معاناة نفسية مستمرة.. قصة الشاب “رشيد” الذي فقد أسرته في الزلزال

Cover Image for معاناة نفسية مستمرة.. قصة الشاب “رشيد” الذي فقد أسرته في الزلزال
نشر بتاريخ

من الأحداث المؤلمة في تاريخ الأفراد والمجتمعات ما يتجاوز الذات والموضوع ليبقى مرتبطا بالذاكرة، وما يطال الذاكرة يبقى أثرا من الآثار التي يؤرخ بها البشر لحياتهم، ويرويها الأجداد للأبناء والأحفاد، ويختلط فيها الواقع بالأسطورة.

بعد مرور أزيد من أسبوعين..

بعد مرور أزيد من أسبوعين على فاجعة الحوز، التي ضربت مناطق مغربية متعددة في الثامن من شتنبر 2023، ما تزال تداعياتها مستمرة، ولا نخال أنها ستنتهي قريبا، إذ منها ما هو موضوعي ومنها ما هو نفسي واقتصادي واجتماعي، خاصة وأننا مقبلون على موسم البرد والأهالي من الناجين لا يخفون خوفهم مما آلت إليه أوضاع صغارهم وكبار السن وهم في الخيام المنصوبة في العراء، وبين الشجر وفي سفوح الجبال.

تعددت فواجع الزلزال، وتنوعت أوجهها وصورها وأماكنها، لكن مآسيها اتّحَدَتْ ولم تفرق في قسوتها بين أرض وإنسان وحيوان…

عاينا قرى كثيرة من تلك المناطق، وسمعنا قصصا مؤثرة من أفواه أصحابها، منهم من فقد أفرادا من أسرته ومنهم من فقد أسرته بكاملها فبقي وحيدا. هي قصص إنسانية يشبه بعضها بعضا في أجزاء من تفاصيلها، لكن لكل فاجعة ما يميزها عن مثيلاتها…

ذكريات عائلة منجمعة.. شريط لا يفارق الذهن  

قصة رشيد صاحب 33 عاما بقرية إخفيس التابعة لجماعة تيزي نتاست إقليم تارودانت، هي واحدة من أقسى تلك القصص، بعدما فارق أحد عشرة أفراد من عائلته بمن فيهم أبوه وأخويه وأبناؤهم، ولم يتركوا له غير ما سطره في ذهنه من ذكريات لا تملك هي الأخرى إلا أن تزيده ألما فوق ألمه…

عاش الشاب ما عاشه كل المغاربة في تلك الليلة المشهودة، فبينما كان في مدينة الرباط حينما رجت الأرض تحت الجميع، وخرج الناس إلى الشوارع، كانت تلك الأرض في جبال الأطلس الكبير قد خسفت بعائلته، قبل إشاعة خبر مفجع، مفاده أن زلزالا ضرب المغرب، بقوة بلغت 7 درجات بسلم ريختر في منطقة الحوز وأخفت قرى هناك عن آخرها…

لم تكن تلك المنطقة وحيدة في معاناتها وفاجعتها، إذ أَنَّت معها قرى ودواوير بالعشرات على مر سلسلة جبال الأطلس، وامتدت من إقليم الحوز في اتجاه إقليم تارودانت وطالت قرابة 300 كيلوميترا، كلُّها متشابهةٌ مآسيها، وعم فيها الخراب والدمار، واستوطنت فيها رائحة الموت لأيام.

بناء بطابقين تركت فيه العائلة فأصبح وكأنه لم يكن

“تركت عائلتي هنا، أبي وأخوَيَّ بأولادهم جميعا في هذا البناء بطابقيه، لكنه الآن كما ترون أصبح وكأنه لم يكن”، يقول الشاب الذي يبدو وكأنه لم يستوعب بعد ما حصل.

رشيد أصغر إخوته، أحس بالمسؤولية بعدما أقعد المرض أكبر إخوته المريض بالقلب وقد أجرى له عملية لزرع الصمامات في مراكش بمساعدة المحسنين. وكان أبوه كبيرا في السن يشتغل بما يستطيع لحاما تارة، وأخرى مصلحا للأجهزة الإلكترونية خاصة الراديو والتلفاز، وفق فهمه وعصاميته…

يشتغل الشاب رشيد بالليل والنهار مساعدا لتاجر بالرباط، وكان سندا لأسرته، يرسل ما جاد به عليه المولى من فينة لأخرى، وكان يمني النفس كي تتحسن أوضاع عائلته التي تركها بين جبال تيزي نتاست في سلسلة جبال الأطلس الكبير، لكن أمله تبدد ودفن هناك في سفح الجبل، مع تلك العائلة التي اقتطعت ما اقتطعته من قلبه ونقلته إلى الذاكرة…

تصلبت أطرافي وما عاد لي إحساس

“لما وقع الزلزال بعد الحادية عشرة ليلا، أحسَسْنا به في الرباط، وبدأ الجميع اتصالاتهم بأهاليهم للاطمئنان عليهم مثلما فعلت أنا أيضا، لكنني اتصلت وأعدت أكثر من عشر مرات فلم يجبني أحد. وقع في نفسي ما وقع وقلت لوالدتي سأذهب في الحال لأطمئن، فتركتها هناك وذهبت لأبحث عن وسيلة نقل، فلم أبلغ القرية إلا قرابة الثانية عشرة ظهرا من يوم السبت”.

من محاسن القدر أن والدته اصطحبها معه إلى الرباط وقد أجرت عملية جراحية لإزالة عتامة العين “الجلالة” وبقيت هناك تتماثل للشفاء، لتبقى هي أكبر ذكرى وأفضل مواساة يتقاسم معها المرارة والحزن والأسى إلى أن يشاء الله…

يحكي رشيد فيقول: “لما دخلت القرية بعد اثنتي عشرة ساعة من السفر من وسيلة لأخرى بعضها على قدم، ألتَقي أهل القرية فأسمع منهم: عظم الله أجرك، عظم الله أجرك. أسأل: من منهم؟ فأسمع إجابة لا أفهمها ولا أستسيغها: كلهم جميعا، فما عادت لي أرجل أستطيع الصعود بها، تصلبت أطرافي وما عاد لي إحساس…”.

أعرف أنني في حاجة ماسة لكي أعرض نفسي على طبيب نفسي

يقول بقلب يعتصره الحزن والألم المرير: “وجدتهم ما يزالون تحت الأنقاض غير أخي وأبي، فرغم أن الناس هم من أغاثوا بعضهم، إلا أنهم منشغلون أكثر بانتشال عوائلهم أولا، أزلت ملابسي وبدأت أحفر لانتشال الباقين، كان أحد أخوَيَّ حاضنا لابنته تحت التراب، وزوجة أخي حاضنة لأبنائها أيضا، لقد حاولَتْ الحفاظ عليهم…”.

أخرج المتطوعون أخاه الأكبر قبل وصوله، وبقي يعاني قرابة ساعة، لكن مع غياب الإسعاف تضاعفت حالته، ولما سأل عن أبنائه وزوجه وأبيه وأخبروه بوفاة الجميع، وأنهم ما يزالون تحت الأنقاض، اجتمعت في قلبه مرارة عجلت بوفاته.

أعرف أنني في حاجة ماسة لكي أعرض نفسي على طبيب نفسي، يقول المتحدث مضيفا: “فمنذ تلك الليلة لم أستطع النوم إلا إذا أخذت مهدئات للأعصاب، وما حل بنا صعب علي استيعابه، فأن تكون ذا عائلة كبيرة تنتظر قدومك في كل مناسبة لتشاركك فرحك وحزنك، ثم تصبح وحيدا أعزل على هاته الشاكلة، فهو أمر يحتاج وقتا طويلا للتعايش معه”.

كانت زوجة أخي حاملا في شهرها التاسع…

يصور الشاب المكلوم ببُحَاح صوته المجروح ذلك المشهدَ ونتصوره معه، فما نملك جميعا في لحظة الضعف تلك، إلا أن نشاركه حزنه وما يشعر به من ألم ومرارة.

يتنقل رشيد فوق الركام وبالكاد يقوى على الحديث: هنا أخرجنا أخي، وهنا رقد أبي، وهنا زوجة أخي مع أبنائها، وهنا زوجة أخي الآخر كانت تطعم أبناءها أثناء الكارثة وما يزال الطعام في يدها…

كانت إحدى زوجتَي أخوَيه حاملا في شهرها التاسع، يقول رشيد مفجوعا، ثم يُتِمُّ عنه أحد أهل القرية الحاضرين حديثه فيقول: “لعلها وَلدت تلك الليلة لكنهما لم يعيشا”.

أبناء إخوته ملائكة أبرياء مجتهدون

يستحضر وهو يتحدث عن أبناء إخوته، شريطا من الذكريات الأليمة القاسية، كيف كانوا ملائكة أبرياء، وكانوا أملا لكل العائلة، كيف كانوا يجتهدون في دراستهم، ثم يتحدث بحرقة عن استقبالهم إياه وتسابقهم لأحضانه في كل قدوم وعودة من السفر، ثم ينهار متأثرا…

كيف أخبرت والدتك بعد الذي حصل؟ نسأل المتحدث، الذي يرى أن معاناتها وصعوبة وضعها أسوأ مما هو فيه، كيف لا وهي أم ثكلى، فقدت الزوج والأبناء والأحفاد، يقول مجيبا ودمعة العين تسبقه: “لم أخبرها حينها بشيء وبت أفكر كيف أخبرها، اتصلت بأحد الأصدقاء هناك في الرباط وطلبت منه إحضارها دون إخبارها بشيء…”.

كان الشاب يخشى على والدته ومن ردة فعلها بعد الذي وقع، وهي من مرضى السكري، وتسقط من حين لآخر، كما أنها حديثة عهد بجراحة العينين، فكيف ستواجه هذه الكارثة، يتساءل ابنها وهو أعزل إلا من إشفاقه ورحمته وبره بها، ومن كثرة تأثره وهو يحكي كيف رأت وعاينت المشهد، لم يستطع مواصلة الحديث واكتفى بأنه أرسلها إلى أولاد برحيل قرب تارودانت لتمكث هناك إلى أن يهدأ الوضع قليلا…

صهر مواس مكلوم.. كنا عائلة واحدة 

بين ليلة وضحاها وجد الشاب وأمه نفسيهما وحيدين في معاناتهما تلك، ولم يجدا إلا تعاطف أهل القرية، المكلومِ كل منهم على شاكلة، لكنه أيضا وجد إلى جانبه صهره عبد الحق الذي فقد أخته تحت أنقاض ذلك المنزل. هو من أهل القرية الذين اضطروا لمغادرتها من أجل لقمة عيش آمنة له ولأبنائه، لكن ارتباطه ذاك لم ينقطع، فقد سابق الزمن وجاء من بعيد ليواسي صهره المتبقي ويقف إلى جانبه.

عبد الحق الذي يبدو في الأربعين من عمره، يتحدث بقلب يعتصره الحزن والأسى وهو ينظر في وجه صهره، يتحدث بلهجة الصبر والإيمان بقضاء الله وقدره فيقول: “لم أجد وسيلة للنقل من ولاد برحيل إلى هنا فقد انقطعت الطريق وسقطت الأحجار عليها فاضطررت إلى المسير مسافة طويلة ليلا على الأقدام، قلوبنا تقطعت لمن ماتوا، وتقطعت أكثر لمن بقوا، فهم من يتعذب في هذه الكارثة…”.

رغم مرور أزيد من ستة أيام على الزلزال لم يستطع عبد الحق مغادرة القرية واللحاق بأبنائه، وأبى إلا أن يبقى بالقرب من صديقه مواسيا معينا مثبتا، يتحدث عن الأسرة فيقول: “لم يكونوا أصهاري، وإنما كانوا إخوتي، وكنا عائلة واحدة، كان الاطمئنان يعم البيت؛ يفرحون بنا أي فرح، فكم تمارحنا وكم تسامرنا. كانت تجمعهم علاقة رائعة فيما بينهم.”

ثم يضيف: “يصعب في هذا الزمان أن تجد إخوة متزوجين يعيشون في منزل واحد مع أبنائهم وزوجاتهم إلا إذا كانوا إخوة حقا، يعطف بعضهم على بعض ويعين بعضهم بعضا ويكفل الواحد منهم الآخر، وهذا البيت منذ عهدته قبل أكثر من 15 سنة وهو على هاته الحال”.

فعل الزلزال فعلته ونبه إلى ما ينبغي التنبيه إليه

فعل الزلزال فعلته، ونبه إلى ما ينبغي التنبيه إليه. قرى نسيها التدبير الرسمي وهمشها وأقبرها بين جبال الأطلس، وأبى التدبير الإلهي إلا أن يراها العالم، ويروا كرمهم وطيبوبتهم رغم كل المآسي. فهل يلتقط الإشارة ملتقط؟ وهل يتعظ أهل السياسة والإدارة ويعطوا الحق لأهله كاملا غير منقوص؟

يتحدث رشيد عن حاله وحال القرية بأسف بالغ، يتحدث عما حل بها بالزلزال وقبله أيضا، ثم يتساءل: مَن مِن المغاربة يعرفها ويعرف كل تلك المناطق المعزولة، حيث لا مسالك طرقية تليق بها ولا فرص للشغل تضع شبابها في الاعتبار، ولا مستوصفات تنقذ أهاليها ونساءها…

الشاب الذي اضطر إلى مغادرة الدراسة في سن مبكرة ليعول أسرته، هو نموذج لآلاف من الشباب في كل تلك القرى وفي المغرب العميق، الذين حملتهم ظروف الفقر وقلة ذات اليد لآبائهم إلى الهدر المدرسي مكرهين، وهم في ذلك أحد تجليات السياسات التدبيرية العرجاء للدولة لاسيما في العالم القروي، الذي لا يُرى في أبنائه إلا كونهم خزانا انتخابيا، ورقما إحصائيا لا يتجاوز ذلك لكي يصير محط اهتمام وينال نصيبه من أموال المشاريع الكبرى وأوراش التنمية الحقيقية التي تعود بالنفع على تلك البلاد وعلى عبادها، وتكفيهم شر الارتباط الحتمي بـ”المغرب النافع” بعيدا عن مواسم الكذب على الذقون بدعم أو صدقة لا تزيدهم إلا وهنا وفقرا وهشاشة…