لم يكن العدوان الأخير الذي شنته آلة الحرب الصهيونية الهمجية ضد غزة الأبية وشعبها ومقاومتها الأول من نوعه بل سبقته اعتداءات وحشية كثيرة تضرر منها البشر والشجر والحجر. بل إن ظلم الصهاينة لأهلنا في فلسطين لم يتوقف منذ احتلالهم لأرضها المباركة. لكن الحرب الأخيرة، بشهادة الجميع، كانت أعظم وأخطر على الأمة كلها وليس على غزة أو فلسطين فقط. إن الأمة الاسلامية هي من كانت مستهدفة، في الحقيقة، بهذه المعركة التي تمنّى من أشعلوها ومن حَرّضَهم ومن دَعَمهم أن تُحقق لهم غايات أكبر من مجرد تركيع المقاومة الإسلامية أو النكاية بشعبها في غزة الإباء. لقد أريد لهذا العدوان أن يتوج مسار مخطط جهنمي بالقضاء على أي أمل للأمة في الانعتاق من الظلم والجبر وإغلاق الباب نهائيا أمام الطموحات التي أجّجَها ما سمي بالربيع العربي. فبعد الانقلاب الدموي على مكتسبات الثورة المصرية وتحويل مسار الثورتين السورية والليبية نحو الاقتتال الداخلي وتضليل الرأي العام العالمي وشغله بهمجية “جهاد” داعش في العراق وسوريا، جاء الدور على المقاومة الاسلامية في فلسطين لقصم ظهرها والقضاء المبرم عليها. ولعل هذا ما يفسر أهداف العدوان التي أعلن عنها منذ اليوم الأول قادة العدو الصهيوني، إذ صرحوا بأن غرضهم الأساس منه هو القضاء الكامل على حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، باعتبارها رأس حربة المقاومة في فلسطين، وتدمير قدراتها واغتيال قادتها. وهذا ما يُفسر أيضا تبجحهم بأنهم يخوضون هذه الحرب مرتكزين على تحالف إقليمي مُهِم، بل إن رئيس وزراء الصهاينة صرح في آخر ندوة صحفية له بأن أهم مكسب حققه كيانه الغاصب من هذا العدوان هو الدخول في تحالف مع الأنظمة الحاكمة في المنطقة ضد المقاومة الإسلامية. وهو بلا شك يقصد دول مصر والإمارات والسعودية والأردن، إذ إن هذا ما كشفته بعض المنابر الإعلامية الأمريكية مثل نيويورك تايمز وCNN.
ويأبى الله عز وجل إلا أن يخزي هذا الجمع الشيطاني ويردهم على أعقابهم خائبين، مصداقا لقوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ 1 . لقد صمد أهل غزة الأحرار وعَضُّوا على جراحهم ـ وما أفظعها من جراح ـ وصبروا على جرائم يَشيبُ من هَوْلِها الولدان، وسطرت مقاومتهم الصادقة أروع ملاحم البطولة والاستبسال وشهد العدو قبل الصديق ـ سرا وعلانية ـ بقوتها وصلابتها وحنكتها. كما اعترف الصهاينة، مُجبرين، بجزء يسير من خسائرهم وكان ما تجرؤوا على الاعتراف به كافيا ليَفضح خِزْيهم ويعري عورتهم ويعلن للعالم خسارتهم. لقد كانت هذه المعركة استراتيجية بامتياز، فازت بها المقاومة الفلسطينية البطلة بكل فصائلها وفي مقدمتهم كتائب عز الدين القسّام وسرايا القدس. كما حققت منها الأمة الإسلامية، الكثير من المكاسب ستنجلي، إن شاء الله، بشكل متدرج في مستقبل الأيام.
قد لا يكون الوقت مناسبا، في ظن البعض، للحديث عن المكاسب بل جاء الدور الآن على جماهير الأمة ونُخَبِها الصادقة أن تهُبَّ بشكل موحد ومنظم لتساهم في إعادة إعمار القطاع المُهدّم ومواساة أهله المكلومين الصابرين المحتسبين وهذا من آكد الواجبات التي يفرضها ديننا وتستلزمها مروءتنا. هذا قول حق لكن، كما لا يخفى على أيِّ لبيبٍ، فإن الوقوف على أهم المكاسب التي ساقها الله عز وجل لأمة الإسلام على يد ثُلّةٍ من أبنائها المجاهدين المخلصين في هذه المرحلة الخطير من تاريخها، والتذكير بها أمرٌ فيه تحفيزٌ وتثبيتٌ للعاملين لنصرة الإسلام وتقويةٌ ليقينهم في الله عز وجل، وصَدٌّ لدعوات التيئيس والإحباط التي يبثها أعداء الإسلام ويعملون على تسريبها بقوة إلى العقول والقلوب. وتتعدد هذه المكاسب الاستراتيجية وتتنوع وقد سلط بعض الخبراء والاستراتيجيين الضوء على بعضها لكني في هذا المقال الموجز سأركز فقط على إبراز بضعة منها أدعو الله عز وجل أن يوفق أمة الإسلام للانتفاع بها وخاصة الحركة الإسلامية وأن تحسن استثمارها، فمن أبرز هذه المكاسب ما يلي:
1 ـ تثبيت مجموعة من المعاني الإيمانية المرتبطة بمفهوم الجهاد في الإسلام وعلى رأسها أربع قواعد هي:
الإيمان بالله واليقين به عز وجل هو المورد الأساس للنصر مصداقا لقوله تعالى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا 2 . من الغرور والتواكل المفضي للهزيمة عدم استفراغ الوسع في الإعداد الجيد للمعركة وتوفير كل المستطاع من الوسائل والإمكانات امتثالا لأمر الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ 3 . ليست العبرة بكثرة العدد ولا بضخامة العدة ولكن بالصبر والإصرار والتوكل على الله عز وجل: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين 4 . حب الشهادة في سبيل الله والإقبال عليها سلاح لا يقهر وطريق مُمَهّدٌ للنصر. فما دخل على الأمة من ذل وتخاذل أمام أعدائها ليست عِلّتُه الأساس إلا حب الدنيا والخوف من الموت، أما حب الشهادة ففيه حياة العزة والكرامة والحرية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: من قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت” 5 .
2 ـ استرجاع الأمة للثقة في نفسها وقدرتها على كسر أنظمة الجبر وقهر المؤامرات الداخلية والخارجية التي تحاك ضدها، بالليل والنهار، خاصة بعد نكبة الربيع العربي. يضاف إلى ما ذكر أحيى ثبات أهل غزة الأمل لدى عموم المسلمين بإمكانية تحرير فلسطين من العدو الصهيوني الغاصب حين يتحررون من الوهن ومن حكام الجبر وأنظمتهم.
3 ـ إعادة الاعتبار لمفهوم الجهاد في الإسلام وتطهيره مما علق به جرّاء المحاولات الخبيثة الحثيثة، التي يبذلها أعداء الإسلام، لتلويثه ونسبته للإرهاب من خلال استغلال بعض الأفهام والممارسات المنحرفة لمبادئه وأحكامه التي يتبناها بعض أبناء المسلمين من أصحاب الفكر والسلوك المتطرف.
4 ـ فضح شراكة حكام الجبر والجور للصهاينة وتواطئهم معهم على قتل أطفال ونساء وشيوخ غزة وتدمير عمارتها والفتك بمقاومتها. لقد كان تآمر هذه الأنظمة العميلة معروفا من قبل لكن حرص الصهاينة على التبجح بولائها لهم ودعمها لعدوانهم كان دليلا قاطعا على حجم المؤامرة وخبث الجريمة. وهذا مما ينبغي استغلاله بقوة من طرف كل الحركات الصادقة التواقة للتحرر من نير هؤلاء الظّلمة المغتصبين لكرامة الأمة والناهبين لثروتها والمسخرين خيراتها لخدمة أعدائها والمتربصين بها. فلا بد من زيادة جرعة مواجهة الاستبداد وفضحه في الداخل والخارج.
5: زيادة تعرية نفاق الحكومات الغربية المتواطئة مع الصهاينة ضد قضايا المسلمين وفي مقدمتهم قضية فلسطين بل ضد القيم الإنسانية الكبرى وحقوقها المقدسة وفي مقدمتها حق الحياة. فقد وُوجه الموقف الرسمي الغربي الشريك في العدوان بتنديد قوي من داخل بلدانه جسدته المسيرات التضامنية الضخمة مع غزة التي عمت كثيرا من الدول الأوربية والأمريكية. وهذا من شأنه أن ينزع البريق والجاذبية عن قيم الغرب لدى أبناء المسلمين وأن يُنفّرَهم منها وأن يَلْفت انتباههم لقيم الإسلام وأحكامه ورحمته وعدله هذا إن أحسن الدعاة عرضها وحبَّبوا الناس فيها بأقوالهم وأفعالهم ومعاملاتهم.
لقد كانت معركة غزة عظيمة بحق، بهر فيها الغزَّاويون أعين العالم ونالوا بجدارة واستحقاق احترام كل الشرفاء في المعمور. وهذا العطاء لا يمكن ربطه فقط بقوة صمودهم وضخامة تضحياتهم ولا لصلابة مقاومتهم ومهارتها ولا بوقوف محور هنا أو هناك معهم بل إن مرجع الأمر كله، في مبتدئه وخبره في مقدماته ونتائجه، إلى العناية الإلهية والمنة الربانية. فقد صمدت غزة لثلاثين يوما متتالية بليلها ونهارها أمام إعصار الحقد الصهيوني الأعمى وأمام تواطؤ الدول الغربية وأمام غدر الانقلاب الدموي في مصر وأمام خيانة وتحريض حكام الجبر عليهم وأمام خذلان كثير من الشعوب الإسلامية لقضيتهم العادلة والتخلي عن واجب النصرة. لقد صمدت غزة في وجه هؤلاء جميعا وخرجت من الحرب عليها مثخنة بالجراح لكنها كما عوّدتنا شامخة منتصرة. أثبتت لأعدائها من الداخل والخارج أنها دائما عصية على القهر والانكسار بل إنهم هم من يرجعون على أعقابهم يجرون أذيال الخيبة لم ينالوا خيراً. وصدق الله العظيم إذ يقول: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا 6 .
إنه نصر الإسلام يتنزل مُنَجَّما موافقا لعطاء الأمة وبذلها في سبيل الله وإخلاصها في جهادها وصبرها ومصابرتها ومتطهرة من داء الوهن. فكلما تحققت هذه الصفات الإيمانية كلما انهمر نصر فوق الرؤوس يعز الله به الدين، ويشف صدور قوم مسلمين.