لا يحب الله تعالى المتشدقين والمتفيهقين [1] لما يوحي ذلك من كبر جاثم على القلوب، وغرور ظاهر ينعكس تنطعا في الكلام وليا للألسن به وتشدقا. إنه الكبر والتعالي والفخر على خلق الله تعالى عياله.
لا يرضى الله عز وجل عمن كان في قلبه ذرة كبر ولا يباركه، لأنه يريد لأخوة المؤمنين أن تدوم ولا يعكر صفوها لفتة متعالية أو كلمة نابية.
الكبرياء رداء الله تعالى من نازعه فيه عذبه ولم يبالي، هو وحده المتكبر المتعالي، وحقيق به سبحانه أن يكون، وليس لسواه أن يكون.
حديثنا عن التشدق والتفيهق توجيه في الواقع إلى أدب الوصال والذوق في التخاطب.
كم يضر ولا يسر أن تجد من يخاطبك من برج عال، أو يلوك الكلام، أو يخرجه من طرف فيه وكأنه يسف الرماد.
كم يطيب لبعض الألسن أن تنطلق سهاما قاتلة في حق الآخرين لا لغرض سوى إرضاءً لأنفس بالسوء تأمر، ولا تطرب إلا باستشعار آلام الناس والتلذذ بأذاهم.
وكم يطيب لأخرى أن تضع قوالب جاهزة تحكم بموجبها على خلق الله تعالى وتعمم فتاواها اللاذعة؛ “المسلمون إرهابيون”، “النساء كائدات”، “الملتزمون بدينهم مجرمون”، “البدو منافقون”..
أتصور كيف يمكن الوقوف بين يدي الرقيب الذي يحصي الأقوال والفعال، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، لا أكاد أتحمل المطالبات والمظالم، ورب رجل أتى بأعمال البر جامعة لكنه أكل مال هذا وسب هذا وظلم ذاك، فيأخذ كل من حسناته ولا يفضل له شيء فيُلقى في النار. نلوذ بجلال الله تعالى.
كم يطيب لفئام أخرى أن تسوق الرذيلة وتساهم في إفشاء الإفك، فترسل الاتهامات صواريخ عابرة للقيم، متخطية لها، منتهكة للحرمات، ومدمرة لجميل الأخلاق وعظيم الخلال.
وكم تستلذ أخرى السباب والشتم، فلا تراعي في خلق الله تعالى إلاّ ولا ذمة.
أين نحن من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: “سِبابُ المسلمِ فسوقٌ ، وقِتالُه كفرٌ“ [صحيح، أخرجه البخاري (48)، ومسلم (64)].
متى تتقي الله ألسُننا بعد أن تستحكم تقواه في قلوبنا؟
أحاط الإسلام العلاقات الإنسانية بسياج متين من التوجيهات والتشريعات، تجعل من الإنسان مكرما في كل مراحل حياته، محفوظ الجانب، مصون العرض، لا تنتهك له حرمة، ولا تنتقص له مروءة، يحيا الأخوة الإسلامية بكل معاني الصدق والمصافاة والمواساة والمساواة، مستقر في روحه ووجدانه أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن رُبّ كلمة تقال وقد لا يلقى لها بال تجسد الظلم بكل معانيه، وتحققه في واقع النفس البشرية فتؤذيها أبلغ ما قد يسببه لها انتزاع حق مادي محض.
[1] عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن من أحبكم إليَّ وأقربكم من مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيقهون؟ قال: المتكبرون”. (رواه الترمذي).
جاء في تحفة الأحوذي (6/136): “من معاني المتشدق: المستهزى بالناس يلوي بشدقه بهم وعليهم.
وكذلك المتشدق الذي يلوي شدقه للتفصح، ويتوسع في منطقة من غير احتياط وتحرز، والتشدق من شدق الفم، أي جانبه.. فالمتشدق هو المتكلم بملء شدقه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه.
والمتفيهق: أصله من الفهق وهو الامتلاء، وهو بمعنى المتشدق لأنه الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه، إظهاراً لفصاحته وفضله، واستعلاء على غيره”.