ارتضى الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة الإسلامية دينا وشرعة، واختار سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لها منهاجا وسبيلا، فدلهم بهما على الخير كله، ونبههم بما وضع من صوى ومعالم يهتدون بها في ظلمات الجهل والضلال والتيه، ويحتمون بهما في عتمات الفتن والنزاعات، ويسلكون إليه في ارتقاء وسمو.
وكان مما أقرته السنة النبوية الشريفة، واجبات هي على المسلم فروض معنوية وعملية، يحافظ عليها حفاظه على متطلباته المادية، الأكل والشرب واللباس، بل ويزيد اهتماما وعناية، لفناء تلك وإن أقامت أوده ليستعين على حاجاته الباقية، ولأن هذه الواجبات زاده العابر به إلى نيل رضى ربه المحتسب، ولبقاء حظه من الآخرة وانتفاعه به إن كان صلاحا وبرا.
وتبرز لنا قضيتان هامتان من واجبات المسلم، يحددهما الحديث الذي رواه الحاكم عن ابن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أصبح وهمه غير الله فليس من الله. ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم” 1 وكذا الحديث النبوي الشريف الذي رواه الطبراني عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من أصبح وهمُّه الدنيا فليس من الله في شيء. ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم. ومن أعطى الدنية من نفسه طائعا غير مكره فليس منا”.
فالمسلم بمنطوق الحديثين يهتم في حاله وسعيه المتواصلين بأمرين اثنين: الاهتمام بأمر الله طاعة وتقربا وسعيا دؤوبا إلى نيل رضاه بالفرض والنفل وما ينفعه في عاجل أمره وآجل، مقبلا عليه شبرا شبرا وذراعا ذراعا، يأتي من الأعمال الصالحة ما يرفع درجاته عند الله في مقامات الإحسان. وهذا يكون في خاصة نفسه، إنه عمل فردي جهادي متواصل يستعين فيه بصحبة طيبة دالة على الله ومرشدة إليه، وباعثة هممه على ذلك. فالسفر البعيد يحتاج إلى زاد وصاحب صالح هو دليله في الطريق، والمعين له على السلوك.
والثاني مرتبط بالهم الأول ومترتب عنه، وهو الاهتمام بأمر المسلمين، والتهمم بقضاياهم ومشاكلهم، ومن تجليات ذلك ومظاهره: الفرح لأفراحهم ومسراتهم، والحزن لمصائبهم ونوائبهم، من منطلق قوله تعالى: إنما المؤمنون إخوة 2 .
وهذا مبدأ التفاعل بين المسلم وأخيه المسلم، جارا أو صديقا أو أخا أو وزوجا أو زوجة، قريبا أو بعيدا في النسب والسكن والوطن، وإنّ وطن المؤمن عقيدته، وما تحيل عليه من امتداد أخوي عبر الأقطار والحدود والأزمنة والعهود، وما هذه الرقع الجغرافية إلا صناعة استعمارية، بها شتت الأعداء أمة الإسلام ومزقوا أوصالها لحاجة في أنفسهم.
ومما يؤسف له ويبعث على الحيرة، تصريح الكثيرين من المسلمين، يرون أنفسهم في منأى عن المصائب والفتن، ويرون إخوانهم المسلمين يعذّبون ويقتّلون ويهجّرون ويجوّعون، وتصيبهم كل بلايا الدنيا، ثم يدعون أنهم “والحمد لله” في أمن وعافية وسلامة و”استثناء”، فكيف يكون للمسلم هناء وراحة بال، وهو يرى إخوانه في مشارق الأرض ومغاربها يعانون من كل أشكال القهر والفقر والتشريد واللجوء والإقصاء؟ وكيف يرتاح قلبه المؤمن ويطمئن، وهو يرى بلاد المسلمين مختلفة على نفسها، كل واحد في واد إلا ما اتفق عليه “أولياء أمورهم” من محاصرة الإسلام وأهله الصادقين المخلصين الراجين عودته نقيا للعمل به كبديل للنظم الجائرة؟
إن من واجبات المسلم وفروضه الشرعية في هذه الظرفية العصيبة التي تمر منها الأمة التهممَ بأمر المسلمين المصيري، في إطار الولاية العامة بينهم والدال عليها قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 3 يتناصرون ويتعاونون ويتراحمون ويتعاضدون كأنهم بنيان متراص قوي العمد متين الأسس، كما جاء في الصحيح: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه” 4 وكأنهم جسد واحد متعاضد كما جاء في الصحيح: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر” 5 فهذه الولاية قرب بين المؤمنين وتناصر وأخوة ووحدة الأمر الجامع بينهم) 6 .
وبذلك يرتبط مصير الفرد المسلم ارتباطا قويا بمصير أمته من خلال الاهتمام بأمره أولا وعلاقته بربه والاجتهاد في ذلك، ثم جعل ذلك خدمة لمصير أمته وسعيا لرفع ما يصيبها من ضرر وأذى تقتضيه الضرورة الشرعية في أبعادها الروحية والأخلاقية والتربوية. إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير 7 .