جاء الإسلام نورا للناس بعد ظلمات الجاهلية والكفر، حاملا مشروع الأخوة الإنسانية؛ إنه ينظم حياة الناس أفرادا وجماعات، ويعطى للعلاقات الاجتماعية قيمة كبرى، لدرجة أنه ربطها بإيمان الفرد، وتهديدُها يعني تهديدَ إيمانه، يرتب على الإخلال بحقوق هذه العلاقة وواجباتها عقوبات أخروية، كما يرتب على الوفاء بها ثوابا ينفع الفرد في آخرته. ومن هذه العلاقات الاجتماعية نجد العلاقة بالجار. وهنا نتساءل: هل فعلا علاقة المرء بجاره علامة على الإيمان، سلبا وإيجابا؟ وما تجليات ذلك من خلال القرآن الكريم والسنة الشريفة؟
إن الإيمان درجة في مراتب عبودية الفرد لله عز وجل، كما في حديث جبريل عليه السلام، الذي جعل هذه المراتب إسلاما وإيمانا وإحسانا. وإذا كانت مرتبة الإسلام، كما في أركانه الخمسة، عبادات ظاهرية (الشهادتان؛ إقامة الصلاة؛ إيتاء الزكاة؛ صوم رمضان؛ حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا)، فإن الإيمان مرتبة أعلى؛ إذ أركانه كلها محلها القلب (الإيمان بالله؛ وملائكته؛ وكتبه؛ ورسله؛ واليوم الآخر؛ والقدر خيره وشره)، ولا ترى بذاتها في الفرد وإنما يُرى أثرها. ثم يأتي الإحسان وهو أعلى مرتبة في هذه المراتب وهو إن صح التعبير أعلى مرتبة في مراتب الإيمان وأدقها (أن تعبد الله كأنك تراه).
1- الإحسان إلى الجار تبع لتوحيد الله عز وجل
خلق الله الإنسان من أجل عبادته وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: 56)، هذا هو المقصد الأعظم. وقد أتبع القرآن الكريم هذه العبادة بكثير من الأعمال، ليبين لنا أنها لا تنفصل عن تلك العبادة وعن توحيده. وهذا دليل على جلالة قدرها. وهو الشأن نفسه بالنسبة للإحسان إلى الجار الذي جاء في قوله عز وجل: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (النساء: 36).
أجمع العلماء على أن هذه الآية من المحكم المتفق عليه، ليس منها شيء منسوخ. وكذلك هي في جميع الكتب. ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب، كما يقول الإمام القرطبي رحمه الله. وقد أكد القرآن الكريم الإحسان إلى الجار بعد أمره بعبادة الله وتوحيده وبعد الإحسان إلى أقرب الناس وهما الوالدان والأقربين. والإحسان قد يكون بمعنى المواساة، وحسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه.
والجدير بالانتباه هنا أن الجار غير محدد لا بقرابة دين ولا بقرابة دم. ونستفيد من هذا أن الآية تدعو إلى الإحسان إلى الجار سواء كان مؤمنا أم كافرا، تقيا أم عاصيا، قريبا أم بعيدا. كما تجدر الإشارة إلى أن هذه الآية الكريمة نزلت بالمدينة، لذا فإن من مقاصدها بناء مجتمع الأخوة؛ الأخوة الدينية والأخوة الإنسانية.
يضع الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله إطارا لعلاقة الجوار كما علاقة القرابة حتى تكون لله وفي سبيل الله، وفي سبيل مجتمع عمران أخوي بعيدا عن العصبية القبلية أو العنصرية، يقول رحمه الله: “نقرأ في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحث الأكيد والوعيد الشديد في شؤون برِ الوالدين. ونقرأ واجب إيتاء ذوي القربى واليتامى والمساكين. ونقرأ واجب الوفاء لحق الجار والصديق. كل ذلك يسعى الإسلام ليستخدمه في إطار الوَلاية لله ولرسوله وللمؤمنين. فإذا تعارض الوَلاءُ لله ورسوله والمؤمنين مع الوَلاءات القبلية، والأنانية، والقطرية، والوطنية، وما هنالك، فيُطْرَحُ كل ذلك ويقاتَل ويُستأصَل” 1.
2- إكرام الجار من كمال الإيمان
إن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أقواله وأفعاله وتقريراته، بنت القرآن، فهي وحي من الوحي. لذا فقد جاءت مفصلة مبينة لأحكامه ومبينة لطرق تطبيقها. ومن أهم ما بينته السنة سلوك الإنسان المسلم الاجتماعي.
في هذا السياق نجد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جارَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ”. (رواه البخاري).
يخبرنا الحديث الشريف عن ثلاثة أمور غيابُها يعني غيابَ الإيمان، أو بالأحرى غيابَ تمام الإيمان، وهي: قول الخير أو الصمت؛ إكرام الجار؛ إكرام الضيف. كل هذا من أجل مجتمع أخوي.
والمتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم: “ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جارَهُ” يلاحظ أن هذه الجملة شرطية؛ فكأن الإيمان يلزم عنه إكرام الجار، وكذلك الإحسان إليه كما في رواية أخرى لمسلم: “منْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إلى جارِهِ”. وإنما ربط الإكرام والإحسان بالإيمان ترغيبا في الثواب وتنبيها إلى ما يترتب عن ذلك من عقاب كما جاء في ذلك النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِ جارَهُ”. (رواه البخاري).
إن إذاية الجار جرم عظيم؛ حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: “واللهِ لا يُؤمِنُ، واللهِ لا يُؤمِنُ، واللهِ لا يُؤمِنُ”. قالوا: وما ذاكَ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: “جارٌ لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوائِقَه”. قالوا: وما بَوائقُهُ؟ قالَ: “شَرُّهُ”. (رواه الهيثمي في مجمع الزوائد).
انظر هنا كيف نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الجار الذي لا يأمن جاره بوائقه، وانظر كيف أقسم صلى الله عليه وسلم على ذلك ثلاث مرات.
يستفاد من هذا الحديث الشريف أن إذاية الجار ذنب عظيم وعاقبته خطيرة على مصير العبد غدا يوم القيامة. ولعل قصة المرأة التي تكثر من صيامها وصدقتها وصلاتها خير موضح لهذا الحديث.
روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: “قال رجلٌ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن كَثرةِ صَلاتِها وصَدقَتِها وصيامِها، غيرَ أنَّها تُؤذي جيرانَها بِلِسانِها؟ قال: هيَ في النَّارِ، قال: يا رَسولَ اللهِ، فإنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن قِلَّةِ صيامِها وصَدقَتِها وصَلاتِها، وإنَّها تَتَصدَّقُ بالأَثوارِ مِن الأَقِطِ، وَلا تُؤذي جيرانَها بِلسانِها؟ قال: هيَ في الجنَّةِ”. (صحيح الترغيب).
هذه القصة تضع مقارنة بين امرأتين: الأولى عابدة لكن تؤذي جيرانها بلسانها؛ والثانية قليلة العبادة، بل عبادتها لا تكاد تذكر لكنها لا تؤذي جيرانها بلسانها، فكان مصير الأولى النار، بينما مصير الثانية الجنة. لهذا، لا يغترن أحد بحسن عبادته صياما وقياما وصدقة بينما علاقته بجيرانه علاقة سوء.
ولنقف هنا مع هذا النص للإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله لنرى هذا الربط العجيب بين محبة الله عز وجل ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة أوليائه ومحبة الأقربين والجار… وكل هذا ضمن خصلة الصحبة والجماعة؛ يقول: “يتوسع مفهوم الصحبة والجماعة بتقدمنا في عد شعب هذه الخصلة. فمن محبة الله تعالى، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، إلى محبة حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، إلى محبة أوليائه تعالى والأخيار من أمته صلى الله عليه وسلم، إلى الوالدين والأقربين، والزوج والزوجة، فالجار بالجنب، فالضيف العابر” 2.
ألا يمكن أن نستنتج أن الإحسان إلى الجار باب إلى محبة الله عز وجل؟