نسمع عن الرجل العظيم الذي تدفعه المرأة بقوة إلى تحقيق أمجاده، وقد تغيب عن تصوراتنا تلك المفاهيم التي من المفروض أن تكون بين الرجل والمرأة، في إطار علاقات محكمة بمعاني الود والتقدير والاحتضان والتشارك، القاصدة مرضاة الله والسفر القاصد إليه، في صحبة خير تكون زاد السفر، من أم أو أخت أو بنت أو رفيقة درب، ولا تفترض هذه الحكمة المرأة إلا تابعة للرجل إما لتعليه أو ترديه.
علمنا تاريخ الأمة أن النساء العظيمات كن جنبا إلى جنب مع الرجال العظام في عهود الإسلام الزاهية، هي تربية نبوية كريمة أسست لمبدإ التشارك ونقلت المرأة من زمن الغفلة والقعود إلى زمن الفاعلية والحضور.
لا أتصور من كان على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم محييا لسنته، مدافعا عنها، سعيدا باكتشاف أسرارها وامتثالها، مخرجا إياها من مستودع الخُبر إلى واقع الخَبر إلا ممتثلا لوصية المصطفى صلى الله عليه وسلم، سائرا على دربه في التحقق من الخيرية للأهل. تهجم على مخيلتي وتسربل أفكاري صورة السيدة الفاضلة خديجة أكرمها الله، بما كانت لمرشدنا الحبيب، رحمه الله ورفع ذكره، زوجا وفية، ورفيقة درب ليس بالقصير في الدعوة والانخراط في حمل همومها وتحمل الابتلاءات بصبر وجلد واحتساب وعزم وهم وصدق وتفان.
غيبت شق نفسها رحمه الله غيابات السجون، وقبو مستشفى المجانين، ودهاليز مستشفى الأمراض الصدرية ظلما وافتراء، فخلفته في كل شيء، في أهله وماله، ضاربة المثال الخالد في الحزم والعزم والخلق السامي والذوق العالي في خدمة المؤمنين والمؤمنات، بتعدد مشاربهم، ليل نهار، في بيت لا يكاد يخلو من الزوار.
حوصر الحبيب المرشد رحمه الله، لعقد من الزمن في بيته لا يسمح له بتركه بجبروت مخزني مخز، فواست وآنست، وأدت مهامها كاملة بكل محبة واستماتة، حريصة على إبلاغها كمالَها المنشود، بشموخ رفيق ومسؤولية رحيمة وإتقان وإحسان.
من يذكر الأزواج ذكرانهم وإناثهم بما كانت عليه من تعضيد لصاحب الدعوة ورعاية لها واحتضان بتحمل عز نظيره؟من يذكرهم بما كانت عليه ولا تزال من تهمم بأحوال الدعوة واالمشاركة الفعلية والوجدانية فيها، بأدب المرأة الكاملة وتوجيهات الأم العاقلة الحكيمة؟من يذكرهم بأخلاقها العالية، وجهادها المستميت، وقدمها الراسخة في التربية والسلوك، ومعارفها الرابطة الحال بالمقال بتواضع جم وحياء عجيب.
كانت ولا تزال أما مسؤولة راعية توجه وتحتضن، تنصح وترشد وتستوعب احتياجات الطفولة ومتطلبات الشباب. راقية هي في سلوكياتها، عظيمة في مواقفها، مبتسمة في كل أحوالها، متحملة لما يصعب على الكثيرات تحمله من لأواء الفراق والبعد والابتلاء، بلسان ذاكر وقلب شاكر.
رحيمة إلى حدود الألم، إن رأت أو سمعت عن شخص أصيب أو أوذي هنا أو هناك.
حريصة كانت على مراعاة مواقيت زوجها الكريم رحمه الله، دقيقة بدقيقة، ولحظة بلحظة، مراعية لأوقاته التي كانت مضبوطة بميزان الصلاة ومواقيتها، موزعة بين الكتابة والتنظير، والذكر والتبتل، ومجالسة الأهل وتدبير أمور الدعوة…
إذا دخلت بيتها استشعرتَ قدسية المكان، وأيقنت أنه بيت الدعوة بامتياز، ولمست معالم الطهر والصفاء والنقاء حسا ومعنى. بيت كريم مضياف، كل ما فيه ينم عن فطرة سليمة وخصال كريمة، جمال في كمال، وذوق في تواضع، وسكينة في عمل دؤوب، استقرار واستمرار. كأنك دخلت مسجدا يذكر فيه اسم الله كثيرا.
أتذكر كيف كان أستاذنا رحمه الله، يَذكرها بكل خير ويذكر بأفضالها على الدعوة، أتذكر كيف كان يقول: “للا خديجة هي كل شيء”، أتذكر إكرامها للأنجال والأبناء والصغير والكبير، أتذكر الوفاء الذي بلغ مداه حتى طالبت، نسأ الله لها في الأجل، بحجز قبر قرب قبر الزوج الحاني، الصاحب الحبيب في درب السير إلى الله الوهاب، منعتها منه يد المخزن الباطشة. والله يفعل في ملكه ما يشاء.
أتذكر علو الأدب ولطف المعشر اللذان كانا يمنعانها من رفض استقبال ضيف وإن في حالة العياء والمرض. أتذكر ولا أنسى أنها أطول الناس يدا، وأحسنهم معشرا، وأعمقهم فراسة، وأكثرهم لله ذكرا وتبتلا.
أتذكر بل ولا يفارقني وجهها الشاحب، بعد وفاة الحِب والتحاقه بالرفيق الأعلى، أتذكر الحزن الشديد الذي يبكي القلوب قبل العيون، أتذكر التحمل والاسترجاع وهي تنظر بحنو ظاهر، إلى الجسد الطاهر المسجى المتأهب للقاء الله. تعلمنا أن المعاشرة حجاب وهي في حقك سيدتي قرب ووصال.
تقف أيتها الكريمة، كلماتي عاجزة أمام كمالاتك، ويأبى قلمي متابعة تعداد خلالك، لأن ثنائي وإن تسامى، يقف عاجزا قزما أمام ما علمته منك وما سمعته عنك بالتواتر.
أستميحك عذرا سيدتي، أن تحدثت عنك دون سابق إخطار، حديثا قد يخدش شيئا من تواضعك وتسترك، ولكن هي خطرات أوحى بها الموقف، وفرضتها وقفة الإكبار التي من الأمانة أن توجه إليك.
بوركت سيدتي من امرأة عظيمة شاركت رجلا عظيما حياة دنيوية استغرقتماها طاعة لله، من أجل أن ينادى عند لقاء المتفضل المنان:ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون. 1 للذين أحسنوا الحسنى وزيادة. 2 هو الرحيم المتفضل سبحانه. وما اصطفاك الله لخدمة دعوة عظيمة، إلا لأنك أهل لهذا الاصطفاء.
فتحية إكبار وإجلال لك موصولة، وبارك الله لك في أهلك وعشيرتك، ورحم الله شق نفسك الغالي الذي ما فتئ يذكر خلالك وجهادك ثناء وتعليما.
فلتكلأك عناية الله الحافظ، ولتبقك ذخرا للدعوة ومثالا للدعاة. وإن مع كل رجل عظيم امرأة.