هذه مجموعة قصص سمعتها من أصحابها، وها أنا ذا أحكيها على لسانهم -مع بعض التصرف- مستعملا الضمير المتصل (تُ) عوض الضمير المنفصل هو.
قبل أزيد من عقدين من الزمن، قررت أن أبعث الوالدة لأداء مناسك الحج بعد أن وفّرت لها مبلغ الرحلة الذي كان يقارب الثلاثين ألف درهم. لم يكن باستطاعتي حينها مرافقتها -لعجزي عن توفير ثلاثين ألفا أخرى- لذلك بحثت لها عن رفقة طيبة.
كانت إحدى جاراتنا في البادية ستذهب إلى الحج صحبة ابنها، فتحدّثت مع الابن وأوصيته بأمّي خيرا واستأمنته عليها، فأبدى قبوله لتحمّل مسؤوليتها وقال: «هي كأمي». ثمّ أتيت الغالية فقلت: «أماه.. ستذهبين هذا العام إلى الحجّ رفقة جارتنا فلانة وابنها فلان». حمدت الوالدة الله تعالى، ثمّ سكتت ولم تعقّب.
واقترب موعد الرحلة وأنا متأكّد أن الوالدة ذاهبة إلى الديار المقدسة صحبة من اخترت لها. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان. فقد تراجعت الوالدة -قبل أداء ثمن الرحلة- عمّا كنّا اتفقنا عليه، وقرّرت ألاّ تذهب إلا معي أو مع أخي.
ألغي كلّ شيء تلك السنة. وانتظرنا العام القابل. لم تكن القرعة المقيتة قد طبّقت بعد. فلما كان موعد التسجيل، سجّلت نفسي والوالدة -على شحّ في الموارد المالية- لكنّي اقتحمت العقبة لأجل الغالية.
كانت صغيرتي فاطمة قد ولدت قبل أشهر قليلة، وكانت المولودة الأنثى بعد ثلاث ذكور. وكان تعلّق زوجتي بها تعلّقا جنونيا وكأنها ولدتها بعد عقم.
لم تكن زوجتي تفكّر في الحجّ، ولم يدر لها في خلد. لكنّ والدتي تريد مرافِقة أيضا. فقد جلست تفكّر في الأمر، وقالت هو سيكون في غرفة مع الرجال، وأنا سأكون في غرفة أخرى مع نساء غريبات عني، فلم لا أثير عواطف هذه القاعدة، وأحثّها على الذهاب معنا.
كانت أمّي الغالية قد بلغت من الكبر عتيّا، وهي في أمسّ الحاجة إلى من يأخذ بيدها في العديد من الأمور. لذلك هي لم تفكّر في الصغيرة فاطمة، ولم تفكّر في أمّها المتعلّقة بها، ولم تبال بحالة ابنها المادية، فتوفير ثلاثين ألف درهم أخرى أشدّ عليّ من تحريك جبل. وبدأت تحضّ زوجتي على الذهاب معنا، وتقول لها: «إن فاتتك الفرصة الآن فمع من ستذهبين؟».
كانت الوالدة قد جاءت من البادية إلى بيتي في مدينة الجديدة -والوالدان كالشجرة المظلّة المثمرة يتجمّع إليها الأبناء من كلّ فجّ ليتفيؤوا ظلالها ويأكلوا ثمرها- فجاء أخي من مدينة البئر الجديد، وجاءت أختي من مدينة الدار البيضاء، وتجمّعت العائلة عندي. فوجدوا الوالدة المسكينة تحثّ زوجتي وتدعوها للذهاب معنا إلى الديار المقدّسة، وزوجتي تتحجّج بالرضيعة فاطمة، فقالت أختي لزوجتي: «يا حليمة؛ إنها فرصة لا تعوّض، إن كان العائق هو فاطمة فأنا سآخذها معي الآن إلى البيضاء، فليهنأ بالك، فابنتك أمانة عندي». فأذعنت زوجتي، وقبلت أن تذهب معنا. فلمّا ضمنت الوالدة -رحمها الله تعالى- ذهاب زوجي، التفتت إلى أخي وقالت له: «وأنت؛ ألا تذهب معنا؟ ألا تفكّر في حجّ بيت ربّك؟». أجابها أخي متحسّرا: «والله لوددت ذلك يا أمي، لكن العين بصيرة، واليد قصيرة، والجيب خال». ضحكت الغالية وقالت: «بع سيارتك وكن معنا». أجابها ضاحكا: «والله ما تسمن سيارتي، وما تغني من جوع. ما هي إلا قطعة خردة لن تفي بالغرض». فقالت أمّي: «بعها وأنا أكمل لك المبلغ». ضحكتُ ملء فيّ، وقلت: «يا أمّاه؛ ومن أين لك المال؟» قالت: المال عندك. فقد كانت الوالدة -رحمها الله تعالى- قد باعتني قطعة أرض وكنت أعطيتها ثمنها إلا خمسة آلاف درهم، لذلك هي أرادت أن تستخرج منّي ما تبقى في تلك الظروف العصيبة.
أطاع أخي الوالدة الحبيبة. باع سيارته، وأتمّتْ له -من جيبي- المبلغ المطلوب، وعوض أن أوفّر ستين ألف درهم –ثمن رحلتي وإياها- أصبح لزاما عليّ توفير مائة وخمسة عشر ألف درهم ثمن الرحلة لثلاث أشخاص بالإضافة إلى مصاريف أخرى مصاحبة لا بد منها.
لم يكن الأمر سهلا، لكن الصحبة والمحبّة في الله تصنع العجائب. فلا حرمنا الله من إخوة إن مرضنا عادونا، وإن غبنا افتقدونا، وإن فترنا أيقظونا، وإن أخطأنا نصحونا، وإن احتجنا أسعفونا، وإن فرحنا شاركونا، وإن متنا شيّعونا، وإن نسينا الأهل لم ينسونا.
وتسابق الأحبّة لإقراضنا ومساعدتنا. وسبحان الله ! فقد تسعى للاقتراض من أخ وأنت -في أمسّ الحاجة- حينما تريد شراء بيت أو بناءه فلا يعطيك، وقد تفعل الأمر نفسه وأنت تريد اقتناء سيارة، أو تزويج ولد، فيكون ردّ أخيك سلبيا. فتعود إلى بيتك مهموما محزونا خالي الوفاض. لكن حينما يكون الموضوع هو الحجّ والعمرة، فاعلم بأنّك لن تسعى إليهم، بل سيسخّرهم الله لك، فيأتونك عارضين أموالهم عليك، بل قد يترجّاك أحدهم أن تأخذ منه هو لا من غيره. ذاك أنّ المولى الكريم سبحانه إذا دعاك إلى بيته، واستضافك لمأدبته، فإنّه يتحمّل عنك كلّ شيء، ويتكلّف لك بكل شيء. ما عليك إلا أن تثق فيه حقّ الثقة، وتسلّم له تسليما تاما كاملا.
وجمعنا المبلغ بحمد الله ونعمته، وحججنا بيته بفضله ومنّته، وجاد علينا سبحانه بعظيم كرمه وحسن ضيافته، وكلأنا جلّ جلاله بعنايته. فحللنا سالمين، وعدنا بحمده غانمين.
ورجعت إلى عملي، والديون تثقل كاهلي. فوالله الذي لا إله غيره، قبل أن يحول الحول، قمنا أنا وشركائي بصفقة عمل مع إحدى الشركات الكبرى، فربحنا من تلك الصفقة خيرا كثيرا. فلما اقتسمنا الأرباح كان حظي منها مائة وخمسة عشر ألف درهم بالتمام والكمال. فحججت أنا والوالدة والزوجة بفضل الله تعالى مجّانا.
وتذكّرت قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلّم: «تابِعوا بينَ الحجِّ والعمرةِ، فإنَّهما ينفِيانِ الفقرَ والذُّنوبَ، كما ينفي الْكيرُ خبثَ الحديدِ والذَّهبِ والفضَّةِ وليسَ للحجِّ المبرورِ ثوابٌ دونَ الجنَّةِ» 1.
وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله صحبه.