من المؤمنين رجال – الراحل الأخ المجاهد عمر عزيز الحلقة الأولى: النسب والمولد والنشأة

Cover Image for من المؤمنين رجال – الراحل الأخ المجاهد عمر عزيز 
الحلقة الأولى: النسب والمولد والنشأة
نشر بتاريخ

توطئة

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا 1 .

قصدي من الحديث عن الرجال المؤمنين وقصد كل من كتب في سير الأفذاذ من الرجال، وعدد مناقبهم وأشار إلى ما عثر عليه من أخبار حول ما حباهم الله به من خصال وأنعم به عليهم من أحوال، التنبيه إلى أن مطالب الشريعة، قرآنا وسنة، في مجال الأخلاق والمعاملات والعبادات وسائر مناحي الحياة، ليست مُثلا نظرية وضعت للاستئناس يصعب تنفيذها، كما أنها ليست حكرا على رسل الله الكُمَّلِ عليهم السلام ومن عاصرهم فعاشرهم واطلع على أحوالهم فاستنار بنورهم واقتفى أثرهم، من حواريي الرسل والأنبياء وصحابة سيد الأتقياء عليهم جميعا صلوات الله وسلامه، وإنما يتأتى كذلك تطبيقها والامتثال لها، في كل وقت وحين، مهما تعاقبت الأزمنة وتطاولت، ومهما اختلفت الظروف وتغير المحيط وتقوت –بل وتغولت- الفتن والمغريات. فحتى في أزمنة غربة الدين وندرة الأعوان على الحق الصالحين، وفُشُوِّ جلبة خيل إبليس ورجله ومشاركته الكثرة الكاثرة من الإنس والجن أموالهم وأولادهم وإطلاق وعوده الغرارة الكاذبة وتصديق الناس – أكثرهم – إياها، واستفزازه إياهم بالصوت بل وبالصورة، وفي خضم تداعي الأمم إنسيها وجنِّيِّها على أمة الإسلام، وتواطؤ المنافقين من أبناء المسلمين معهم بإعمال معاول الهدم من الداخل، يبرز من حين لآخر، هنا أو هناك، رجال مجاهدون وأفذاذ مجددون، يحيون المتماوت من صفات الصالحين والدارس من أخلاق المؤمنين. وما قلت عن الرجال المؤمنين ينطبق كذلك على النساء المؤمنات، فمولانا عز وجل ما أن تكلم عن الرجال المومنين حتى أعقب الحديث عنهم بذكر النساء المومنات: ولولا رجال مومنون ونساء مومنات 2 رضي الله عن الجميع.

نعم هؤلاء الذين نروي سيرهم ونقص أخبارهم، بين أحضاننا عاشوا، عاينوا ما نعاين من فتن، وقاسوا ما نقاسي من إحن، ولعل ظروف بعضهم كانت أقسى من ظروفنا وابتلاءاتهم فاقت ما ابتلي به جلنا، ومع ذلك عاشوا رجولتهم الإيمانية وتجلت فيهم صفات الربانية، فوفوا ما عاهدوا الله عليه وصبروا وصابروا، فلم يغيروا ولم يبدلوا، حتى تنزلت عليهم الملائكة بـ: أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ولما حلت آجالهم عادت إليهم تتوفاهم طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، يخاطبون بمثل: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ويبشرون بكونهم من خير البرية الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.

وإذا كان العديد من الإخوان والأخوات حفظهم الله وأجزل لهم المثوبة والعطاء، قد شنفوا أسماعنا بذكر مناقب وسير العديد ممن سبقونا إلى دار البقاء، سواء على هذا المنبر 3 أو في غيره، فإنهم إنما فعلوا ذلك تشجيعا لنا على الاتساء بهم والثبات على طريقهم والسير على هداهم. فهم بذلك اقتدوا بالتنزيل الكريم، والذي بعد أن قص علينا في سورة الأنعام أخبار الأنبياء والمرسلين وآباءهم وذرياتهم وإخوانهم الذين اجتباهم وهداهم إلى صراط مستقيم، أمرنا بقوله أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ والاقتداء في معاجم لغة العرب التي نزل بها القرآن عرف بـ: اقتدى به أي تبع أثره وأخذ بهديه ونحا نحوه).

ولقد سبق لكاتب هذه السطور عفا الله عنه وغفر ذنبه، أن خصص حلقات لذكر نتف من حياة الراحل المجاهد الحاج إبراهيم الشرقاوي رحمه الله، على صفحات هذا الموقع بُعَيْدَ رحيله، فكثر من اتصل به يخبره أن نشر أخبار من سبقنا بإيمان إلى دار البقاء من الرعيل الأول لجماعة العدل والإحسان، تركت الأثر الطيب في التعريف بسير المؤسسين والتذكير ببذلهم ووضعهم الأسس الصحيحة لبناء المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا.

وها أنذا اليوم أستجيب لطلب أحباب أُحِبُّهم في الله وأُجِلُّهم وأسأل الله أن ينفعني بهذه المحبة وذاك الإجلال، طلبوا إلي أن أكتب عن السي عمر عزيز بعد أن غادرنا إلى دار البقاء وانتقل إلى عفو الله صبيحة الثلاثاء 23 ذي القعدة 1436ه الموافق 08 شتنبر 2015م، رحمه الله وغفر له وخلد في الصالحين ذكره. وإني لسالك في كتابتها نفس المسلك الذي اتبعته في التعريف بالحاج إبراهيم الشرقاوي رحمه الله، بمعنى أن سردي للأحداث سيكون في قالب قصصي يضع لكل حدث وواقعة حقيقية إطارا متخيلا، لا يعدو أن يكون تأثيثا للفضاء الذي تقع فيها الأحداث المؤرَّخُ لها.

النسب والمولد والنشأة

لم يكن المغرب، في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، يعيش استقرارا كاملا، ولم يكن في قبضة حكم قوي يمسك بزمام الأمور ويفرض السلم والأمن في جميع الربوع، شمالها وجنوبها، سهولها وجبالها، سواحلها وصحاريها، وإنما كان ينقسم إلى مناطق تخضع للحكم المركزي المخزن (القواد والباشوات الذين يعينهم السلطان) ومناطق، وإن كانت منضوية نظريا تحت حكم السلطان، إلا أنها كانت تعرف فوضى وتسيبا، إذ تحتكم القبائل التي تسكنها إلى عدد أفرادها المقاتلين وقوة شكيمتهم أكثر من امتثالها لشرع أو قانون أو خضوعها للسلطان ومن يعينه السلطان، من باشا أو قائد.

ففي هذه الحقبة عرفت منطقة تلوين الواقعة ما بين ورزازات وتارودانت هجمات للقبائل المجاورة، ألجأت العديد من أبنائها إلى الفرار، بحثا عن مأوى آمن. وكان ممن نزح عنها مع عائلته، فتى يافع يدعى عبد الرحمن، قصدوا مراكش تاركين ديارهم ومزارعهم. لكنهم في طريق النزوح، وعند وصولهم إلى بلدة صغيرة تدعى أمزميز، صادفوا بها ظروفا ملائمة أغرتهم بالمكوث، فحطوا بها الرحال بها واستوطنوها، وعدلوا عن وجهتهم الأولى مراكش.

أثناء تلك الفترة كانت الأطماع الاستعمارية في احتلال المغرب تتقوى يوما بعد يوم، خاصة بعد أن وقعت العديد من دول الجوار في قبضة النصارى المستعمرين مثل الجزائر وتونس والسنغال وغيرها من دول إفريقيا أو مناطقها. وبحلول سنة 1912 سقط المغرب بدوره في قبضة الاستعمار، فتقاسم أراضيه كل من فرنسا وإسبانيا، وترك ثغر طنجة -نظرا لموقعه الاستراتيجي ببوغاز جبل طارق- مُشاعا بين ست دول تتقاسم حكمه وتدبير أموره وسموه “منطقة دولية”.

في ظل الاحتلال الفرنسي ، وبعد أن تقدم السن بالفتى اليافع عبد الرحمان فبلغ مبلغ الرجال، تزوج شابة من بلدة أمزميز تدعى الطاهرة، فولدت له سنة 1936 مولودا ذكرا، فاتح البَشَرَة سَبْطَ الشَّعْر، سماه عمر.

فرح عبد الرحمن بميلاد عمر فرحا شديدا واعتنى بتربيته وتهذيبه، فأدخله الكتاب القرآني ولما حفظ سورا من القرآن وتعلم الكتابة، ألحقه، بعد جهد جهيد ووساطات وتدخلات، المدرسة الابتدائية التي أنشأها المستعمر الفرنسي بأمزميز آنذاك، وقد كانت البلدة آنذاك تضم حامية عسكرية هامة للجيش الفرنسي، فكان ضروريا إنشاء مدرسة يتعلم بها أبناء العسكر وبعض أبناء الأعيان.

وهكذا، تسنى لليافع الصغير النهل من مدرستين مختلفتين. ففي الكتاب القرآني تعلم القراءة والكتابة بلغة الضاد على يد حملة كتاب الله، علموه وحفَّظوه الكثير من آيات الذكر الحكيم، واستقى منهم نور القرآن وهيبة القرآن وفضائل حملة القرآن. كما أنه في أحضانهم تربي على الصلاة في وقتها وفي المسجد إذ كان كل تلاميذ الكتاب يصطفون خلف الكبار عند كل صلاة. وفي المدرسة التي أنشأها الاستعمار، تتلمذ على معلِّمِين فرنسيين تعلم منهم لغتهم وأطلعوه بواسطتها على كثير من معارف العصر، من جغرافيا وتاريخ وآداب ورياضيات وفيزياء وكيمياء وعلوم الأرض والحياة، بالإضافة إلى تاريخ فرنسا وآداب فرنسا وأناشيد فرنسا.

ومع حداثة سنه فقد أظهر عمر نجابة فائقة، وتمز بين أقرانه، وهذا رغم عدم وجود المؤطر أو المعين خارج المدرسة، فما كان في محيطه من يعرف الكتابة حتى باللغة العربية، فكيف له أن يعثر على من يشرح له ما استعصى على فهمه من لغة الفرنسيس أو من يراجع معه دروسه ويعينه على إنجاز واجباته الدراسية!

يتبع… الحلقة القادمة: من أمزميز إلى الرباط


[1] الأحزاب الآية 23.\
[2] الفتح الآية 25.\
[3] WWW.aljamaa.net\