وردت الآية الكريمة في أقصر سورة في القرآن الكريم، وهي سورة الكوثر، عدد آياتها ثلاث آيات، تتكون من عشر كلماتٍ واثنين وأربعين حرفاً، لكنها تحمل بين طياتها معاني وعبر كثيرة. افتتحت السورة بقوله تعالى: إنا أعطيناك الكوثر، والكوثر نهر أعطاه الله عز وجل لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم في الجنة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “بيْنَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ذَاتَ يَومٍ بيْنَ أظْهُرِنَا إذْ أغْفَى إغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: ما أضْحَكَكَ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ: بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إنَّا أعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ (2) إنَّ شَانِئَكَ هو الأَبْتَرُ [الكوثر: 1 – 3]، ثُمَّ قالَ: أتَدْرُونَ ما الكَوْثَرُ؟ فَقُلْنَا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: فإنَّه نَهْرٌ وعَدَنِيهِ رَبِّي عزَّ وجلَّ، عليه خَيْرٌ كَثِيرٌ، هو حَوْضٌ تَرِدُ عليه أُمَّتي يَومَ القِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، فيُخْتَلَجُ العَبْدُ منهمْ، فأقُولُ: رَبِّ، إنَّه مِن أُمَّتي فيَقولُ: ما تَدْرِي ما أحْدَثَتْ بَعْدَكَ”. زَادَ ابنُ حَجرٍ، في حَديثِهِ: بيْنَ أظْهُرِنَا في المَسْجِدِ. وقالَ: ما أحْدَثَ بَعْدَكَ. وفي رواية: أغْفَى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ إغْفَاءَةً، بنَحْوِ حَديثِ ابْنِ مُسْهِرٍ غيرَ أنَّه قالَ: نَهْرٌ وعَدَنِيهِ رَبِّي عزَّ وجلَّ في الجَنَّةِ عليه حَوْضٌ ولَمْ يَذْكُرْ آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ” (صحيح مسلم، رقم 400). كما تعني الخير الكثير، قال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال في الكوثر: هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيّاه. قَالَ أَبُو بشْر: قُلْتُ لِسَعِيدٍ بنِ جُبَيْرٍ: فَإِنَّ نَاسا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَّنَّةِ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَّنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاه (صحيح البخاري، رقم 4966). والخير الكثير بأنواعه الإيماني والمادي والمعنوي.
فلما كان العطاء من الله عز وجل كثيرا أمر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالصلاة والنحر شكرا لله وتقربا إليه، قال الطبري في تفسيره هذه الآية: “فتأويل الكلام إذن: إنا أعطيناك يا محمد الكوثر، إنعاماً منا عليك به، وتكرمة منا لك، فأخلص لربك العبادة، وأفرد له صلاتك ونُسُكَك، خلافاً لما يفعله من كفر به، وعبد غيره، ونحر للأوثان” (جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري).
وقال الزمخشري: “والمعنى أُعْطيتَ ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك، ومعطي ذلك كله أنا إلٰه العالمين، فاجتمعت لك الغبطتان السنيتان؛ إصابة أشرف عطاء، وأوفره، من أكرم مُعط وأعظم مُنعم، فاعبد ربك الذي أعزّك بإعطائه، وشرَّفك وصانك من منن الخلق، مراغماً لقومك الذين يعبدون غير الله، وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت، مخالفاً لهم في النحر للأوثان” (الكشاف، الزمخشري).
وقد منّ الله عز وجل على أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعطائه وجوده وكرمه سبحانه وتعالى في الأيام العشر الأُوَل من ذي الحجة بأن جعل العمل الصالح فيها أحب إليه من غيرها، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: “ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيهنّ أحبُّ إلى اللهِ من هذهِ الأيامِ العشرِ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ولا الجِهادُ في سبيلِ اللهِ، إلا رجلٌ خرجَ بنفسه ومالِهِ، فلم يرجعْ من ذلكَ بشيء” (سنن الترمذي، رقم 757). وفيها يوم عظيم؛ يوم العتق من النار والمباهاة بأهل الموقف، إنه يوم عرفة، لِما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمِ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟” (صحيح مسلم، رقم 1348).
فلما كان عطاء الحنان المنان لا يعد ولا يحصى في هذه الأيام المباركة، جاء بعدها يوم النحر شكرا لله تعالى على نعمه ومننه، فكانت صلاة العيد ونحر الأضاحي والهدايا أكثر ما يميز هذا اليوم العظيم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود: “إنَّ أعظمَ الأيامِ عندَ اللهِ تباركَ وتعالى يومُ النحرِ ثمَّ يومُ القَرِّ” (سنن أبي داود، رقم 1765). وخصت هاتين العبادتين بالذكر لأفضليتهما بين العبادات، ولأنهما من أجلّ القربات، فالصلاة صلة للعبد بربه عز وجل بما تتضمنه من خضوع للقلب والجوارح لله تعالى، كما في النحر بذل للمال الذي جبلت النفوس على محبته، قال ابن تيمية: “أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار، وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله” (مجموع الفتاوى، 4/463).
وبتتبع سيرته صلى الله عليه وسلم نجده قد قام خير قيام بهاتين العبادتين الجليلتين، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه لما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فسألته: لمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: “أَفَلَا أحِب أنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا” (رواه البخاري، 4557). كما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “ضَحَّى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بكَبْشينِ أمْلَحَيْنِ أقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُما بيَدِهِ، وسَمَّى وكَبَّرَ، ووَضَعَ رِجْلَهُ علَى صِفَاحِهِمَا” (أخرجه البخاري (5565)، ومسلم (1966)). وقال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (سورة الأنعام، 162).
فالتقي من عظّم شعائر الله تعالى باستحسان البُدن وأداء مناسك الحج والعمل الصالح الذي يرضي الله عز وجل، لقوله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فإنَّها مِنْ تَقْوَى القُلوبِ (سورة الحج، 32).
اللهم اجعلنا من المتقين.. آمين.
والحمد لله رب العالمين.