معالم في المفهوم المنهاجي للعمل والكسب عند الأستاذ عبد السلام ياسين

Cover Image for معالم في المفهوم المنهاجي للعمل والكسب عند الأستاذ عبد السلام ياسين
نشر بتاريخ

مفهوم العمل والكسب من المفاهيم المركزية في سيرورة الإنسان التي تناولها المفكرون عبر العصور من زوايا متعددة ومتباينة، تتراوح بين الدينية والفلسفية والاقتصادية.

فابن خلدون اعتبر العمل أساس العمران البشري، وهو الذي طرح مفهوم ”قيمة العمل” كمصدر للثروة.

أما كارل ماركس فقد نظر للعمل كمصدر للقيمة والاستغلال، واعتبر النظام الرأسمالي يحول العامل إلى سلعة، ودعا إلى ثورة العمال لاستعادة حقوقهم.

فيما رأى آدم سميث في العمل أساس الثروة الأممية، وطرح مفهوم “اليد الخفية” للسوق، وأكد على أهمية التخصص في العمل.

ماكس فيبر من جانبه ربط بين الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، واعتبر العمل المهني نوعاً من العبادة.

بينما أضاف أنتونيو غرامشي البعد الثقافي لمفهوم العمل، وتحدث عن هيمنة الطبقة الرأسمالية عبر أدوات الثقافة.

أما عند الأستاذ عبد السلام ياسين فيعد مفهوم “العمل والكسب” ركنًا أساسيًا في مشروعه الفكري التربوي والسياسي، حيث يربط بين الجهد المادي والتربية الروحية، ويؤسس لرؤية إسلامية متكاملة للاقتصاد والأخلاق.

مرمى هذه المقالة عرض بعض المعالم المنهاجية لمفهوم العمل والكسب عند الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله، والمناسبة شرط كما يقال ونحن نعيش مطلع شهر ماي الذي تحتفل خلاله الشغيلة عبر العالم بعيدها الأممي مستعرضة إنجازاتها ومطالبها وعوائق الحفاظ على مكاسبها وتحصيل حقوقها، في عالم يتوجه بسرعة أكبر نحو حروب تجارية وسياسات حمائية وما ينتج عنها من كوارث اقتصادية واجتماعية تستهدف بالأساس القوى العاملة عبر العالم.

1- ”العمل” في الفكر المنهاجي ”عبادة وجهاد”

العمل ليس مجرد وسيلة لكسب الرزق، بل هو “جهاد” في سبيل عمارة الأرض وتحقيق العبودية لله، ويُربط العمل بالنية الإيمانية، فيصبح “كسب الحلال” ضربًا من ضروب الطاعة والقربى إلى الله.

– ينتقد الأستاذ عبد السلام ياسين الفصل بين “العمل الدنيوي الكسبي” و”العمل التعبدي”، لأن المنهاج النبوي يجعل كل عملٍ مشروعٍ عبادةً إذا صحت النية، حيث قال: ”يطلب المنهاج العلم لينحُوَ به المنحى العلمي الإجرائي، ويطلب الإنسان ليوضح له الطريق ويحفزه للعمل، ويطلب العمل ليبرمجه ويمرحله، ويطلب الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في العالم وفي الأمة، ليخطط مرامي العمل ومفاصله، ويطلب الأهداف الدنيوية والغاية الأخروية، ليضعها على خط واحد لا تتناقض ولا تتنافر، ويطلب المجموع لينسق الجهود ويوجهها” 1.

ويتساءل: ”فما السبيل إلى أن تقترن إرادتنا لله والآخرة بالإرادة الجهادية القائمة أسبابها على العمل الدنيوي التصنيعي التكنولوجي التنظيمي؟ مهما نَحِدْ عن تربية القرآن وأحضان النبوة نَزِغْ عن الطريق” 2.

2-  عدل في الكسب وعدل في توزيع الأرزاق

“العدل كلمة جامعة ومطلب أساسي في عصر أصبحت فيه قسمة الأرزاق وإنتاجها وتمويل عملية التنمية وتنظيم ذلك تحديا قاتلا في وجه الأمة” 3.

ينتقد الأستاذ عبد السلام ياسين النظام الرأسمالي الذي يكرس الفوارق الطبقية، ويطرح بديلاً قائمًا على “اقتصاد الكفاية والقوة” الذي يحقق الاكتفاء الذاتي للأمة مع الحفاظ على القيم الأخلاقية.

”فلوجود القصد الإيماني الإحساني عند الفرد وعند المجتمع المسلم يحرص المالك والعامل والـمُدَبِّرُ على أن يكون له من الدنيا نصيبُه الحـلالُ، لا يَظلم ولا يَقْبَل الظُّلم، وعلى أن يُعِفَّ نفسه وعائلَتَه، وعلى أن يبني القوة التي أمر بإعدادها. فكل الجهود عندئذ تصُبُّ في اتجاه اقتصاد الكفاية والقوة” 4.

3- نقد “العقل المعاشي”

يقدم الأستاذ عبد السلام ياسين نقدًا لـ”العقل المعاشي” (العقل المادي المحض الذي يفصل بين العمل والقيم الروحية)، ويدعو إلى “تعقيل الاقتصاد بالإيمان”، العقل المعاشي الذي يبني المصانع ويبتكر أحدث تكنولوجيا العصر، لكنه يقف عاجزا عن بناء الإنسان والاستجابة لمطالبه المادية والروحية مجتمعة.

أورد في كتاب تنوير المؤمنات: ”العقل المعاشي المشترك بين الكافرين والمؤمنين يسيطر بمنجزاته العلومية الصناعية. فلهذا العقل صولة في العالم وحضور ماثل تجسده الاختراعات والمصنوعات والصواريخ. يملأ ذلك أعين الناس وآذانهم، ويسكن هواجسهم.

عقلانية علومية تنظيمية هي في حوزة غيرنا. تتقمصها العقلانية الفلسفية وتحتج بها لتُؤكد للإنسان أنه إنسان لأنه يفكر، ويخترع، ويصنع.

لا مكان في بلاد العقلانية الفلسفية لطرح سؤال المعنى والوجود والغاية. لأن الضجيج الذي أحدثته العقلانية الأخرى يغطي على همس الفطرة ويسكت صوتها ويُنسي سؤالها” 5.

4- تكافل معاشي وتضامن أخوي

بفعل التحولات البشرية الناتجة عن الانتقال من نمط إنتاج زراعي إقطاعي إلى نمط إنتاج صناعي رأسمالي، وجدت الطبقات العاملة نفسها في مواجهة أوضاع هشة نتيجة الاستغلال الفاحش لقوة عملها والاعتداء على حقوقها، الشيء الذي دفع المهتمين والمفكرين للبحث عن صيغ تضامنية تكافلية.

رزية كبرى أن يجد الأجير نفسه عاجزا عن الإنفاق على نفسه وإعالة أسرته بسبب التوقيف المؤقت عن العمل أو التسريح أو الطرد، تتقاذفه الفاقة وتنهشه الخيبة من أناس وقف مدافعا عن حقوقهم فلا هم قدروا نضاله بتكافل معاشي ولا النقابات تبنت ملفه.

ينظر الأستاذ عبد السلام ياسين لهذا الأمر بشمولية فيقول: “نظام الفتنة، بل فوضاها، مرتكز على الاستبداد السياسي، والاحتكار الاقتصادي، والهوى الأناني. والجهد المطلوب لكي يحول ويبدل إلى اقتصاد مركز على خدمة الإنسان والمجتمع كبير. جهد لينهض الإنسان من كسله وعبوديته للبشر فيصبح منتجا حرا واعيا بوظيفته وشرفها. جهد لإنصاف العامل من صاحب المال. جهد لتنظيم العمال وتنمية التضامن النقابي. جهد لتحرير الشعب من استعلاء الحاكم وصنائعه. جهد لفك الطبقية المستغلة لجهود الناس” 6.

5- إتقان العمل

يدل لفظ «الإحسان» على معاني ثلاثة ورد بها القرآن ووردت بها السنة؛ إحداها إحسان العمل وإتقانه وإصلاحه، سواء العمل العبادي أو العمل الحرفي أو الفكري أو التقني أو غيره.

يتساءل بهذا الصدد الأستاذ عبد السلام ياسين عن كيفية إتقان الصنعة فيقول: “كيف نضفي على الكدح الدنيوي معنى العمل الصالح المدَّخر للآخرة؟ كيف نربي المسلمين والمسلمات العاملين كسبا ضروريا والعاملات ضرورة كسبية على إتقان الصنعة دون خيانة أمانات الصانع الخالق سبحانه؟” 7.

وبمقاربة شاملة ومتميزة يبرز الأستاذ عبد السلام ياسين في هذه الفقرة الارتباط بين إتقان العمل تقربا إلى الله وإتقانه ليحصل الأثر، فيقول: “وليتجسد الإحسان القلبي في مظهرين يسميان لغة وشرعا إحسانا. أحدهما البِرُّ والعطاء والسخاء والمواساة والإسعاف والعطف والحنان. والآخر إتقان العمل، كل عمل. إتقانه نيةً ليتقبله الله الذي إنما يتقبل من المتقين، وإتقانه إنجازاً وتنظيما ليحصل الأثر النفسي في العبادة الفردية والأثر السياسي الاقتصادي الاجتماعي” 8.

وختاما

يبقى التحدي الأكبر في تناول موضوع العمل والكسب هو تحقيق التوازن بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية ضمن إطار قيمي يحفظ كرامة العامل ولا ينسيه آخرته، وهو ما نجح فيه الأستاذ عبد السلام ياسين إلى حد كبير من خلال وضع رؤية متكاملة للعمل والكسب ضمن مشروعه الفكري، حيث يربط بين الجهد المادي والتربية الروحية، ويؤسس لاقتصاد إسلامي قائم على العدل والإحسان.


[1] كتاب مقدمات في المنهاج، ذ. عبد السلام ياسين، ص 39.
[2] كتاب الإحسان، ذ. عبد السلام ياسين، ج1، ص 106.
[3] ذ. عبد السلام ياسين، كتاب نظرات في الفقه والتاريخ، ص: 7.
[4] كتاب العدل، ذ. عبد السلام ياسين، ص 446.
[5] تنوير المؤمنات، ذ. عبد السلام ياسين، ج1، ص 201.
[6] كتاب في الاقتصاد، ذ. عبد السلام ياسين، ص 78.
[7] تنوير المؤمنات، ذ. عبد السلام ياسين، ج 1، ص 103.
[8] تنوير المؤمنات، ذ. عبد السلام ياسين، ج 1، ص 186.