من مجتمع الدولة إلى دولة المجتمع: السياسات الاجتماعية في الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان

Cover Image for من مجتمع الدولة إلى دولة المجتمع: السياسات الاجتماعية في الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان
نشر بتاريخ

حظيت المسألة الاجتماعية بالمغرب باهتمام كبير من لدن مختلف المهتمين والمتدخلين، حيث ظل الخطاب الرسمي يؤكد أن السياسات المتعلقة بالشأن الاجتماعي تحوز حصة الأسد من مختلف السياسات العمومية للبلد، كما لم تغب عن أذهان وإنتاجات الباحثين الأكاديميين، ومراكز الأبحاث والدراسات.

إن مسألة بهذه القيمة والمكانة لم يكن لتغيب عن الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان بما هي وثيقة تقدم “المقترحات السياسية للجماعة”، دون أن تظل في “مستوى الخطاب الاستراتيجي العام” والتشبث بالتصورات النظرية الأكاديمية المجردة، التي قد يحسبها البعض متعالية عن الواقع المعيش وهموم المغاربة، ومن جهة أخرى لم تستغرق إلى حدود “المستوى التنفيذي التفصيلي” نظرا لما يقتضيه هذا الأخير من ولوج كامل للمعطيات والدقة في المعلومة، بالإضافة إلى نفسه الانتخابي، هذا النفس الذي حرصت قيادة الجماعة في بداية الندوة التقديمية للوثيقة السياسية على نفيه بالبت والمطلق عن خلفيات إصدار الوثيقة.

فكيف قاربت جماعة العدل والإحسان السياسات الاجتماعية من خلال وثيقتها السياسية؟

يعتبر مفهوم السياسات الاجتماعية من المفاهيم المتغيرة حيث تتعدد تعاريف الباحثين في العلوم الاجتماعية، على اختلاف اتجاهاتهم البحثية ومدارسهم الفكرية للسياسات الاجتماعية، لكن يمكننا تركيبها في التعريف الذي يعتبرها “مكونا أساسيا من مكونات السياسة العامة في المجتمع […] وتهدف إلى تحقيق قدر متزايد من العدالة الاجتماعية، عن طريق توفير الخدمات المتنوعة والمتكاملة لأفراد المجتمع ككل، وتقدم للفئات الأكثر احتياجا على وجه الخصوص” 1، يمكننا إجمالا تعريف السياسات الاجتماعية تعريفا إجرائيا بكونها كل السياسات الهادفة إلى تحقيق “الرفاه الاجتماعي” للمواطنين من خلال مختلف المداخل كالتعليم، والصحة، والتشغيل، والإسكان…

يصعب الإحاطة بكل المقترحات الإجرائية والأفكار التي تم التعرض فيها لموضوع السياسات الاجتماعية بالوثيقة السياسية للجماعة، لسبب وحيد يكمن في حضور هذه السياسات كبعد أو موجه للسياسات العامة في كليتها، لا مجرد إجراءات إدارية محدودة.

لم تحصر جماعة العدل والإحسان المسألة الاجتماعية في الجانب التقني الإجرائي المجرد بل اعتبرتها محددا كليا لمشروع الدولة، وهو ما ترجمته في شعار “من مجتمع الدولة إلى دولة المجتمع”، واستمرت الوثيقة في الشرح “ننشد دولة المجتمع، أي الدولة التي تجعل أولى أولوياتها خدمة المجتمع وضمان أمنه واستقراره، والسعي الدؤوب للرقي به بعيدا عن أي تمييز بين أبنائه” 2.

إن هذه الخلفية تكتسي أهمية كبيرة في تحديد تصور جماعة العدل والإحسان للسياسات الاجتماعية، نظرا للمركزية التي أولتها إياها؛ حيث جعلت الدولة في كليتها خادمة لهذه الغاية المتمثلة في تحقيق ما يتعارف عليه الباحثون في العلوم الاجتماعية بـ”دولة الرفاه الاجتماعي”، إلا أن الوثيقة لم تتوقف عند هذا التقديم النظري بل تجاوزته إلى اقتراح مداخل إجرائية يمكننا إجمالها في المعالم الكبرى الثلاث التالية:

1- الارتقاء بالسياسات الاجتماعية من مستوى “الصدقات والتدابير الموسمية” إلى مستوى “الاستراتيجية الواضحة”: بداية من “التزام الدولة بمحاربة الفوارق الاجتماعية والمجالية 3” وعدم ترك هذه المهمة للرغبة أو الشروط أو الظروف.. ويتجلى هذا الالتزام في الحد من “اختلال عميق في ميزان توزيع الثروة، وتزايد الهوة بين الطبقات الاجتماعية المغربية” 4، من خلال “إصدار ميثاق اجتماعي في إطار توافق وطني حقيقي، يحمي المسألة الاجتماعية من المزايدات السياسية، ويمنح الأمان الاجتماعي للمغاربة، ويتيح الحد الأدنى الضروري للحياة الكريمة للمواطنين” 5.

2- من واقع الفوارق الاجتماعية إلى العدالة الاجتماعية: حظيت مسألة محاربة الفوارق الاجتماعية بحيز كبير في الوثيقة السياسية، على قدر حجمها في الواقع المعيش للمغاربة، فمن محاربة الفوارق على مستوى المجال، إلى الفوارق بين الطبقات، والفوارق في الأجور، إلى الفوارق التربوية التي تخرجها المدرسة المغربية… بداية من “إضفاء مضمون اجتماعي على قضية إعداد التراب” 6 ومراجعة التقسيم الترابي الحالي الذي “يركز الخدمات والمقومات الاجتماعية في المركز الذي يقتصر على أقطاب عمرانية محدودة، مقابل المحور خصاص مهول في المجالات الهامشية” 7، إلى “التقليل من الفوارق الطبقية عن طريق إيجاد معايير جديدة لتحديد الدخل ومراقبته، والعمل على دعم وتنويع مسالك الارتقاء الاجتماعي، وذلك بتنويع فرص العمل وفسح المجال للتكوين المستمر والمتنوع” 8، وصولا إلى “توحيد الخدمات الأساسية، خاصة الصحة والتعليم والسكن، والتقليص إلى أبعد الحدود من الفوارق في الجودة بين القطاعين العام والخاص” 9.

3- ترسيخ خلقي التضامن والتطوع وتنظيمهما كدعامة للتنمية الاجتماعية: وذلك عبر “تشجيع ودعم مختلف أشكال التطوع التي تصب في ترسيخ الحماية الاجتماعية” 10 و”تحفيز وتشجيع التضامن العفوي والمنظم” 11، خصوصا عند الشباب فـ”تنمية روح التطوع والشعور بالانتماء. فلا معنى لبرامج وسياسات لا يساهم الشباب في اقتراحها وصياغتها والاقتناع بجدواها والانخراط فيها والعمل على التعبئة لها في أوساط الشباب” 12.

ختاما، حاولت هذه المقالة تقديم قراءة عامة في التصور الذي تقدمه جماعة العدل والإحسان للسياسات الاجتماعية من خلال وثيقتها السياسية، وقد أجملته في ثلاث عناوين كبرى، غير أنها لا تزعم حصر هذا الإلمام بكل تفاصيل التصور الكلي للمسألة الاجتماعية في الوثيقة السياسية للجماعة، استحضارا للفكرة المركزية التي تم ذكرها من كون الجماعة اعتبرت الدولة وسياستها كلها ينبغي أن تكون خادمة للمجتمع، وبالتالي فالنفس الاجتماعي حاضر في مختلف الإجراءات والمقترحات التي قدمتها الوثيقة، إضافة إلى ما تتسم به الوثيقة من نسقية في طروحاتها كما تم التعبير عنه في مقدمة الوثيقة: “من الجدير بالتأكيد أن ما نطرحه من مداخل واقتراحات غير مفصولة عن بعضها، وإنما يحكمها تكامل الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية في نسق واحد، إذا اختل أحد عناصره اختل النسق بكامله” 13.


[1] طلعت مصطفى السروجي، السياسة الاجتماعية في إطار المتغيرات العالمية الجديدة، 2004، القاهرة، دار الفكر العربي، ص 19.
[2] الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان، ص 33.
[3] نفسه، ص 42.
[4] نفسه، ص 130.
[5] نفسه، ص 131.
[6] نفسه، ص 134.
[7] نفسه، ص 130-131.
[8] نفسه، ص 132.
[9] نفسه، ص 134.
[10] نفسه، ص 132.
[11] نفسه، ص 132.
[12] نفسه، ص 161.
[13] نفسه، ص 11.