مقاصد الصلاة (1/3)

Cover Image for مقاصد الصلاة (1/3)
نشر بتاريخ

الصلاة عند التأمل غير منحصرة أبدا في أشكال وأفعال ظاهرية إذا أتقنها المرء صلحت صلاته، لأنه لو كان الأمر كذلك لكان الرياضي الذي يأتي بالحركات الأكثر تعقيدا من تلك التي للصلاة أفضل من هذا المصلي الذي قام بحركات أخف وأسهل منه. فحقيقة تلك الحركات المتعلقة بالصلاة إذن إنما هي رمز للعبادة والخضوع والسجود الذليل لجلال الله وعظمته وكمال ربوبيته، بل هي إعلان وبوح عن محبة العبد لمعبوده عز وجل، وتجل لمشاهدة تقصير العبد وعجزه وفقره لِما رآه من ضَعف نفسه وضعف الكائنات وافتقارها في الحضرة الإلهية، فالصلاة روح، أولا وأخيرا، قبل أن تكون حركاتٍ يظنها الغُمر سببا لقَبول صلاته بمجرد إتقانها لاسيما إذا تعصب في الفعل لمذهب فقهي، ونظرَ للمخالف نظرة الآثم، ولما ألفيتُ عددا كبيرا من أفراد المسلمين انساقوا لظاهرية هذا الركن وجدتني منقبا عن مقاصده، مستجليا بعض أسراره ليخلص حب الصلاة للأفئدة متعديا الرسوم وظواهر الأشياء.

قصدان عظيمان

1. قصد ذكر الله

إن حياة الإنسان في هذه الأرض مريرة بالكد ومُفعمة بالبؤس والشقاء بدون إيمان وإيقان يملأ شغاف الأفئدة، ويتربع على عرش القلوب، لأن الإيمان هو الحياة الحقيقية لهذا الإنسان، ولكنه لما ضمر وهجه في النفوس وأَفَل نوره استشرت العِلل، ووجدت بين الناس أرقا وضنكا وعقدا نفسية وانتحارا وإجراما وشتى أنواع السفال الإنساني حتى عند من وصل في المدنية أعلى المنازل وأرقى المراتب، لأن الذي نظر إلى الإنسان نظرة ظاهرية شوهاء فإنه سيرجح جانب الجسد فيه، ولن يكون همه سوى إشباع رغباته واقتناص مصالح جسده بل سيقدس وسائل الإشباع هاته من جنس وأكل ونوم ومطالب للجسد تافهة متهالكة، ومثل هذا اللاهث نحو الجسد سيكون نقمة على الإنسانية إذا هددت مصالحه، لكن الصلاة تنبري رحمة لهذه الإنسانية الحائرة المنهكة، بانتشالها إياها من وهد الحمأة الدنسة والشقاء المروع القاسي، فالصلاة فضلا عن تحقيقها للوصال مع الله عز وجل فإنه بمداومتها إقامة وحفظا فإنها سبب رئيسي لانسلاك الإيمان زلالا في القلوب وانغراسه قويا في الأحشاء بذكر الله عز وجل المتجدد دائما فيها وهذا الذكرُ لمن حط رحاله فيه وأناخ رواحله بمعاقله ولهج لسانه به وجده سرا حقيقيا لإنبات الإيمان في النفوس، ذاك الإيمان الذي فقدته الإنسانية، وتوارى نوره بين سرادب ماديتها، قال سبحانه في التنصيص على القصد الرئيسي للصلاة: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء، ولذكر الله أكبر 1.

أي فضلا عن المقاصد الأخرى التي تحققها الصلاة فإن قصد تحقيق ذكر الله فيها هو من أعظم مقاصدها لأن به تطمئن القلوب وتسعد، ويشرق الإيمان فيها ويستنير، وتلك هي السعادة الحقيقية ملاذ الإنسان وجوهر كده وبحثه، فالصلاة ذِكر من العبد لله، وذكر من الله للعبد في ملإ أفضل من المجالس التي ذكر العبد الله فيها، ولتأكيد هذا القصد قال عز وجل: وأقم الصلاة لذكري أي لتذكرني فيها، وقيل لذكري خاصة لا تشوبه بذكرِ غيري لأذكرك في ملأ خير من الملأ الذي ذكرتني فيه، وهذا ما أكده الإمام القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: وأقم الصلاة لذكري فقال: يحتمل أن يريد لتذكرني فيها، أو يريد لأذكرك بالمدح في عليين بها، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل وإلى المفعول، وهذا تنبيه على عظم قدر الصلاة إذ هي تضرع إلى الله تعالى، وقيام بين يديه؛ وعلى هذا فالصلاة هي الذكر. وقد سمى الله تعالى الصلاة ذكرا في قوله: فاسعوا إلى ذكر الله [الجمعة: 9]” 2. وقد نُصَّ على هذا القصد لأن ذكر الله عز وجل كما أشرت سلفا سبب عظيم لانسكاب الإيمان رقراقا في الأفئدة، وإنزال السكينة الهادئة في الأفئدة فضلا عن حيازة السعادة النفسية التي يبحث عنها الإنسان ولماَّ يحصل إلا عن النزر الضئيل منها، وهكذا لما كان الذاكر الله عز وجل مذكورا عند الله وذاكرا له كما قال سبحانه: فاذكروني أذكركم، كان أهل الله هم جلساؤه لأنهم ذاكرون له لاسيما في الصلاة التي هي وصال بين المحب والمحبوب عز وجل. ومن كان غافلا عن الله وبقي محصورا بين جدران المسجد مترقبا أخطاء المصلين خاصة بعد تكبيرة الإحرام والشروع في الصلاة فهو محروم من المعراج إلى الله الذي سلكه الصالحون في صلاتهم اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي فرضت عليه الصلاة عند المعراج ليكون هذا الفرض دليلا على أن الصلاة انعتاق من الأسر، أسر الدنيا وأثقال الأرض وأمراض الأنفس إلى رحاب الله وعروجا إليه، فالفائز حقا من كان في معراج دائم إلى الله في الصلاة، وداخلا جنان الذكر في صلاته فلا يعبأ أبدا بحطام ولا يهتم ببشر، ولا يلتفت حتى لمَن هو بالقرب منه، بل لاتهمه الدنيا ومَن فيها، إذ همه الأعلى وقصده الأسنى إذا كان عارفا، أن يحقق قصد ذكر الله في صلاته مع إطراق وخشوع تام واستحضار لعظمة الخالق ليزداد انكسارا وتواضعا بتدبر مراد الله من الآيات، ويقينا بدخوله لعالم آخر غير العالم السفلي الأرضي الذي هو فيه.

2. القصد التبعي

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لقوله تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.

إذا ازداد المؤمن في صلاته يقينا وسكينة وتواضعا، فإنه مقترب من استحكام المراقبة الإلهية عليه، لأن صلاته ستكون زاجرة له عن الاقتراب من المعاصي والموبقات، إذ لا يعقل أن يؤثر المحب العارف بالله شهواته ومراضيه على محاب الله عز وجل أو أن يتجاسر على الإفساد في الأرض بأمره للمنكر أو نهيه عن المعروف، لأن الصلاة تربية، وأي سلوك ظاهري للإنسان، إنما هو نتاج لتربية تلقاها ومبادئ تشربها بقلبه، فإذا كان هذا المرء محسنا في صلاته فذاك علامة على صلاحه في الواقع، وبالعكس إذا كان خارجيا في صلاته غافلا عن مولاه فإنه سيكون نقمة على الناس سواء بسواء، وكل إناء بما فيه يرشح.

وهكذا فإن هذا القصد أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثمرة تابعة لما كان عليه العبد في صلاته، فإذا صفى صفي له، وإذا عكر عُكِّر عليه، ألا ترى أن أولياء الله الولهين بذكر الله الخاشعين المطرقين في صلاتهم هم الذين حازوا قصب السبق في الإحسان ومراقبة الله عز وجل والابتعاد عن المكروهات فضلا عن المحظورات، فلا تراهم سوى حدادين لأنفسهم بل ومدخليها إلى كير المجاهدة وطارقيها بمطارق المر والنهي وقامعيها عن الاقتراب لحمى المعاصي والغفلات، هذا في شأن الرباني الذاكر الله أولا، الناهي نفسه عن المنكر والآمرها بالمعروف ثانيا، أما مع الناس والخَلق فهو مغير للمنكر بالتي هي أحسن بسلوكه منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم في التغيير، ونحن نعلم أن هذا المنهاج كان مبنيا على الحكمة وحسن الخلق والتيسير والمحبة والرحمة والثقة والإقناع وخدمة الناس وجلب المصالح لهم والتواضع لهم والتبسم في وجوههم ومعايشة همومهم والتعاون معهم على طاعة الله واعتبارهم أفضل منه، أما الغلظة لهم والفضاضة معهم وتخشين الكلام عليهم والترفع عنهم فضلا عن محاكمتهم أو سبهم أو شتمهم فذلك من سيئ الأخلاق ورعونة الصفات بل ومن سمات الجاهلين كأعراب نجد الذين كان أكثرهم لا يعقلون.


[1] سورة العنكبوت الآية 44.
[2] تفسير سورة طه الجزء 11، ص 45.