هذه مجموعة قصص سمعتها من أصحابها، وها أنا ذا أحكيها على لسانهم -مع بعض التصرف- مستعملا الضمير المتصل “تُ” عوض الضمير المنفصل “هو”.
كان أبي منجّدا يزيّن البيوت بالسُّتور والفُرُش ويحشو الوسائد والحَشايا ويخيطها، وتاجرا يبيع كلّ ما يتعلّق بذلك.
حينما تقدّم في السنّ ترك عمله لأخي الأصغر ومعه بعض العمّال، ثمّ أصبح يقضي يومه كلّه مع أصدقائه من أصحاب محلات التجارة في حيّنا الشعبي المتواضع يلعبون بالورق وغيره، لا يملّون ولا يسأمون.
كان بعض رفاق أبي من المصلّين وبعضهم الآخر تاركون لعمود الدين. وكان أبي من هذه الفئة الأخيرة التي لا تتوضأ، ولا تصلي، ولا تسمع القرآن إلا في المآثم وحفلات التأبين. لكنّه مع ذلك كان رجلا يحرص على أكل الحلال.
كبرتُ في بيئة أبي.. فكنت مثله.
وانتشلتني يد العناية الربّانية من بيئة الغفلة هاته، ودخلت عالم الشّغل بعد إكمال دراستي، فالتقيت شبابا صالحين أخذوا بيدي ودلّوني على طريق الفلاح.
وبعدما شققت طريقي معهم نحو ربّي، وأصبحت محافظا على الصلاة، تاليا للقرآن، ذاكرا لله تعالى، أصبح كلّ همّي هو كيف أجرّ أبي من مستنقع الضياع؟ كيف آخذ بيده وأقنعه بأن سويعات عمره تذهب هباء، وتضيع هدرا؟ كيف أستطيع إقناعه بإقامة الصلاة والمحافظة عليها؟…
حاولت جاهدا مع أبي لكنّه كان ينظر إليّ على أنّني لست سوى ابنه الصغير، فيعاملني باستصغار، ولا يعطي كلامي أيّ اعتبار.
وكلّما ازددت إصرارا على دعوته، ازداد هو تشبّثا بغفلته وممانعته، وجعل أصبعيه في أذنيه، واستغشى ثيابه واستكبر استكبارا.
ولمّا لم تجْدِ محاولاتي نفعا، استعنت بإمام المسجد، وكان أبي يوقّره ويحترمه، فلمّا كلمه دخل عليّ البيتَ غضبان أسفا وقال: «شكوتني إلى إمام المسجد ! والله لن أصلّي أبدا…».
أمام هذا الإحباط المتكرّر، لجأت إلى حيلة لا يستطيع أبي مقاومتها.
جئته يوما في موعد التسجيل لقرعة الحجّ، وهو يلعب الورق من أصحابه، وقلت له في أّذنه: «أبي الحبيب؛ ألا تريد حجّ بيت ربّك، وزيارة نبيك وحبيبك؟».
أفاق من غيبوبة تركيزه على اللعب، وحملق في وجهي بعينين جاحظتين وقال: «ماذا تقصد؟».
قلت: «أقصد أن تسجّل نفسك في قرعة حجّ العام المقبل إن شاء الله تعالى».
قال: «أتهزأ بي؟ أنا لا أملك ثمن خبزة، وأنت تقول اذهب إلى تازة. أو تظن أنّ الحجّ لعبة؟ قم وسجّل نفسك في قرعة الحجّ… والله هذا عين الهبل!».
قلت: «لا تشغل نفسك بمسألة المال، أنت فقط اذهب إلى مركز التسجيل وافعل ما عليك فعله، والله تعالى يتولى الباقي».
قال: «متى أذهب؟»
قلت: «إن شئت الآن نذهب سويا».
ولأول مرّة لا يعارضني أبي، ويقوم معي، فأنطلق به أمسك يده وكأنّه طفل ودود. وسجلنا اسمه بحمد الله وعدنا.
كان مجلس لهوهم ما زال منعقدا، فعاد إلى مكانه بين أقرانه، وأكمل اللعب.
ومرّت الأيام، ونسي أبي مسألة الحجّ. فلما كان موعد السحب دعوت الله تعالى بإلحاح أن يقبل أبي في بيته ويجعل حجّه سبب توبته.
وفي يوم القرعة المخصص لمقاطعة حيّنا، كنت أنتظر النتائج على أحرّ من الجمر. وبينما أنا في العمل وعقلي مع القرعة، ناداني عون السلطة وقال: «أبشر، فأبوك في لائحة المقبولين».
طرت فرحا، دمعت عيناي، قصدت سجادتي، كبّرت وصليت ركعتين شكرا لربّ البيت الذي أذن لأبي في أن يكون ضيفه.
لم أكمل ساعات عملي ذاك اليوم، خرجت مسرعا بعدما استأذنت رئيسي وانطلقت فرحا أحمل البشرى لأبي.
وجدته كعادته جالسا على كرسيه القصير الذي تفنّن في صنعه حتى لا يؤلمه من طول الجلوس، وحلقة علمه مع أصدقائه مكتملة، وبعضهم قد علّق غصن شجرة على أذنه، وآخرون قد علّقوا غصنين أو ثلاث، علامة على أنّهم قد هزموا مرّة أو مرتين أو أكثر في لعب الورق.
همست في أذنه: «ألم تذهب؟»
قال: «أين؟»
قلت: «لمقر البلدية حيث تجرى القرعة»
قال: «أهي اليوم؟»
قلت: «نعم»
قال وهو منهمك في اللعب: «لا أظنّ أنّني محظوظ لدرجة أن أفوز في القرعة!».
قلت: «بلى! أنت محظوظ، فقم بنا إلى المقاطعة لنرى اللوائح».
التفت إليّ مبهورا، وقام معي يحثّ السير حتى وصلنا إلى المقاطعة التي لم تكن بعيدة عن مكان عمله.
وكم كانت فرحته عظيمة حينما جاءه عون السلطة يزفّ إليه البشرى ويُقبّله ويقول له: «مبارك عليك يا حاج، فرحنا لأجلك كثيرا».
نظر إليّ نظرة لا أعرف كيف أصفها؛ نظرة اختلط فيها الفرح بمعاتبة النفس بالعطف الأبوي على ابن كان السبب في هذه المنّة… كلّ لغات العالم ما تستطيع وصف تلك النظرة بالدقة التي توفيها حقّها من اللفظ والمعنى والمشاعر والأحاسيس.
دخلنا المقاطعة ووقفنا أمام اللوائح وبحثتُ عن اسم أبي -ليطمئنّ قلبه- وقلت له: «ها هو اسمك يا أبت، ها هو ذا».
تعانقنا وبكينا حتى اختلطت دموعنا ببعضها في مزيج لذيذ من الفرحة والندم.
انطلقنا إلى البيت لنخبر الوالدة والإخوة بالذي كان.
وما إن سمعت الوالدة والأخوات الخبر حتى بدأت الزغاريد والصلوات الطيبات المباركات على سيد الكائنات.
كيف أصف لكم أجواء تلك اللحظة؟ كيف أكتب عنها؟ لست أدري. المهم أنّها كانت لحظة لا توصف ولا تنسى.
ومضت الشهور سراعا، وجاء موعد أداء مصاريف الحجّ، كان الوالد متوجّسا ألّا يجد المبلغ المطلوب، فقلت له ضاحكا: «أخائف أنت ألّا أفي بوعدي لك؟ والله لو اضطررت لبيع عينيّ لأجلك لفعلت، نم هانئا يا أبت، فقد دبّرت المبلغ كاملا».
تهلّل وجه أبي، واطمأنّ قلبه. ودعا لي دعاء لهو عندي خير من الدنيا وما فيها: «يا بُنيّ؛ أسأل الله تعالى أن يدثّرك بثوب الرضا. وكما أسعدتني أسأله سبحانه وتعالى أن يسعدك دنيا وأخرى».
تدحرجت بنات عيناي على سفح الخدود، وهمهمت وأنا أقبّل رأسه قائلا: «أنا ومالي لك يا أبي، أنا كسبك، وأنا زرعك فكل حيث شئت».
وجاء موعد الرحلة الطيبة المباركة، وذهب أبي ولم يتخلّص بعدُ من أدران الماضي وعلائق وعوائق رفقة الغفلة.
ثمّ عاد الوالد الحبيب بعد شهر قضاه في أفضل بقاع الأرض، وكنت متوجّسا جدّا؛ هل يكون حجّ أبي رحلة سياحية للبيت العتيق وما حوله، أم هو خلوة بالله وفرصة حقيقية للصلح معه؟
وكم كانت دهشتي كبيرة حينما رأيته! فقد استنار وجهه، وابيضّ لونه، وتغيّر حاله. وأخذت أتساءل في نفسي طيلة الطريق الرابطة بين المطار والبيت عن سرّ هذا الصفاء والبهاء. أتراها اللحية التي أرخاها، وكان من قبلُ يحلق وجهه؟ أتراه بياض الثياب التي كان يرتديها؟ أم هو الحجّ الذي يجبُّ ما قبله؟ …
وعرفت السرّ لمّا جلسنا إلى أبي، فقد ترك التدخين –وكانت السيجارة لا تفارق فمه-، وأنار قيام الليل وجهه، واشتغل بذكر الله تعالى عمّا سواه.
وبعد أسبوع قضاه الوالد معنا في بيتنا بالمدينة، طلب إليّ –بعد مصادقة الوالدة- أن أنقله إلى بيته في البادية. وقال: «بعد الحجّ، لا أريد لشيء أن يفسد عليّ علاقتي بخالقي».
وها هو ذا الآن في البادية لأزيد من سبع سنين، لا تفوته الصلاة في المسجد، ولا يفوته الوتر النبوي، ولا تفارق السبحة يده بالليل، أمّا بالنهار فلسانه لا يفتر عن ذكر الله تعالى، ويده في الطين تغرس فسيلة أو تزرع نبتة أو تقلّم شجرة.
جبّ حجّ أبي ما قبله…
ولي قصة مع أبي سأحكيها بعده.
وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله صحبه وحزبه.