أولا: افتح
قال ربنا سبحانه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) [سورة الفتح].
قال صاحب الكشاف: “رحماء أي يعاشرون إخوتهم في الإسلام متعطفين بالبر والصلة، وكف الأذى، والمعونة، والاحتمال، والأخلاق السجيحة”.
لم تكن رحمتهم تلك ببعضهم رحمة عواطف، ولكنها كانت رحمة مواقف. رحمة عملية سرّحت الفضة والذهب، فأُعتق العبيدُ من بطش أبي جهل وأبي لهب، وحُرّر المسكينُ من قبضة السغب، وخُفّف عن المستضعف ثقلُ التعب والنصب.
فهذا سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ينفق أمواله معتقا إخوانه المؤمنين من العبيد والإماء…
وهؤلاء الأنصار استقبلوا إخوانهم المهاجرين وتقاسموا معهم الأموال وضمنوا لهم أماكن الإيواء..
وهذا سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه يخفّف عن إخوانه العناء، ويشتري لهم بئر ماء…
لما قدم المهاجرون المدينةَ استنكروا الماء (لم يستسيغوا طعمه)، ولم يكن بالمدينة ماءٌ يُستعذَبُ غيرَ بئرِ رُومَةَ، وكانت لرجل من بني غفار، وكان يبيع منها القِربة بمُد (مقدار ما يملأ الرجل كفيه طعاما)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من يشتري بئرَ رُومةَ يجعلُ دلوهُ مع دِلاءِ المسلمينَ بخيرٍ له منها في الجنةِ؟”. فبلغ ذلك سيدنا عثمان رضي الله عنه فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم وجعلها للمسلمين 1.
وهؤلاء أصحاب الصفة وكانوا ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا منازل لهم، فكانوا ينامون في المسجد، ويظلون فيه ما لهم مأوى غيره… فإذا صُلّيت العشاء عمد كل واحد من المسلمين إلى أخذ من استطاع منهم إلى بيته يطعمهم قبل أن يرجعوا إلى المسجد فيبيتون فيه.
فكان الرجل يذهب بالرجل، و الرجل يذهب بالرجلين وكَانَ سيدنا سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ رضي الله عنه يَرْجِعُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى أَهْلِهِ بِثَمَانِينَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ يُعَشِّيْهِم. وكان رضي الله عنه يدعو قائلا: “اللَّهُمَّ هَبْ لِي حَمْداً وَمَجْداً، اللَّهُمَّ لاَ يُصْلِحُنِي القَلِيْلُ، وَلاَ أَصْلُحُ عَلَيْهِ”.
وهؤلاء الأشعريون رضي الله عنهم كانوا إذا أرملوا في الغزو – أي لم يبقَ عندهم شيء – أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، فيأتي أحدهم بمد، ويأتي آخر بصاع، ويأتي هذا بقنطارين، ويأتي ذاك صفر اليدين… فيقتسمون ما جمعوا بينهم بالسوية، بلا منّ ولا سوء طوية. حتى قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فهم مني، وأنا منهم” 2. فيا سعدهم…
وهذا رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: إني قد نال مني الجهد والتعب، وأرهقني الجوع والسغب. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء.
ليس هناك إلا ماء… في بيوت خاتم الأنبياء… فداه أبي وأمي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يضيف هذا الليلة؟
فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت المرأة: و الله ما معي إلا قوت صبياني.
قال: فعلليهم بشيء وإذا أرادوا العشاء فنوميهم، وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل. فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين.
فلما أصبح غدا على النبي ﷺ فقال: “لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة” 3.
يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “تعجّبَ ربنا جل وعلا من صنيع الأنصارية التي أطعمت ضيْف الدعوة، ضيْفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَشاء أطفالها، واحتالت ليشبع، وتلطفت ليهدَأ بالُه. كذلك قبل الحكم الإسلامي وبعده يلزَمُ المومنات أن يوسعن بيوتهن لاستضافة المومنين والمومنات. تنظر المومنة هل ترتيب فراشها وأناقة أثاثها أحب إليها أمْ أن يكون بيتها معقلا من معاقل الإسلام، ومهدا لإنشاء أخوة، وجنّةً من جنان ذكر الله، ومدرسة يتعلم فيها المومنون والمومنات دينهم، وموعداً لمجالس “تعالي نومن ساعة”؟
قِرَى الضيف عابر السبيل فرض، وليلته حق على كل مسلم. فإن كان الضيف ضيف دعوة فقِراهُ آكد، وحقُّه أوجبُ على من تَفْقَهُ في دينها” 4.
فتحوا – لله درّهم – قلوبَهم وبيوتَهم وجيوبَهم لدعوة الله، ففتح الله لهم وبهم وعلى أيديهم.
ورحم الله الإمام المرشد، فقد حضر يوما مجلسا يتحدّث فيه المومنون عن الدعوة وأساليبها وأسسها ووسائلها… فخاضوا في ذلك وقتا، ثمّ قال الإمام رحمه الله تعالى: إلى ما خلصتم؟ فقالوا: كذا وكذا وكذا… وأكثروا. فقال المرشد الحبيب كلمته الجامعة الماتعة: “الدعوة هي أن تفتح قلبك وجيبك وبيتك”.
نعم؛ افتح ليفتح الله لك؛ يفتح لك قلوبا وأبوابا وبيوتا وأوطانا…
افتح؛ ليفتح الله بك وعلى يديك آفاقا دعوية رحبة، ويهدي على يديك خلقا كثيرا…
افتح؛ ليفتح الله عليك علما وفهما وسلوكا وقربا…
افتح؛ لتصير مفتاحا…
وأختم بهذه الهمسة الحانية البانية من همسات الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى فأصغ لها وأصغي لها: “من صلّت صلاتها وزكّت فرضها فهي مؤدية لواجب عيني تحاسبُ عليه. أمّا من تبرعت بمالها وحنان قلبها على المحتاج من قريب ومسكين وسائل فقد أسْهمت في القيام بفرض كِفائيٍّ متعلق بذمّة الأمة، فارتفعت بذلك مرتبةُ عملِها إلى أعلى. المصليّة المزكّيةُ فرضَها ما عدَت أنْ بنَتْ أركان بيت إسلامها. أما المحسنة إلى الخلق المجاهدة بمالها وحنانها فهي تبني في صرح دين الأمة. بذلك كان لها الفضل.
غرسة المرحمة في قلب المومنة يُعرف تغصينها وإزْهارها وإثمارها مما تشيعه حولها، الأقربَ فالأقرب، من أنواع البِر والإحسان والألطاف والأَرفَاقِ. ما بينها وبين ربّها عز وجل لا سبيل إلى الاطلاع عليه، ونعرف المرحمة بآثارها. تصلح في الأرض حين يفسد فيها المفسدون. تبذر بذور الحب والرحمة في مجتمع الكراهية. تَتَفَرَّغُ لسماع شكوى المُعاني. تنصَح المتخبطات في المشاكل وتشفع النصيحةَ بالبذل والعطاء والسّعي لدَى من بيدهم مفاتِح المشاكل. تحوط برعايتها وعنايتها المنبوذات والمحرومات والملفوظين من أطفال البؤس” 5.
وصلى الله وسلم على سيدنا وحبيبنا محمد وآله وصحبه.