من محنة الإبتلاء إلى منحة الإصطفاء

Cover Image for من محنة الإبتلاء إلى منحة الإصطفاء
نشر بتاريخ

المعجزة هي حدث غير متوقع خارج عن المألوف يخرق قوانين الطبيعة، يجعله الله سلاحا لأنبيائه كي يتحدوا به قومهم.

والله عز وجل الذي خلق هذا الكون بعظمته ودقته قادر سبحانه على أن يضيف فيه وينقص ما يشاء.

وقد أجرى سبحانه على أيدي أنبيائه العديد من المعجزات منها ما قصد به الإبهار ومنها ماقصد به الإقناع أو التحدي…إلا معجزة الإسراء والمعراج التي جاءت فقط لتثبيت قلب سيد الخلق وحبيب الحق عليه أفضل الصلاة والسلام وتطمينه وتكريمه.

ورغم وجود اختلاف بين العلماء حول تاريخ وقوع هذه المعجزة إلا أننا نستغل فرصة حلول أحد هذه التواريخ وهو ليلة 27 من شهر رجب كي نتذكر معا فصول هذه الرحلة النورانية بما فيها من دلالات كبرى ومنارات عظمى نستنير بها في دروب حياتنا ومنعطفات أيامنا ومدلهمات خطوبنا…

ولا يمكن التطرق إلى تفاصيل هذه المعجزة التكريمية دون الإطلاع على الظروف التي كانت محيطة بها حتى يتبين لنا جليا الحكمة من حدوثها.

فالمعجزة كما نعلم جميعا جاءت بعد سلسلة من الأحداث المؤلمة والوقائع المريرة التي تلاحقت وألقت بثقلها وآثارها على الحبيب عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام.

فبعد مرارة القطيعة التي عاناها المصطفى عليه الصلاة والسلام وسنوات الحصار ومعاناة الجوع في الشعب، جاءت فجيعة موت أبي طالب النصير المدافع والمساند السياسي والإجتماعي للحبيب عليه الصلاة والسلام، ثم وفاة الغالية أمنا خديجة المواسية لجراح قلبه ومسانده النفسي والمشاركة له في حمل أعباء الدعوة ومسؤولية الرسالة، لتشتد بعد ذلك السخرية والإستهزاء والإذاية من قريش، وليختتم المشهد بهجرة الطائف التي كذبه أهلها وآذوه وحرضوا صبيانهم ليرموه بالحجارة حتى أدموا قدماه الشريفتين.. وهنا توجه الحبيب إلى حبيبه بالدعاء والتضرع، ذاك الدعاء الذي أصغت إليه الدنيا بأسرها “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي..”.

لتتحرك بعد ذلك جيوش النصرة الغيبية والتأييدات الإلهية على شكل معجزة هي معجزة الإسراء والمعراج التي جاءت لتخرج الحبيب عليه الصلاة والسلام من كل تلك الأحزان، بل لتخرجه من الأرض بكاملها إلى رحاب السماء، ومن الدنيا بكل همومها إلى الآخرة بكل نعيمها،

لذا كانت الرحلة من أولها إلى آخرها عبارة عن فقرات تكريمية واحتفالية غير مسبوقة فيها تم إعلان سيادة الحبيب عليه الصلاة والسلام على سائر الأنبياء والمرسلين حيث صلى بهم إماما في بيت المقدس، وفيها تم ترحيب السماوات به وتشريفها له وفرح الأنبياء بقدومه، كما طاف عليه الصلاة والسلام في الملأ الأعلى وشاهد عجائب من خلق الله وآياته وقدرته واطلع على الجنة والنار وأهلهما ليصل في نهاية المطاف إلى سدرة المنتهى والبيت المعمور ليخصه المولى عز و جل بهدية الصلاة مكافأة له….

كل هذا يدل على أن المعجزة كانت منحة إلهية ومكافاة ربانية للنبي المجاهد والرسول الصابر المحتسب كي يخبره المولى جل في علاه أنه عليه الصلاة والسلام تحت السمع والبصر وأن العناية الإلهية لن تفارقه أبدا….

وقد أشار المولى عز وجل إلى هذه المعجزة في كتابه العزيز في أوائل سورة الإسراء وكذلك في أوائل سورة النجم..

وبما أن المجال لا يسع لذكر كل تفاصيل

المعجزة فسنكتفي فقط بالتذكير بأهم العبر والدروس التي نستنبطها منها

ولعل أول ما يطالعنا من هذه الدروس:

– عنصر التأييد الغيبي لعباد الله المؤمنين وجنده المخلصين وكيف أن الله يتجلى لهم في ساعات الشدة بعد استفراغهم لأقصى الجهود وبذلهم لكل الطاقة الممكنة واتخاذهم لكل الأسباب الدنيوية.

– أن الإبتلاء سنة الله مع محبيه إلى قيام الساعة وأن مع العسر يسرا وأن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وأن بالشدائد تختبر معادن الرجال ويمتحن الإيمان.

– أهمية بيت المقدس حيث جعله الله مكانا لانطلاق رحلة المعراج، وفي ذلك رسالة واضحة مفادها أن هذه الأرض المباركة تحدد قوة المسلمين من ضعفهم، فيوم تكون لهم فهم سادة الدنيا وقادتها ويوم تكون بيد عدوهم فهم ضعفاء مقهورون، وكما علا الحبيب عليه الصلاة والسلام منها إلى الله فنحن بها تعلو مكانتنا ويرفع قدرنا، فذكرى الإسراء والمعراج إذن تهتف بالمسلمين جميعا أن ولوا وجوهكم شطر المسجد الأقصى الأسير لترفعوا عنه الضيم وتفكوا عنه القيد وإلا فالله سائلنا عن هذه الأمانة الغالية.

– ضرورة الإيمان بوحدة رسالة السماء والأخوة بين الأنبياء وأن رسالة الإسلام رسالة عالمية ختم الله بها جميع رسالاته وخص صاحبها عليه الصلاة والسلام بالمكانة العظمى والمنزلة الكبرى.

– أهمية الصلاة وأهميتها حيث فرضت من فوق سبع سماوات وبلا واسطة فهي إذن عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين، وهي الهدية الكريمة التي جعلها الله معراجا للمسلمين في كل يوم بها تعرج القلوب إلى خالقها والنفوس إلى باريها…

هذا غيض من فيض دلالات هذه الرحلة العظيمة فنسأل المولى أن ينفعنا بها وأن ينقلنا كما نقل صاحبها من محنة الإبتلاء إلى منحة الإصطفاء.