مقدمة
تشهد منطقة الشرق الأوسط مشهدا سياسيا معقدا، تبرز أحداث “طوفان الأقصى” كمنعطف تاريخي؛ يستدعي قراءة تحليلية عميقة تتجاوز التبسيط والاختزال. هذه الأحداث، بكل ما حملته من تداعيات إنسانية وسياسية واستراتيجية، تطرح تحديات جوهرية أمام المحللين والمفكرين لفهم أبعادها وتأثيراتها المستقبلية.
أسعى من خلال هاته الأفكار، إلى تقديم رؤية تتجاوز الثنائيات المبسطة والقراءات الاختزالية، نحو فهم أعمق للتحولات الاستراتيجية التي أحدثتها هذه الأحداث على مستويات متعددة. إن النظر إلى ما حدث من زاوية واحدة، أو اختزاله في “كشف الأقنعة” وفضحها فقط، يغفل التأثيرات العميقة والمتشعبة التي ستمتد لعقود قادمة.
تنطلق هاته الأفكار من فرضية أساسية مفادها أن الأحداث المفصلية في التاريخ لا تُقاس فقط بنتائجها المباشرة والآنية، بل بقدرتها على إحداث تحولات في الوعي الجمعي، وإعادة تشكيل المعادلات السياسية والاستراتيجية، وفتح آفاق جديدة كانت مغلقة سابقا. وعليه، فإن التقييم الموضوعي يتطلب رؤية شاملة تجمع بين التحليل العقلاني المتوازن والإدراك العميق للأبعاد النفسية والقيمية للأحداث.
ففي عالم تتشابك فيه العوامل الجيوسياسية مع التطلعات الشعبية والهويات الثقافية، تكتسب قراءة “طوفان الأقصى” أهمية استثنائية، ليس فقط لفهم ما حدث، بل لاستشراف مستقبل المنطقة والعالم في ضوء هذه التحولات العميقة.
1- الاختبار الحاسم: عندما تحول الأحداث الكبرى الشكوك إلى يقين
لا يمكن تقليص قيمة الأحداث الكبرى كـ”طوفان الأقصى” بمجرد القول إن نتائجها كانت متوقعة، ثمة فارق جوهري بين مجرد الشك في المواقف، وبين تجلي الحقائق بشكل قاطع لا يقبل التأويل أمام الرأي العام. يعلمنا التاريخ أن الأحداث المفصلية، تغير مسارات الأمم ليس فقط بكشفها لحقائق جديدة، بل بوضعها الجميع أمام اختبار عملي حاسم.
التوقع النظري لموقف دولة ما يختلف تماما عن رؤية هذا الموقف يتجسد في قرارات وسياسات معلنة، فعندما تتكشف المواقف الحقيقية للأنظمة والدول في لحظات الأزمات الكبرى، فإنها تصبح حقائق دامغة لا تقبل التأويل أو التشكيك. هذه اللحظات الفارقة تضع الجميع – قادة وشعوبا ومؤسسات دولية – أمام مرآة صادقة تعكس حقيقة مواقفهم بعيدا عن الخطابات الدبلوماسية المنمقة والشعارات البراقة.
2- تجاوز النتائج المباشرة إلى التأثير الاستراتيجي
اختزال ما حدث في مجرد “كشف الأقنعة” يمثل رؤية قاصرة للأحداث الكبرى، القيمة الحقيقية لهذه الأحداث تتجاوز النتائج المباشرة إلى تأثيرها البعيد المدى في:
أ- إعادة تشكيل الوعي الجمعي: لقد أسهمت الأحداث في تغيير جذري في وعي الشعوب العربية والإسلامية، وحتى العالمية، تجاه القضية الفلسطينية، وأعادت الاعتبار لها كقضية مركزية بعد محاولات تهميشها. هذا التحول في الوعي ليس مجرد عاطفة عابرة، بل تغيير في منظومة الإدراك الجمعي؛ التي ستؤثر في مسارات العمل السياسي والثقافي لعقود قادمة إن شاء الله.
ب- تغيير المعادلات السياسية والعسكرية: كشفت الأحداث عن خلل استراتيجي في نظريات الأمن الإقليمي، وأحدثت شروخا في جدار الردع الإسرائيلي الذي طالما اعتُبر غير قابل للاختراق، هذه المعادلات الجديدة ستؤثر حتما في حسابات جميع القوى الإقليمية والدولية عند رسم استراتيجياتها المستقبلية.
ج- إعادة ترتيب الأولويات الإقليمية والدولية: أجبرت الأحداث العالم على إعادة الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وأثبتت أن محاولات تجاوزها أو القفز عليها لن تؤدي إلى استقرار حقيقي في المنطقة، هذا يعني إعادة النظر في مسارات التطبيع والتحالفات الإقليمية والاستراتيجيات الدولية تجاه الشرق الأوسط.
د- كسر حاجز الخوف والعجز: أحد أهم التأثيرات الاستراتيجية هو تحطيم الشعور بالعجز والاستسلام للأمر الواقع الذي ساد لعقود، هذا التحول النفسي يمثل قوة دفع هائلة نحو تغيير مستقبلي سيتجلى في أشكال متعددة من العمل السياسي والمجتمعي.
3- الثمن الحتمي للتغيير التاريخي
كثير من المحللين والمثقفين يصفون الجهود والتضحيات بأنها “إسراف في مطلوب بخس”؛ ينطوي هذا الكلام على تبسيط مخل للواقع، التاريخ يشهد أن كل تحول جذري ارتبط دائما بتضحيات كبيرة، الثورات التحررية ضد الاستعمار، على سبيل المثال، لم تكن “مبالغة” رغم التكلفة الباهظة، لأنها كانت ضرورية لبناء المستقبل وتحقيق التغيير المنشود.
التحولات الكبرى في التاريخ – من الثورة الفرنسية إلى حركات الاستقلال في أفريقيا وآسيا وبعض دول أمريكا اللاتينية – جميعها دفعت أثمانا باهظة، لو تم تطبيق مقياس “الكلفة مقابل العائد المباشر”، لاعتبرنا معظم هذه التحولات غير مجدية اقتصاديا. لكن قيمتها الحقيقية تكمن في تأسيسها لمراحل تاريخية جديدة وإعادة تشكيلها للهويات الوطنية والإقليمية.
لذلك فالأحداث الجسام ليست مجرد معارك عسكرية محدودة، يمكن قياس نتائجها بالأرقام والمكاسب المادية المباشرة، بل هي محطات تأسيسية؛ تضع الأسس لمراحل تاريخية جديدة، وتفتح آفاقا كانت مغلقة، وتخلق إمكانيات لم تكن متاحة من قبل.
4- التوازن بين العقلانية والفعل
العقلانية المطلوبة في تحليل الأحداث يجب ألا تقع في فخ الإحباط أو التقليل من قيمة العمل الجماعي، لأن التغيير الاستراتيجي يحدث عبر تراكمات متعددة وتفاعلات معقدة بين الفعل ورد الفعل، وليس دفعة واحدة وفق معادلة خطية بسيطة.
لذلك فـ”العقل الناقد” ليس مدعوا للوقوف موقف المتفرج السلبي أو الناقد المتعالي، بل للمساهمة في فهم أعمق للأحداث وسياقاتها، ودراسة تداعياتها المحتملة، واستشراف مساراتها المستقبلية، تشمل العقلانية الحقيقية القدرة على تجاوز الثنائيات الزائفة بين المثالية والواقعية، بين الحماس والتروي، بين القيم والمصالح.
يدرك التحليل العقلاني المتوازن أن التغيير التاريخي لا يخضع للمعادلات الرياضية البسيطة، وأن لحظات التحول الكبرى تنطوي دائما على عناصر غير متوقعة، وتفتح مسارات جديدة لم تكن في الحسبان، هذا ليس دعوة للتخلي عن العقلانية، بل لتوسيع مفهومها ليشمل فهما أعمق للديناميات الاجتماعية والسياسية والنفسية المعقدة والمتشابكة.
5- ضرورة التكامل بين العاطفة والتحليل الاستراتيجي
الجانب العاطفي لا يتعارض بالضرورة مع التحليل العقلاني للأحداث، والمشاعر الجمعية تشكل جزءا من صناعة القرارات المصيرية، جنبا إلى جنب مع الحسابات الاستراتيجية والمصالح السياسية.
المشاعر الجمعية – من غضب وحماس وتضامن – ليست مجرد ردود فعل عاطفية عابرة، بل هي قوى محركة للتاريخ، وعناصر أساسية في بناء الإرادات السياسية والمجتمعية. فكل التحولات الكبرى في التاريخ اقترنت بمشاعر جمعية قوية، من الثورة الفرنسية إلى حركات التحرر الوطني وصولا إلى الربيع العربي.
العاطفة والعقل ليسا خصمين متنافرين، بل قوتان متكاملتان في بناء الوعي الإنساني وتوجيه الفعل البشري، العاطفة بدون عقل قد تؤدي إلى اندفاع أهوج، والعقل بدون عاطفة قد ينتهي إلى برود وعجز عن الفعل. لكن المطلوب هو التكامل بينهما في رؤية استراتيجية متوازنة تستفيد من قوة المشاعر الجمعية وتوجهها بروح عقلانية متبصرة.
6- التأثير على منظومة القيم والمفاهيم السائدة
الأحداث الكبرى لا تغير فقط موازين القوى المادية، بل تؤثر أيضا في منظومة القيم والمفاهيم السائدة، فمعركة “طوفان الأقصى” أعادت الاعتبار لمفاهيم مثل الكرامة والسيادة والمقاومة، وشككت في مفاهيم أخرى مثل “السلام الاقتصادي” و”التطبيع مقابل الازدهار”.
هذه التحولات في منظومة القيم والمفاهيم ليست ثانوية، بل هي جوهر التغيير الاستراتيجي، لأنها تحدد كيف يفكر الناس، وكيف يضعون أولوياتهم، وما هي الخيارات التي يرونها متاحة أو مستحيلة. تغيير “ما هو ممكن” في المخيلة الجمعية هو بداية تغيير الواقع نفسه.
على سبيل الختم: نحو رؤية شاملة بانية للمستقبل
“طوفان الأقصى” حدث يستدعي قراءة استراتيجية متكاملة، تتجاوز الاختزال نحو تقييم عميق لتأثيراته على المستويات السياسية والمجتمعية والاستراتيجية على المدى البعيد، هذه القراءة تتطلب:
1. فهم السياق التاريخي: وضع الأحداث في سياقها التاريخي الممتد، وليس فقط في سياق اللحظة الراهنة.
2. تجاوز الثنائيات المبسطة: الابتعاد عن ثنائيات النصر/الهزيمة، الربح/الخسارة، العقل/العاطفة، وتبني فهم أكثر تعقيدا للديناميات المتشابكة والمعقدة.
3. استشراف المستقبل: تحليل المسارات المحتملة للأحداث، واستكشاف الفرص والتحديات الناشئة عنها.
4. التفكير الاستراتيجي: النظر إلى ما وراء النتائج المباشرة والبحث في التأثيرات طويلة المدى على البنى السياسية والاجتماعية والثقافية.
5. البناء على التحولات الإيجابية: استثمار التغيرات الإيجابية في الوعي والمواقف، وتوظيفها في بناء استراتيجيات أكثر فعالية للمستقبل.
إن الأحداث المفصلية مثل “طوفان الأقصى” هي منعطفات تاريخية، لا يمكن فهم تأثيراتها الحقيقية إلا بعد سنوات أو عقود، ما نشهده اليوم ليس سوى البدايات الأولى لتداعيات ستستمر في التشكل والتبلور عبر الزمن، مؤثرة في الخرائط السياسية والعقلية والثقافية للمنطقة والعالم.