معاني التؤدة في القرآن الكريم والسنة العطرة

Cover Image for معاني التؤدة في القرآن الكريم والسنة العطرة
نشر بتاريخ

1. مقدمة

التُّؤَدَة والتأنِّي من شَمائِل الأنبِياء والمُرسَلِين – عليهم الصلاة والسلام – وفي هذا حَثٌّ على الاقتِداء بهم والتخلُّق بهذه الصفة الحميدة. وقد جعل – صلى الله عليه وسلم – التُّؤَدَة جزءًا من النبوَّة فقال – صلى الله عليه وسلم: “السَّمْت الحسن والتُّؤَدَة والاقتِصاد، جزءٌ من أربعة وعشرين جزءًا من النبوَّة” 1 .

لكن مدْح التُّؤَدة والتأنِّي خاصٌّ بأمور الدنيا فحسب، أمَّا أمور الآخِرة والتقرُّب إلى الله – تعالى- فالواجب فيها الإسراعُ والتعجُّل؛ يقول – صلى الله عليه وسلم: “التُّؤَدة في كلِّ شيءٍ خيرٌ، إلا في عمل الآخرة” 2 .

وقد حثَّنا ربُّنا – تبارك وتعالى – على المسارعة والمسابقة إلى الخير في عِدَّة آيات؛ فقال عزَّ وجلَّ: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 3 . وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدِّتْ لِلْمُتَّقِينَ. 4 .

2. التؤدة لغة واصطلاحا

التؤدة لغة الرزانة، والتريث، وما في معناهما من أخلاق الحلم، والصبر، والتحمل، والأناة، وضبط النفس، وطول النفس، وأهلية تحمل المسؤوليات، والاستمرار في الجهاد) 5 .

والتُّؤَدَةُ هي التأني والتمهل والرفق.

والصبر شعبة من التؤدة وفرع عنها، أو هي مظهر من مظاهره. وفي الصبر والتؤدة معنى التحمل ومطاولة المصاعب والشدائد واستعمال الوقت لحلها وتجاوزها. الصبر قوة، وهو من صفات الرجال أهل الإيمان والإحسان والكمال.

3. من معاني التؤدة: الصبر

قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل 6 . وقال له: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ 7 . وأحب سبحانه الصابرين كما يحب المحسنين فقال: وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ 8 .

الصبر عُدَّة المجاهدين لأنه يقتضي معية الله عز وجل. قال المجاهدون مع نبيهم الذين يجزمون بلقاء الله: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ. وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ 9 . قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ 10 .

4. من معاني التؤدة: العفو والصفح وكظم الغيظ

وحرَّض الحق عز وجل على السباق إلى الجائزة، وحدد شروطه، فقال جلت عظمته: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 11 .

قال القاضي عياض في كتابه “الشفا في حقوق المصطفى”: روي عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال في بعض كلامه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال:)رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً، ولو دعوتَ علينا بمثلها لهلكنا عن آخرنا، فلقد وُطِيء ظهرُكَ، وأُدْمِيَ وجهُكَ، وكُسِرتْ رباعيتُكَ، فأبَيْتَ أن تقول إلا خيراً، فقلت:)“اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”.

قال القاضي: انظر ما في هذا القول من جماع الفضل، ودرجات الإحسان، وحسن الخلق، وكرم النفس، وغاية الصبر والحلم؛ إذ لم يقتصر – صلى الله عليه وسلم – على السكوت عنهم حتى عفا عنهم، ثم أشفق عليهم ورحمهم ودعا وشفع لهم؛ فقال: (اغفر) ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله: (لقومي) ثم اعتذر عنهم بجهلهم؛ فقال: (فإنهم لا يعلمون)).

5. من معاني التؤدة: التبشير والتيسير

أخرج أبو داود عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدا من أصحابه في بَعض أمره قال: “بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا”” 12 . في رواية للبخاري عن أنس: “يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا”.

بوب البخاري في صحيحه في “كتاب الإيمان”: باب الدين يسر وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)“. وفي هذا الباب روى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “إن الدين يُسْرٌ، ولن يشاد الدينَ أحد إلا غلبه. فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغَدْوَة والرَّوْحَةِ وشيء من الدُّلْجَةِ”. وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح عن رجل من الأعراب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “خيرُ دينكم أيسرُه”.

6. من معاني التؤدة: الحلم والرفق والتواضع

والرفق في الأمور، ترك العجلة والخفة فيها، إن العَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويثني ويمدح قبل أن يجرب، ويندم بعدما يحمد ويمدح، ويعزم قبل أن يفكر، والعجل تصحبه الندامة أو تعتزله السلامة… وكانت العرب تكني عن العجلة “بأم الندامات”.

روى مسلم وأبو داود عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من يُحْرَم الرفق يُحرم الخير كله”. وفي رواية لمسلم: “إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه. ولا ينزع من شيء إلا شانه”. كما قال الشاعر:

قد يدرك المتأنى بعض حاجته… وقد يكون مع المستعجل الزلل

وعن أبي الدرداء- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من الخير”. قال النووي رحمه الله: أي: يحرم كل الخير الناشئ والناتج من الرفق، وغلظ القلب كما قال العلماء: هو عبارة عن تجهم وجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة).

والأمر بالرفق واللين ورد في كثير من آيات القرآن مما يدل على أنه الأصل في معاملة الناس، وأن الشدة والغلظة استثناء له موضعه وشروطه الدقيقة.

فمنها: قوله تعالى: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا 13 . قال ابن القيم في “مدارج السالكين” (327/ 2): أي سكينة ووقارا متواضعين غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين). قال الحسن: علماء رحماء). وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون وإن سفه عليهم حلموا).


[1] أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن سَرْجِس – رضِي الله عنه – وحسَّنَه الألباني في صحيح الجامع\
[2] أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث سعد رضِي الله عنه وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع\
[3] البقرة: 148\
[4] آل عمران: 133\
[5] المنهاج، ص290\
[6] سورة الأحقاف، الآية: 34\
[7] سورة النحل، الآية: 81\
[8] سورة آل عمران، الآية: 146\
[9] سورة البقرة، الآية: 249\
[10] سورة آل عمران، الآية: 159\
[11] سورة آل عمران، الآية: 134\
[12] الحديث رواه أيضا البخاري ومسلم\
[13] الفرقان\