من قصص الحجاج والمعتمرين (3) | قميص أسود

Cover Image for من قصص الحجاج والمعتمرين (3) | قميص أسود
نشر بتاريخ

هذه مجموعة قصص سمعتها من أصحابها، وها أنا ذا أحكيها على لسانهم -مع بعض التصرف- مستعملا الضمير المتصل “تُ” عوض الضمير المنفصل “هو”.


وأنا أحكي لكم قصّة حجّ أبي تجاوزت تفصيلا بدأت منه قصّتي.

فحينما عاد الوالد حفظه الله تعالى من رحلة الحجّ، أحضر على عادات المغاربة كثيرا من الهدايا للقريب والبعيد.. وهي وإن كانت تثقل كاهل الحاجّ مالا وحملا، إلاّ أنّها -على بساطتها- تُسعد كثيرا من يأخذها. ورحم الله أحد أولياء المغرب الأجلاء أوصى المقبلين على الحجّ بإحضار الهدايا لذويهم قائلا: «لا تفجعوهم بعودتكم كما أفجعتموهم بذهابكم»؛ أي أنّك حينما ذهبت وتركت الزوج والوالد والولد يبكون لفراقك، فلا عليك أن تجعل يوم عودتك يوم سعادة وفرح وجبرَ خاطر. ثمّ اجعلها هدية بين يدي نعمة. أليس يقول ربنا عزّ وجلّ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58]، فاجعل فرحك بفضل الله تعالى عليك إطعاما وإكراما وإهداء وعطاء. والله لا يضيع أجر المحسنين.

فتح الوالد حقائبه وأعطى كلاّ من إخوتي قميصا أبيض، إلاّ أنا فقد أعطاني قميصا أسود. اشتعل داخلي نارا وتلبّدت سماء عيناي وكدتُ أمطر. قلت له والحزن يعتصرني: «يا أبي، إنّ الحجاج يهدون الأبيض وليس الأسود». فأجابني بهدوء: «خذ القميص واسكت، خذه ولا تخف» ثم أردف قائلا: «يا بُنيّ؛ ثلاث مرات و أنا أراك هناك؛ مرة في الطواف، وأخرى في السعي، وثالثة في عرفات. وكنتُ كلما رأيتك أسرعتُ نحوك باكيا أقول: هل لحق بي ولم يخبرني ليجعلها لي مفاجأة. لكني حينما أقترب منك لا أجدك. لكن القميص الذي كنت تلبس؛ شكله ولونه لم يفارقا خيالي، لذلك بحثت في المتاجر حتى وجدته فاشتريته لك. يا بني إنّك حاجّ العام القابل فاسع سعيك، وهيّئ نفسك».

بكينا جميعا ونحن نسمع قصته هاته، وتحرّك في داخلي ما كنت ناسيه بتاتا، فلا شوق كان لديّ ولا همّة ولا مال.

وجاء موعد التسجيل لقرعة الحج وذهبت فسجلت نفسي وزوجي رغم أني لم أكن أملك حينها شيئا. فقد قضينا سنوات طوال في معالجة الزوج من مرض السرطان، وتلك السنة بالضبط أخبرنا الطبيب بأنّها قد تعالجت كلّيا منه. ثمّ إني كنت -ذاك العام نفسه- قد اشتريت بيتا كلّفني ما تحتي وما فوقي حتى أنّي أثخنت نفسي دينا.

بعد أشهر جاء موعد سحب القرعة وإذا أنا والزوج في لائحة الفائزين…

الله الله… اللهم لك الحمد ربّي حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى. اللهم لك الحمد ملء السماء، ولك الحمد ملء الأرض، ولك الحمد ملء ما شئت من شيء بعد. لك الحمد عدد خلقك، ولك الحمد رضا نفسك، ولك الحمد زنة عرشك، ولك الحمد مداد كلماتك!

أحسست بسعادة ملؤها السماء والأرض. اغرورقت عيناي بالدموع، ناديت أولا على والدي وقلت له: «لقد تحقّق ما قلت». زففت البشرى لوالدتي كذلك وبعدها زوجي وابنتي ثمّ إخوتي وأخواتي.

بعد شهر من هذه البشرى اشتكت زوجي بطنها، فذهبنا إلى الطبيبة، فإذا هي تزفّ لنا بشرى ثانية. شيء من قبيل المستحيل -ولا مستحيل مع الله-. لقد كان المرض الخبيث قد أصاب رحم زوجتي، وأخبرنا الطبيب المعالج بأنّ حملها أصبح مستحيلا، وأنّها لن تلد بعد العلاج أبدا. فقلنا الحمد لله على قضائه وقدره… فلتُشف هي ولا يهمّنا الفرع ما بقي لنا الأصل، وتكفينا بُنيّتُنا زينب لتملأ بيتنا فرحة وسرورا.

لكن الآن الطبيبة تخبرنا بأنها حامل في شهرها الثاني.

ما أعظمك يا الله… ما أكرمك يا الله!

لم تسعنا الفرحة ذاك اليوم… لكنّنا كتمنا السرّ ولم نبح به لأحد على الإطلاق. واستعنّا على قضاء حوائجنا بالكتمان، فكلّ ذي نعمة محسود.

وجاء شهر رمضان، وبدأت إرهاصات الحجّ تطوف بساحاتنا، وانطلقت دورات التكوين. فكنّا نأتي أنا وزوجي لنحضر دروس الحج والعمرة في إحدى المؤسسات التعليمية التي لم تؤطرها وزارة الأوقاف، بل كان يسهر على تنظيمها ثلّة من خيرة النّاس، لا يرجون منّا جزاء ولا شكورا، إنّما يريدون بها وجه الله تعالى.

كان هناك مؤطّران أساسيان؛ أحدهما يجول بنا في فضاء المناسك والشعائر، وآخر يخوض بنا في بحر الأحاسيس والمشاعر. كان الحديث عن المناسك والأركان والواجبات والمسائل الفقهية يخاطب عقولنا، وكنّا نجده في الكتب ومواقع الأنترنت. أما حديث المعاني فقد كان شيئا فريدا من نوعه؛ حديث قلب إلى القلوب، حديثا يخترق حجب الغفلة والصدود لينقلك من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، حديث شفّاف تلامس كلماته مسامّ قلبك وتشعرك بالخشوع والخضوع بين يدي من اختارك من بين ملايير خلقه لتحلّ عليه في بيته العتيق ضيفا مكرّما.

لطالما بكى صاحب المعاني وأبكى… لطالما انصرف بعد انتهاء مادته وتركنا في سبي حديثه.

ذات يوم قالت لي زوجتي: «عجيب ما يقع في بطني، إن طفلنا -وكانت الطبيبة قد أخبرتنا أنّ الجنين ذكر- إذا تكلّم الأستاذ الأول -صاحب المناسك- لعب وركلني برجله وتحرّك كثيرا، لكن سبحان الله تعالى حينما يتكلّم الثاني -أي صاحب المعاني- سكن وكأنّما جلس يستمع لحديثه».

واغتنمت الفرصة يوما وانفردت بصاحب المعاني، فأخبرته قصّتي وقصّة ابني الذي سمّيته قبل أن يولد “المكّي”، فما زاد على أن قال وهو مطأطئ رأسه تواضعا: «سبحان الله ذي الجلال».

كانت فترة الدروس حجّا قبل الحجّ، كانت بداية مشرقة لخاتمة مشرقة. تعلّمنا خلالها خيرا كثيرا.

ثمّ جاء موعد الأداء، ولم يكن معي مال، فضاقت عليّ الدنيا بما رحبت، وأصابني غمّ كبير، فإذا صديق لي في العمل يأتيني كالريح المرسلة ليسقيني أملا ويقرضني نصف المبلغ الذي أحتاجه أنا والزوجة. حينذاك عرضت سيارتي للبيع فأتممت الباقي وزيادة. فسبحان من عمّنا فضله وبالخير علينا جاد.

لما حلّ موعد الذهاب إلى الديار المقدّسة، خفت خوفا كثيرا ألا يسمح المنظّمون لزوجتي بالذهاب فقد انتفخ بطنها وأثقلت.

عمدت زوجتي إلى الحيلة، وشدّت وسطها بلفافات من الثوب لتخفي بطنها المنتفخ. فلمّا مرت بالحاجز الأمني كنت أنا أدعو الله تعالى متضرّعا تاليا قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنَا مِنۢ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سُدّاٗ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سُدّاٗ فَأَغْشَيْنَٰهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَۖ [يس: 8].

ومرّت الأمور بسلام، ووصلنا إلى البيت الحرام، وطفنا بالكعبة وصلّينا خلف المقام، وزرنا سيدنا محمّدا عليه الصلاة والسلام.

فيا صاحب الهمّ إنّ الهمّ منفرج

أبشر بخير فإن الفارج الله

اليأس يقطع أحيانا بصاحبه

لا تيأسنّ فإنّ الكافي الله

الله يحدث بعد العسر ميسرة

لا تجزعنّ فإن القاسم الله

فإذا بليت فثق بالله وارض به

إن الذي يكشف البلوى هو الله

والله مالك غير الله من أحد

فحسبك الله في كلٍّ لك الله 1

وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله صحبه وحزبه.


[1] أبيات للإمام الشافعي رحمه الله تعالى.