من المؤمنين رجال… الراحل الأخ المجاهد عمر عزيز نموذجا الحلقة السادسة: عمر داخل بيته

Cover Image for من المؤمنين رجال… الراحل الأخ المجاهد عمر عزيز نموذجا
الحلقة السادسة: عمر داخل بيته
نشر بتاريخ

عشنا مع السي عمر في الحلقات الأربع الأولى، فرافقناه منذ ولادته في موطن نشأته وأثناء دراسته طالبا متلقيا، وفي قسمه مدرسا مربيا، كما عايشنا يقظة قلبه وتوقد الأسئلة الوجودية الحارقة في صدره بعد بلوغ الرشد وإتمامه الأربعين من عمره. كما كانت لنا مع الفقيد العزيز اسما ومعنى وقفة استمتعنا بها ونحن نتابع وقائع لقياه مع المصحوب الهمام والمرشد الإمام، رحمهما الله وأحسن جزاءهما.

وفي الحلقة السابقة، اطلعنا على النزر اليسير الذي تأتى لكاتب هذه السطور، الوقوف عليه من بلاء هذا الرجل في الدعوة، وهو الذي وصفه لي أحد من عاشره عن قرب، فقال: السي عمر عزيز لم يكن متصدرا للخطابة ولم يكن مفوها فيها، لكنه كان بحق وتدا في الدعوة).

وفي هذه الحلقة، أقترح عليكم، بعد استئذان صاحب الأمر عمر، أن ندخل عليه بيته، لنطلع على هذا الذي حمدنا مظهره، كيف كان مخبره. ولعلكم توقعتم، كما توقعت أنا، ما ينتظرنا داخل البيت فرددتم معي المقولة الشائعة: وما خفي كان أعظم).

فهيا بنا نلج عليه مسكنه ونقتحم عليه، ليس أسوار بيته، -فما اقتحام أسوار البيوت من أخلاقنا نحن المأمورين بدخول البيوت من أبوابها- ولكن أسوار حميميته وخلواته مع ربه. والباب الذي ندخل منه عليه، لن يكون إلا زوجه الطاهرة السيدة زهراء وبنتها سارة وأخوها الأمين.

فقد زرت الأسرة الكريمة صحبة زوجتي بِنِيَّةِ الاستماع منهم إلى سيرة الرجل، وفيم كان يقضي وقته عند مكوثه بالبيت وعن علاقته بأصدقائه وأقاربه وذوي رحمه، وباختصار جئتهم أسألهم: “كلموني عن السي عمر، الله يرحمه”.

كان أول من استقبلنا ابنته سارة. فبمجرد السلام والترحاب بادرتها، جئناك نريد أن تحدثينا عن أبيك فما أنت قائلة؟. فاجأناها بالسؤال، لكنها انطلقت بكل تلقائية ومن غير ترتيب للكلام أو روية: كان والدي يرحمه الله شديد الاعتماد على نفسه، فما أذكر طيلة حياتي أنه طلب إلي أن آتيه بشيء: كوب ماء أو تحضير شاي أو أية خدمة أخرى. وما سمعته يطلب هذا إلا عندما أقعده المرض وأعجزه عن الوقوف والتحرك، فكان يطلب أن نحضر له ما هو بحاجة إليه بتعفف كبير، فكنا نلمس بأنه يتحرج من هذا الذي لم يتعود عليه. (ولما التحق بنا في آخر الجلسة ابنه الأمين، تصدرت الإشارة إلى هذا الأمر حديثه إلينا، مضيفا أنه أبدا لم يسأل أولاده الذهاب لشراء الخبز أو الحليب، وإنما يذهب يحضره بنفسه، ولا يسأل أحدا) 1 . وتابعت سارة قائلة: كان رحمه الله قليل الكلام، وإذا ما تكلم فكلامه توجيه. كان رحمه الله يوصيني بالصلاة كما كان يوصيني عند خروج رمضان بعدم التَّوَانِي في رد دين الصيام، ويقول “إن دين الله أحق أن يُقضى”. وطيلة عمري لم أسمع أبي يصيح أو يصرخ في وجه أحد. كما كان يوصيني رحمه الله بالإحسان إلى زوجي. وأذكر مرة أنه زارني في بيتي، فلاحظ وجود أثاث جديد اقتنيناه، فقال لي معلقا: “أي بنية! إن زوجك “ظْرِيّف” (طيب لطيف) فلا تكثري عليه بكثرة المطالب فتحرجيه”. ولقد كانت زياراته قصيرة، مخافة أن يشغل المزور عن شغله 2 . لقد كان رحمه الله، تضيف ابنته سارة، شديد التطبيق لشرع الله، وكان يعيش في الدنيا وعقله مع الآخرة. وختمت قولها، وفي مرض موته كان لا يفتر عن مناجاة ربه نسمعه كل وقت يقول ويردد: “يا راحم! يا راحم!”.

والتحقت بنا أرملته السيدة زهراء، في ثياب عدتها، فطلبت إليها أن تحدثنا عن الفقيد، فقالت والدمع يغرق مقلتيها: “أقولها باختصار، نِعْمَ الزوج كان، شهادة أُدْلِي بها يوم الدين أمام رب العالمين. سبعة وثلاثون عاما من العشرة، لم تصدر منه نحوي ولو كلمة إهانة واحدة”. ولما سألتها عن عبادته واجتهاده في البيت أجابت: “منذ التقى السي عبد السلام ياسين رحمه الله وإلى أن أقعده المرض، ما ترك قيام الليل قط. ولقد كان، تضيف السيدة الكريمة، وصالا لرحمه يذهب يطوف عليهم في مدن إقامتهم واحدا واحدا، ويتابع أخبارهم. وبعد أن أقعده المرض غاب عن أمزميز حيث يتجمع معظم أقاربه خمس سنوات، فاقترحت عليه السفر إليهم، تطييبا لنفسه لما أعلمه من فرحه بهذا الأمر. فسر باقتراحي ودعا الله لي، وأخذناه -أسبوعا قبل موته- وهو لا يتنقل إلا مدفوعا على كرسي متحرك، ففرح كثيرا وبدا عليه السرور والانشراح، رغم ما عانى من طول السفر ومشقته.

ومما أذكره عنه رحمه الله، تضيف الفاضلة زهراء، أنه في أول زيارة له للمرشد رحمه الله وأول لقاء له به كلفه بالمساهمة في إعداد الجريدة التي كان يصدرها آنذاك، وعند عودته إلى البيت أخذ الأمر بكامل الجدية -على عادته رحمه الله- وانكب مباشرة يشتغل بتفان منجزا ما طلب إليه.

وتختم أرملته بقولها: مات السي عمر -الله يرحمه- وهو يوصي بالجماعة. ووصيته مكتوبة، كتبها سنوات قبل موته، قبيل خضوعه لعملية على القلب، وسلمها الأخ الذي خَلَفَهُ 3 على نقابة الشعبة بعد استقالته منها.

وكان آخر الثلاثة التحاقا، ابنه الأمين. فلما أخبرته بالقصد من زيارتي: “إني كلفت بالتعريف بالفقيد العزيز، ولهذا فأنا أرغب في التعرف على السي عمر داخل البيت: السي عمر الزوج، السي عمر الأب… وكيف كان برنامجه اليومي في بيته. وبعد الاستماع إلى الأخت وإلى الوالدة أريد أن أسمع منك أنت، فما أنت قائل في الوالد رحمه الله؟”.

وبكل عفوية وتلقائية، أقبل الأمين متكلما:

“كان حرصه شديدا على الصلاة، يأمرنا بها ويحثنا عليها. أمّا هو فكان يؤديها في وقتها وفي المسجد، أو جماعة عندما يكون مع الإخوة في ذكر أو عمل دعوي. ولم يكن الوالد رحمه الله، يضيف الأمين، أكّالا للحوم الناس نَهّاشا لأعراضهم. فقد كان يكره الغيبة ولا يسمح بها في مجلسه. وعند فراغه من شغله، يقبل على قراءة القرآن وصلاة النوافل، كما كان رحمه الله كثير الصيام. ولقد كنت أرى فيه الجِدَّ مجسما. نعم، لقد كان -الله يرحمه- رجلا جِدِّيّا غاية في الجدية. ومما أذكره لك، أنه ينحدر من منطقة تَلِوين المشهورة بإنتاج الزعفران، وكان أقاربه يخبرونه بأن لوالده هناك تركة مما خلفه جده (أرض زراعية)، فلم يُعِرْ هذا الأمر اهتماما، رغم احتياجه، لما يمكن أن يترتب عن مطالبته -بعد عقود من الزمن- بتركته، من خصومات ودعاوي أمام المحاكم. وهو الذي كان دأبه الصلح والإصلاح بين الناس، فكيف يصبح طرفا في دعوى وخصما يقف أمام القاضي ضد أولي رحمه؟!!”

عمر في طريقه الى الحج

بعد تعرضي في هذه الحلقة لعمر في بيته، دعوني أذكر لكم كذلك ما وقع له من كرامة حين حج سنة 1985. فلقد قصد الديار المقدسة عن طريق القطار عبر أوروبا رفقة زميلين له يعملان معه بالمكتب الوطني للسكك الحديدية. وأثناء عبورهم الديار الفرنسية، ضاعت منه حافظة أوراقه بما فيها من مال وجواز سفر وما يحمله من تأشيرات، فلم يعد متاحا له استكمال الرحلة. وأثناء توديعه صاحبيه والكل يجهش بالبكاء، عمر على فوات فرصة أدائه حجة الإسلام، وزميليه لفقدانهما صاحبا ومرافقا من طينة عمر وما يمثله عمر خدمة وصبرا وتوفيقا بينهما في رحلة شاقة طويلة، وبينما هم في عناق الوداع، إذا بشخص لمح عمر وتعرف عليه فتأكد من كونه صاحب حافظة الأوراق التي التقطها من أحد جوانب محطة القطار، وتقدم إليه سائلا:

– عفوا سيدي، أفقدت شيئا؟

صاح عمر مضطربا لا يكاد يصدق عينيه وقد رأى حافظة أوراقه في يد السائل:

– نعم نعم سيدي إنها حافظتي وبها جواز سفري… فيه صورتي، يمكنك أن تتأكد…

– ها هي ذي بكامل محتوياتها.

استلم عمر حافظته، ففتحها، وبنظرة خاطفة افتحصها، فإذا بها المال والأوراق، وتوجه إلى مُسَلِّمِها له شاكرا ومهنئا إياه على أمانته وحسن سلوكه، وصاحباه دهشين مأخوذين. فشكرا بدورهما مُسَلِّمَ الحافظة، وخر عمر ساجدا لربه شاكرا إياه، فخر صاحباه متأسيين به، فما فرحة عمر بعودة ضالته بأكبر من فرحتهما من عودته هو ليرافقهما في رحلة الحج الطويلة، وتحولت بفضل الله دموع الحزن ولوعته فرحا بالله وبأفضاله ونعمته.

يتبع … الحلقة القادمة: الوصية


[1] الظاهر أن الأخ عمر كان يطبق حديث ثوبان رضي الله عنه، الذي يروي فيه أن النبي صلى الله عليه وسم قال: (مَنْ يتكفل لِي بِوَاحِدَةٍ وَأَتكفل لَهُ بِالْجَنَّةِ؟) قَالَ: قُلْتُ: أَنَا. قَالَ: (لَا تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا) فَكَانَ ثَوْبَانُ يَقَعُ سَوْطُهُ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ نَاوِلْنِيهِ حَتَّى يَنْزِلَ فَيَتَنَاوَلَهُ. رواه أبو داود وغيره.\
[2] وأضيف: ولكونه كان يعمل بما كان يوصي به الإمام المرشد وما كتبه في المنهاج عند كلامه عن يوم المؤمن وليلته: “اقتصد في وقت نفسك ولا تضع وقت إخوتك بالزيارات الطويلة وبقلة ضبط المواعيد”.\
[3] شكلت الكلمة لكي لا تقرأ بالتشديد “خَلَّفَهُ”، لأن نقابة الشُّعَبِ في جماعة العدل والإحسان، تخضع للانتخاب وليس للتعيين.\