من غزة إلى قلبي (قصة قصيرة)

Cover Image for من غزة إلى قلبي (قصة قصيرة)
نشر بتاريخ

استيقظت بسبب رنين الساعة المزعج الذي انتشلني من نوم عميق، ونهضت من سريري وأنا أفرك عيني من أثر النعاس، وبخطى بطيئة توجهت نحو باب الغرفة وفتحته، فمررت بغرفة أبي المجاورة لإلقاء نظرة عليه. كان الباب مفتوحا فدخلت ببطء وبدأت أحدق فيه رغم الظلام الذي كان يسود الغرفة، إلا أنني استطعت رؤيته بفضل خيوط الضوء الخافتة والمنبعثة من النافذة المطلة على الشارع. كان نائما ببراءة، فاقتربت منه وهمست له برفق: “أبي، أبي، هيا انهض، فصلاة الفجر على الأبواب”.  فتح عينيه بابتسامة خفيفة وقال: “صباح الخير يا دعجاء”، فابتسمت وقلت: “صباح الخير يا أبي، هيا أسرع سنتأخر”. فنهض من مكانه وذهب مسرعا ليتوضأ، وبعد رجوعه من صلاة الفجر وجدني قد أعددت وجبة الفطور. فتناولنا ما تيسر من الطعام ثم حملت حقيبتي وخرجنا معا، أوصلني أبي في طريقه للجامعة، قبل أن أنزل من السيارة قبلت يده، فقال لي بابتسامة: “ادرسي جيدا، فأنا وأنت لدينا حلم واحد”. فأومأت برأسي موافقة ثم ذهبت.

 كان يوما متعبا ومزدحما بالمحاضرات، وعندما انتهى الدوام، ركبت الحافلة عائدة إلى المنزل. جلست بجانب النافذة أتأمل المارة، وفجأة، لفت انتباهي مشهد امرأة تبدو في الثلاثينيات من عمرها وهي تمسك بيد طفلتها الصغيرة ذات الشعر الأسود والعينين البندقيتين، كانتا تقفان على الرصيف بجانب إشارة المرور تنتظران اشتعال الضوء الأحمر للسيارات. ولكن فجأة أفلتت الطفلة يد أمها واندفعت تعبر الطريق بسرعة، صرخت الأم بفزع، وهرعت خلفها بين السيارات المسرعة والدراجات. فأمسكت طفلتها من ذراعها واحتضنتها وسط الطريق، تعالت منبهات السيارات والهتافات عليها والاحتجاج على تعطيل السير. لكن المرأة تجاهلتهم ولم تعرهم أي اهتمام. حملت المرأة ابنتها بين ذراعيها بوجه شاحب وهي ترتجف من الخوف، ووضعتها على الرصيف وبدأت تحدق بها وكأنها أعظم انتصارات حياتها. احتضنتها بشدة وانهارت بالبكاء بملامح يغزوها الخوف والقلق على طفلتها، وبعدها شرعت في عتابها ونهرها حتى بدأت الطفلة بالبكاء عاليا وهي مطأطئة رأسها بخجل.

كنت أراقب المشهد بذهول، وكاد قلبي أن يتوقف من شدة الخوف على الطفلة، رأيت نفسي في عيني تلك الأم، في خوفها الشديد ودموعها وهي تنهر ابنتها. فانهالت علي الذكريات وحملني الشوق فتذكرت كم مرة كانت أمي تعاتبني فيها؟ وكم مرة شعرت فيها بالظلم؟ ولكني عندما كبرت أدركت أن كل ذلك كان بدافع المحبة والخوف من خسرانها لي. كانت أمي لطيفة جدا وتحبني أكثر من أي شيء، حقا افتقدت حضنها الدافئ وصوتها الناعم الذي يجعل قلبي يتراقص فرحا عند سماعه. فمن رموز المحبة العتاب، فالإنسان لا يعاتب إلا من سكن فؤاده وأصبح جزءا لا يتجزأ من روحه، لذلك تصبح فكرة فقدان من نحب فكرة تكاد تصيبنا بالجنون.  كان هذا المشهد كفيلا بأن يرجع بي للوراء ويفتح لي جرحا غائرا كنت وما زلت أحاول إخفاءه، لقد مرت سنتان على رحيلها، وكأنها خمس سنوات منذ 7 أكتوبر 2023، كان وما زال يوما مميزا للغاية شيد في ذاكرتي وفي التاريخ وأصبح العالم يحيي ذكراه كل سنة ورغم ذلك كلما تذكرتها أشعر بغصة في قلبي، يجف ريقي، وتضيق أنفاسي، وكأن شيئا حادا قد اخترق خافقي.

 عندما توقفت الحافلة، تنفست الصعداء ونزلت بسرعة كأنني أبحث عن الهواء في الفضاء. وأنا في طريقي إلى المنزل لم يغب ذلك المشهد عن مخيلتي، وتذكرت عندما كانت أمي تعلمني كيف أحضر كعكة الشوكولاطة التي لا يتقنها أحد سواها، وكيف كنا نمشي على الشاطئ نجمع أصداف البحر الجميلة من الرمال الذهبية. كنا نقص قطعة خشب فنقوم بتلوينها باللونين الأبيض والأزرق الفاتح، ثم نلصق صدف البحر عليها وتضع لها أمي إطارا وتزينه لتعطينا في الأخير لوحة رائعة فنعلقها معا في غرفتي، وكان أبي في المقابل يفرح كثيرا بإنجازاتنا الصغيرة تلك، حقا أحن لتلك الأيام الجميلة التي كانت فيها كل أيامي مميزة مثل العيد، حقا ستظل كل ذكرياتها كنزا أعتز به ما حييت.

وصلت إلى البيت، وفتحت الباب، فوجدت أبي ينتظرني على مائدة الطعام بوجه مبتسم قائلا: “أهلا بك يا دعجاء”، فبادلته الابتسام ووضعت محفظتي على الأرض وتوجهت إليه، قبلت رأسه وجلست على مائدة الطعام، كان الحزن يعلو محياي رغم أنني أتظاهر أني بخير. نظر إلي أبي بتأمل ثم قال: “كيف كان يومك؟” فأجبته متفادية النظر إليه: “كان لا بأس به، وأنت، هل كل شيء كان على ما يرام؟”. رد قائلا: “بخير والحمد لله”، وبعد ثوان أردف قائلا: “ما بك يا ابنتي، هل تذكرت أمك؟” لا أعلم كيف كان يفهمني من النظرة الأولى رغم أنني لا أبوح له بأي شيء. فأجبته بنبرة مختنقة: “نعم يا أبي، رأيت اليوم مشهدا جعلني أحن إليها ولذكرياتنا معها”. فعلت على ملامحه ابتسامة خفيفة وقال بنبرة مطمئنة: “لا عليك يا ابنتي، وأنا أيضا لا تفارق صورتها ذهني”، فمن الطبيعي أن يشتاق الإنسان لمن يحب وتضطرب مشاعره عند تذكره، لكن يا ابنتي لا يجب على هذه الذكريات أن تأخذ مساحات كبيرة من حياتنا، وتحرمنا العيش والاستمتاع  بما لدينا، بل يجب أن نصنع من تلك الذكريات شيئا جميلا، يكون حافزا للتقدم في المستقبل لا نقطة ضعف للتراجع، فالماضي يبقى ماض لا يمكن لنا تغييره أو حتى الرجوع إليه، لكن الحاضر نحن من نملك زمامه ونحن من نختار كيف سيكون هل مشرقا أو مكبلا بسلاسل الذكريات المكفهرة. فأجبته بحزن: “أتفق معك يا أبي، سأحاول كل ما في وسعي كي أتأقلم وأتجاوز كل هذا”. وأردف قائلا: “يجب أن تحمدي الله بكرة وعشية، لأن أمك لم تقتل، ولم يفجر بيتك أحد، وكل عائلتك لا زالت على قيد الحياة، ولم يأسر الكيان أباك أو أمك في السجن ظلما وعدوانا، تذكري أن أقصى ما يتمنى إخوانك في غزة قطعة خبز يسدون بها جوعهم، وأن يكون لهم مأوى من الحر والبرد والشتاء، وأن يستيقظوا ويجدوا أهلهم على خير ولم تحرق وتقصف خيامهم”.

فنظرت إليه بحسرة وأنزلت رأسي بصمت، وبعد دقائق معدودة، نهضت من على الطاولة وحملت محفظتي، وقلت له: “أبي سأذهب إلى غرفتي كي أدرس”. أجابني قائلا: “نعم، تفضلي يا ابنتي، بالتوفيق إن شاء الله” وقبل أن أجيبه قال: “اعطني جهاز تحكم التلفاز، أريد أن أشاهد أخبار اليوم”. فأعطيته إياه، وذهبت مباشرة إلى غرفتي، فقد كان لكلماته وقع كبير علي، كلامه المنطقي ذاك؛ كان بلسما لجراحي كما أنه كان يذكرني بين الفينة والأخرى بالنعم التي أغدقها الله علي.

 بصراحة، أبي كان وما زال من أشد المناصرين للقضية الفلسطينية، كان يتابع أخبارها بقلق وحماس ويتحدث عنها بشغف، فهو يرى أن هموم الأمة هي همومنا جميعا. على عكسي تماما، أنا أتجاهل كل هذه المعاناة، فالمشاهد المؤلمة كانت تؤثر على نفسيتي كثيرا ولا أتحمل رؤيتها، وهذا ما دفعني لتفادي متابعة أخبار فلسطين أو غيرها. فبعد رحيل أمي، توقفت عجلة حياتي عن الدوران، فتحولت من فتاة نشيطة واجتماعية إلى فتاة هشة ومتقوقعة على نفسها كما أنني فقدت كل أصدقائي. لقد كان خبر وفاتها مثل الصاعقة التي جعلتني عالقة في دوامة من الحزن واليأس إلا أن أبي كان دائما يحاول جاهدا أن يخرجني مما أنا فيه، لكن بالرغم من كل ذلك، إلا أنني تشبثت بحلمها أو بالأحرى حلمهما ولم أفرط في دراستي، كان حلمها أن أكون طبيبة تساعد الناس وتعالج المرضى، لقد كان هذا الحلم بمثابة بريق شمس يخترق الغيوم الملبدة من اليأس ليختلج في صدري ويجدد ما أفسدته العاصفة الهوجاء في ليلة ماطرة.

في صباح اليوم الثاني، استيقظت أنا الأولى كعادتي وذهبت لأوقظ أبي لكنني تفاجأت بضوء غرفته مشتعلا. اقتربت من الغرفة وتوجهت نحو بابها لأرى هل هو مستيقظ أم لا، لكنني فزعت من المنظر كان وجهه شاحبا ومتعرقا، ويبدو عليه الألم وهو ينظر إلى ساقه اليمنى. فاقتربت منه وسألته بقلق: “ما بك يا أبي؟ هل أنت بخير؟ هل تشعر بالألم؟”. رفع عينيه إلي بملامح متعبة ووجه متعرق، وخطوط التجاعيد التي ارتسمت على جبينه من الألم، وقال بصوت خافت: “ساقي تؤلمني كثيرا.” لما نظرت إلى ساقه، وجدتها منتفخة بعض الشيء ومتورمة، ولونها يميل إلى الزرقة مع تدرج بنفسجي. فشعرت بالدهشة والقلق مما رأيت. حاولت أن أتفحصها بلطف، لكنه صرخ متألما: “لا، لا تلمسيها، إنها تؤلمني كثيرا”. وسألته بحيرة: “هل، هل وقعت على ساقك؟ أو كسرت رجلك؟ كنت بخير البارحة، ما الذي حدث؟”. فتنهد بثقل وقال: “لا أعلم، لكنني أشعر بألم رهيب فيها أعتقد أنني أحتاج للراحة فقط ولن أذهب للعمل اليوم”. فأجبته: “لا، لا يمكنني تركك في هذه الحالة، يجب أن نذهب إلى الطبيب.” فرفض قائلا: “لا تقلقي سأتحسن غدا إن شاء الله”، وأردف قائلا: حسنا، أنت جهزي نفسك واذهبي إلى الجامعة”. لم أشأ أن أضغط عليه وأقنعه أكثر بسبب حالته المتعبة. أعددت له الفطور وجهزت حقيبتي وقبل مغادرتي للجامعة، قبلت رأسه وقلت له: “أبي إذا لم تشعر بأي تحسن، أرجوك اتصل بي فورا وسآتي بسرعة وآخذك إلى الطبيب، اتفقنا؟”. هز رأسه بالموافقة، ثم غادرت المنزل. لم أستطع أن أركز على أي شيء في ذلك اليوم، كانت أفكاري مشتتة، كنت أشعر بقلق رهيب كان يتزايد مع الوقت شيئا فشيئا.

عندما عدت مساء إلى المنزل، دخلت بسرعة وسرت مباشرة إلى غرفته، منادية عليه: “أبي، ها أنا قد عدت”، ولكن لم أسمع أي رد. دخلت غرفته فوجدته مستلقيا على السرير، كانت أول مرة أراه في تلك الحالة، تنفست بثقل واقتربت منه كي أوقظه، كان نائما ووجهه شاحب جدا وحرارته مرتفعة، أما تنفسه كان ضئيلا بالكاد يسمع. شعرت بالخوف الشديد والقلق وبدأت أهز جسمه بلطف وأنا أردد: “أبي، هيا استيقظ، أرجوك لا تتركني”. وبدأت أتحسس نبضه بين يدي المرتجفتين وبعينين غارقتين في بحر من الدموع، كان نبضه ضعيفا لكنه لا يزال ينبض. تنفست الصعداء بعد أن كاد قلبي يتوقف، ثم هرعت إلى هاتفي أخرجه من حقيبتي واتصلت بالإسعاف. انتظرت نصف ساعة على أحر من الجمر، حتى وصلت سيارة الإسعاف أخيرا. 

نقلوا أبي إلى مستشفى المدينة بسرعة، وبعد ساعتين من الانتظار في المستشفى، لم يبق أي كابوس سيء لم يراودني، كدت أجن، كنت أسير ذهابا وإيابا في ممر المستشفى وأنا أبكي ومتوترة، وأنتظر بفارغ الصبر أن يخرج الطبيب ليبشرني بشيء، كنت أنظر إلى أبي من نافذة زجاجية صغيرة تفصلني عنه، كان مستلقيا على سرير المستشفى ووجهه شاحب إلى درجة أنه بدا وكأنه ينتمي لعالم آخر. وقناع الأكسجين على أنفه وفمه، كنت أحدق بشكل مستمر في علبة الأكسجين التي كان يظهر داخلها ضباب تنفسه ويختفي، وصوت طنين جهاز مراقبة القلب كان مرعبا للغاية، لأنني في كل مرة يتخيل لي طنينها على أنه صوت الطوارئ الذي يعلن توقف دقات القلب. لقد كان الأطباء حوله، يأخذون جرعات الدم، ويقيسون ضغطه وأشياء أخرى لم أفهمها. لقد مرت الساعتان وكأنهما يومان. وفجأة وبعد ذلك الوقت الطويل، خرج الطبيب وأخيرا، وهو يحمل بين يديه تحاليل أبي، وقال لي: “لا يوجد شيء خطير”، لا أعلم لماذا شعرت بأن كلامه مثل الهدوء ما قبل العاصفة فقال لي: ” سأشرح لكِ في مكتبي، تفضلي”. فجلست وقال لي بهدوء ممزوج بالخيبة -شعوران متضاربان-: ” يجب على أبيك، أن يجري عملية على الفور”. سألته بقلق: “عملية ماذا؟ أبي لا يعاني من أي شيء”.  فقال لي بنبرة مطمئنة: “أعلم، فكل الفحوصات كانت جيدة إلا أن رجله اليمنى قد تورمت وانتفخت بسبب اختناق الأوردة الدموية فيها، فقاطعته: “كيف ولماذا تورمت ساقه؟ فقال لي: سأشرح لكِ أكثر، ما حدث لساق أبيك تسمى بجلطة الأوردة العميقة (Deep Vein Thrombosis)، وهي انسداد في الأوعية الدموية بسبب تجلط الدم لذلك شعر بالألم الحاد فيها.

صعقتني كلماته، فسألته بنبرة متوترة: “ما، ما الحل؟ ما الذي يجب فعله كي تعود رجله كما كانت من قبل؟”. فأجابني: “فمن خلال الفحوصات التي أجريناها، تبين لنا أنه لا يوجد أمل في معالجتها بالدواء أو بأي عملية لتسريح الأوردة الدموية، للأسف الجلطة سببت له نقصا حادا في تدفق الدم إلى الساق، مما أدى إلى موت الأنسجة وهذه الأنسجة الميتة ستبدأ بالتحلل”. لقد كانت كلماته كالصاعقة، حيث بدأت أشعر بالاختناق وبدأت بالتعرق ثم سألته بصوت مرتجف: “كيف، كيف يمكننا علاجها؟ فأجابني قائلا: “للأسف، الحل الوحيد هو بتر الساق لأنها ماتت وستبدأ بالتعفن وقد ينتشر التعفن إلى باقي الجسد مما قد يتسبب في وفاته لا سمح الله”.

شعرت بالهلع وبدأت بالبكاء، فقلت له: “يجب أن نخبر أبي، ونبدأ في تحضير الإجراءات اللازمة لإجراء العملية”. فقال لي: “حسنا، بالطبع سنخبره لكي يوقع على أوراق العملية”. فرفعت رأسي موافقة ثم خرجت من مكتبه واتجهت إلى غرفة أبي، وبدأت أحدق به من النافذة وعيناي تنهمران بالدموع. شعرت بضيق رهيب في صدري وجف حلقي وكأن الكلمات تخنقني. بعد دقائق قليلة، جاء الطبيب وحرك رأسه بالإشارة لي بالدخول معه عند أبي. فدخلنا ورأيت أبي مستلقيا على السرير وقد فتح عينيه للتو. سأله الطبيب بنبرة مطمئنة: “كيف حالك؟ تبدو في حالة جيدة”. ثم أزاح قناع الأكسجين عن وجهه فأجابه أبي بصوت خافت ومتعب: “نعم أشعر بتحسن والحمد لله”.

فقال له الطبيب: “جيد جدا، أريد أن أخبرك بشيء لكن يجب أن تعلم أن هذا قدر الله”. فقال أبي بقلق: “ماذا؟ أخبرني أرجوك”. فأجابه الطبيب بجدية: “ساقك التي تؤلمك كثيرا أصيبت بجلطة في الأوردة وهو انسداد الأوعية الدموية بسبب تجلط الدم”. بدت على ملامح أبي الصدمة والذهول مما سمعه للتو، فسأله أبي بصوت متحشرج: “ثم ماذا؟ ما المطلوب الآن؟”. أجابه الطبيب بجدية: “حياتك ستكون في خطر إن لم نتصرف على الفور لذا يجب أن نبتر جزءا من ساقك المتورمة”. كان أبي مصعوقا مما سمعه فتنهد بعمق وأحنى رأسه بحسرة وتذمر وكانت هذه أول مرة في حياتي أرى فيها أبي منهار القوى ومنكسرا لهذه الدرجة. ثم أجهش بالبكاء فهرعت إليه ولم أجد غير حضني ملاذا لضعفه فاحتضنته بقوة وقلت له: “هذا قضاء الله يا أبي، المؤمن مبتلى ولأن الله يحبك ابتلاك فساقك بأمر من الله توقفت وظيفتها فهو على كل شيء قدير. أرجوك يا أبي كن قويا أنا معك أرجوك”. فخرج الطبيب وتركنا لوحدنا، فحاولت أن أخفف عنه بأي وسيلة، كنت أحاول أن أبقى متماسكة أمامه رغم أنني كنت منهارة جدا كي لا يتأثر أكثر. وفي النهاية وبعد جهد جهيد استطعت إقناعه بإجراء العملية والتوقيع على كل الأوراق المطلوبة.

وبعد مرور أربع ساعات على انتهاء العملية، رأيت الأطباء وهم يغادرون غرفة أبي حاملين ساقه المبتورة بين أيديهم. إحساس الفقد والألم والانكسار والبكاء كلها أحاسيس اختلطت بداخلي عندما رأيت جزءا من جسد أبي قد بتر، لقد كان إحساسا قاسيا وصعب التحمل. وفي تلك اللحظة تذكرت أهل العزة (غزة) كيف كانت تكسر وتبتر أطرافهم وكيف كانت تجرى لهم العمليات في ظروف قاسية وبدون مخدر. شعرت للحظة بكمية الألم الحاد الذي لا يحتمل والذي عانوا منه، ولأول مرة أشعر بمعاناتهم وألمهم لأنني جربت ذلك الشعور الفظيع. حقا، إنه لمن المؤلم جدا أن يفقد المرء جزءا من جسده أو ترى شخصا عزيزا يفقد جزءا منه، الألم الجسدي سيتلاشى مع الوقت لكن الألم النفسي سيظل مثل الجرح الغائر في الفؤاد. ثم بعد ساعة من البكاء والدعاء، خرج الطبيب وقال لي: “الحمد لله تمت العملية بنجاح. وأنا الآن في انتظار نتائج التحاليل الطبية التي تؤكد استقرار حالته حتى تتمكني من رؤيته”. فقلت له بنبرة قلقة: “حسنا، شكرا لك”.

وبعد صبر جميل، جاء الفرج وأخيرا سأدخل إلى غرفة أبي لأراه، مسحت دموعي وتنفست الصعداء ثم دخلت لغرفته، كان مستلقيا على السرير ووجهه شاحب جدا فجلست بجانبه، ومسكت يده وقبلتها وأنا أحاول أن أخفي خوفي ودموعي المتساقطة كالمطر الغزير. وبعد ثوان قليلة فتح أبي عينيه فابتسمت له وقلت له: “الحمد لله على سلامتك يا أبي، العملية تمت بنجاح”. فنظر إلي بألم ثم قال: “ساقي تؤلمني”، فقلت له: “أعلم يا أبي، لكن لا تقلق، سيعطونك مسكنا للآلام سيساعدك”. فتنفس بثقل وهو ينظر أسفل السرير بوجه محبط، فقلت له في محاولة لتهدئته: “يا أبي لقد سبقتك ساقك إلى الجنة”، فانفجر بالبكاء وقال لي بنبرة مرتعشة: “أعلم، الحمد لله، الحمد لله على كل حال”. فأردفت قائلة: “المهم هو أنك عدت لي بخير، أنا وأنت لن نستسلم أبدا، سنكافح وسنستمر لنحقق أحلامنا، فأنا رجلك اليمنى ويدك وكل أطرافك، أنا كلي أنت يا أبي، تذكر أن بعد الله تعالى أنا سندك الذي لن يمل ولن يكل منك أبدا حتى آخر رمق، أعدك بذلك يا مهجة قلبي”. فقال لي بنبرة مكسورة: “أنت النور في حياتي”. فابتسمت له وقلت: “وأنت الحياة كلها يا أبتي”. وفجأة دخل الطبيب ليتفقد حاله ثم أخبرني أنه يمكنه أن يخرج من المشفى بعد خمسة أيام لأن حالته مستقرة والحمد لله”. فابتسمت بحزن وقلت له: “الحمد لله، شكرا جزيلا يا دكتور”، فأجابني: العفو، بالشفاء العاجل إن شاء الله”.

لقد مرت الأيام الخمسة ببطء، ورغم التعب إلا أنها كانت مليئة بالاهتمام والدعم، لقد تعلمت في هذه الأيام التي قضيتها مع أبي في المستشفى أن الحياة والصحة هبتان ثمينتان، ويجب أن نقدر كل لحظة فيها ونحمد الله عليها. وفي اليوم الأخير، تصادف يوم خروج أبي مع يوم الإسراء والمعراج الموافق 27 رجب 1446 هـ، والذي يوافق 26 يناير 2025م. حقًا، إنه يوم عظيم ومبارك. وها أنا الآن أجمع ملابس أبي كي نغادر بإذن الله. ساعدته في الجلوس على الكرسي المتحرك، وقلت له: “هيا يا أبي، سنبدأ فصلا جديدا من حياتنا إن شاء الله”. كانت نفسيته قد تحسنت بعض الشيء، فرد قائلا: “إن شاء الله، سنحاول من جديد”. فخرجنا من المستشفى، وكان الجو جميلا والشمس ساطعة في كبد السماء والهواء دافئ. فتنفست الصعداء وتوجهت إلى باب السيارة مع أبي.

وبعد سويعات معدودة، عدنا إلى منزلنا لنُحيي الذكريات من جديد، فجلست أنا وأبي في غرفة المعيشة بعد أن أعددت له بعض الطعام. فسألته بعدما أكل القليل منه: “كيف تشعر الآن يا أبي؟ هل أنت بخير؟”. فنظر إليّ وقال: “الحمد لله أفضل من قبل”. ثم تذكرت شيئا مهما سيجعل قلبه يرقص فرحا، فسألته: “هل تعلم ما اليوم يا أبي؟”. فنظر إلي بفضول وقال: “لا أعلم، فبسبب ما حدث لم أتذكر ما اليوم أو حتى التاريخ” فقلت له: “اليوم هو يوم الإسراء والمعراج يوم مبارك جدا”. فابتسم وقال: “سبحان الله، كيف نسيت يوما بهذه الأهمية نسأل الله أن يجعل هذا اليوم فاتحة خير لنا”. فقلت: “آمين، ولدي خبر آخر سيسعدك أيضا”، فنظر إلي باهتمام وقال: “خيرا إن شاء الله”. فقمت بتشغيل التلفزيون وعرضت له الأخبار التي تتحدث عن اتفاقية الهدنة بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني والتي تضمنت تبادل الأسرى وإيقاف إطلاق النار. كانت عيناه تلمعان بالفرح وهو يشاهد الخبر ثم قال لي: “الحمد لله لقد انتصروا مرة أخرى حقا، إن بعد العسر يسرا”. فقلت له: “نعم يا أبي، وفي هذا اليوم المبارك، هناك حدث آخر عظيم، وهو عودة الفلسطينيين إلى ديارهم”. فنظر إلي وابتسم قائلا: “إن نصر الله سيأتي ولو بعد حين إن شاء الله “.

منذ ذلك اليوم، أصبحت من أنصار القضية الفلسطينية كنت أشارك أنا وأبي في الوقفات التضامنية، وأحضر المحاضرات التي تتحدث عن حقوق الفلسطينيين، وأنشر وأدون الكثير عنهم. لقد تحسنت صحة أبي كثيرا ورغم أنه لم يعتد في البداية على استخدام العكازين وكان الأمر صعبا جدا عليه، إلا أنه تأقلم مع الوقت واعتاد على العيش بساق واحدة. كنت دائما أذكره وأقول له: “أنت لست وحدك من فقد ساقه، فإخواننا في فلسطين أيضا عانوا الكثير، لكنهم لم يستسلموا، لهذا نحن أيضا سنكون أقوياء ولن نستسلم للظروف أبدا”.

لقد جعلتني هذه التجربة التي خضتها في وقت قصير أفهم معنى المعاناة الحقيقية وأدرك حجم المأساة التي يعيشها أهل غزة كل يوم. إنهم أبطال يتحملون ما لا يطيقه الإنسان العادي. ورغم قسوة التجربة، أيقنت أن الله يعوض عباده الصابرين وأن الابتلاء لا يأتي إلا لمن يستطيع تحمله. فاللهم اشف أبي وكل مريض وارحم شهداء غزة وانصرهم على من ظلمهم وفرج عنهم كربهم وأبدلهم بعد العسر يسرا وبعد الحزن فرحا. آمين.