لأن السعادة لا تتحقق للإنسان بمفرده، وإنما بوجوده بين الجماعة، فبصلة الأرحام توثق عرى الإسلام وتشد أصوله في هذا الشتات المجتمعي الذي نعيشه.

جاء في حديث متفق عليه أن أبا سفيان لما سأله هرقل عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم قال: “فما يأمركم به نبيكم؟ فأجابه، يقول: “اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة. يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ، واحِدَةٍ، وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (النساء: 1).

“تسّاءلون: تُسألون عن الرحم الآدمية هل أديتم حقها. في مقدمة حقها البلاغ والبيان والشهادة بالسلوك النموذجي والإحسان، والجهاد الدائم لكشف عوائق الظلم حتى يسَمع الناس جميعا كلام الله” (1).

تعريف الأرحام

الأرحام هم من ترتبط بهم بصلة القرابة والنسب، وهم على التوالي:  الآباء والأمهات والأجداد والجدات، ثم الأولاد وأولادهم من الذكور والإناث، ثم الإخوة وأولادهم ذكوراً وإناثا، ثم الأعمام والأخوال والخالات والعمات وأولادهم، ثم الأقرب فالأقرب..

بم تكون صلة الرحم؟

– تبادل الزيارات.

– مشاركة الأفراح والأحزان.

– إصلاح ذات بينهم عند وقوع المشاحنات والخصامات والبغضاء.

– رد الأذى والسوء عنهم.

– تفقد أحوالهم.

– احترام الكبير والعطف على الصغير.

– تبادل الهدايا معهم.

– عيادة المرضى منهم.

– حضور جنازاتهم والصلاة عليهم.

وفي الحديث الذي رواه البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما يبين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم صلة الرحم في أبسط أشكالها وأقلها كلفة فيقول: “صلــــوا أرحامكم ولو بالسـلام”. قال القاضي عياض رحمه الله: “لا خلاف في أن صلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتها معصية كبيرة. والأحاديث تشهد لهذا. ولكن الصلة درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة، وصلتها بالكلام ولو بالسلام ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة. فمنها واجب، ومنها مستحب. فلو وصل بعض الصلة ولم يصل إلى غايتها لا يسمى قاطعا. ولو قصر عما يقدر عليه لا يسمى واصلا”.

عقوبة قاطع الرحم

لقد تساهل الناس في الرحم وما ذاك إلا بسبب جهلهم بجسامة هذا الإثم. روى البخاري ومسلم والترمذي عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “لا يدخل الجنة قاطع”، قال سفيان: (يعني قاطع رحم).

وقاطع الرحم يعجل الله به العقاب في الدنيا قبل الآخرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من ذنبٍ أجدرُ أن يعجِّل اللهُ تعالى لصاحبه العقوبةَ في الدنيا، مع ما يدِّخر له في الآخرةِ مثل البغيِ وقطيعةِ الرحمِ” (2).

 كما لا يتقبل الله عمل قاطع الرحم؛ روى أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إنَّ أعمالَ بني آدمَ تُعرضُ كلَّ خميسٍ ليلةَ الجمعةِ فلا يُقبلُ عملُ قاطعِ رَحِمٍ” (3).

 بل يحرم المجلس الذي فيه قاطع الرحم من رحمة الله؛ روى الأصبهاني من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: “كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا يجالسنا اليوم قاطع رحم. فقام فتى من الحلقة فأتى خالة له قد كان بينهما بعض الشيء فاستغفر لها واستغفرت له، ثم عاد إلى المجلس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الرحمة لا تتنزل على قوم بينهم قاطع رحم”.

 كما يحرم القوم الذين بينهم قاطع الرحم من نزول الملائكة؛ روى الطبراني مختصرا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الملائكة لا تتنزل على قوم بينهم قاطع رحم”.

بل إن دعاء القوم لا يقبله الله ما دام فيهم قاطع رحم؛ روى الطبراني ورواته محتج بهم في الصحيح من حديث الأعمش قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه جالسا بعد الصبح في حلقة فقال: “أنشد الله قاطع رحم لما قام عنا، فأنا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبواب السماء مرتجة مغلقة دون قاطع الرحم”.

كما لا يقبل الله صدقة الفرد وأقرباؤه في حاجة إليه؛ روى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “… يا أمة محمد، والذي بعثني بالحق لا يقبل الله صدقة من رجل وله قرابة محتاجون إلى صلته ويصرفها إلى غيرهم، والذي نفسي بيده، لا ينظر الله إليه يوم القيامة”.

جزاء واصل الرحم

كما للقطيعة نتائج وخيمة، لصلة الرحم ثمرات طيبة يجنيها المؤمن:

صلة الرحم شعار الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لما روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”.

صلة الرحم تزيد في العمر وتوسع الرزق؛ روى البخاري والترمذي (وهذا لفظه)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “… حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم إذا تواصلوا”.

وهي تدفع عن الواصل ميتة السوء؛ لما روى أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: “من سره أن يمد له في عمره، ويوسع له في رزقه، ويدفع عنه ميتة السوء، فليتق الله وليصل رحمه”.

وهي تعمر الديار وتثمر الأموال؛ لما روى الطبراني والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله ليعمر بالقوم الديار، ويثمر لهم الأموال، وما نظر إليهم منذ خلقهم بغضا لهم، قيل وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: بصلته الرحم”.

وهي أيضا تغفر الذنوب وتكفر الخطايا؛ لما روى ابن حبان والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إني أذنبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة؟ فقال: هل لك من أم؟ قال: لا، قال: فهل لك من خالة؟ قال: نعم، قال: فبرهــا”.

و صلة الرحم تيسر الحساب وتدخل صاحبها الجنة؛ لما روى البزار والطبراني والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”ثلاثة من كن فيه يحاسبه الله حسابا يسيرا وأدخله الجنة برحمته، قالوا: وما هي يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ قال: تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك، فإذا فعلت ذلك يدخلك الله الجنة”.

وهي ترفع الواصل إلى الدرجات العلى يوم القيامة؛ لما روى البزار والطبراني عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: تحلم على من جهل عليك وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك”.

فهل تكون هممنا عالية فنثبت رواسي أسرنا ونجعلها الملجأ الآمن الذي تشد إليه الرواحل، قال ابن القيم رحمه الله: “إن القوم ليتواصلون فتكثر أموالهم ويكثر عددهم، وإن القوم ليتقاطعون فتقل أموالهم ويقل عددهم”.

لنفتح بيوتنا لصلة الرحم بوليمة خفيفة يذهب تعبها حينما تجتمع حولها قهقهات الصغار وحب الكبار، لا ننتظر حتى يرفرف حمام السلام على أفرادها وتكون عائلة ملائكية، بل نكون أول من يعض بالنواجذ على لذة الصلة ومتعتها، حينئذ تصبر العائلة على بعضها وتتحمل أخطاء بعضها، لكي يبقى البنيان ثابتا واللحمة قوية.

صلة الرحم هي صلة للرحمان، وخفض الجناح بين الأحباب ليس ذلا بل رفعة على بساطه عز وجل، والتودد للأحباب ليس نفاقا بل محبة قلبية خالصة. صلة الرحم عزنا في الدنيا ومددنا في الآخرة.


(1) عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، ط 2018/1، ص 358.

(2) صحيح أبي داود، 4902.

(3) أخرجه الألباني، إرواء الغليل، 105/4، إسناده ضعيف [وقد حسنه في صحيح الترغيب 2538].