معالم في السلوك إلى الله تعالى 3

Cover Image for معالم في السلوك إلى الله تعالى 3
نشر بتاريخ

اليقظة القلبية

قابلية التلقي

ها هو ذا تائبنا قد انتفض من غفلته وهب من غفوته فهو على عتبة مسار يطلب إليه الجد والمثابرة والصبر الجميل والإقدام والشجاعة ليتأمل معايب نفسه وينصرف إلى المطلب العالي لا يلتفت إلى شيء عنه ولا يبالي فيكون عن العلم النافع سؤاله ويكون همه مآله، يسير على درب هداه سيرا حثيثا لا يسمع لشيطان نفسه وهواه حديثا.

إنها الطريقة التي أمر الله عز وجل عباده الصالحين ليستقيموا عليها فيسقيهم الله من ماء فضله الغدق ويسلمهم من لجج الباطل ومهاوي الغرق.

وإذا هو قد أصبح من أفراد بني الإنسان الراشدين الهداة المهديين، عرف طريق الحق وإليه اهتدى ولحق بالصالحين و ببعض حللهم ارتدى.

إن اتباع طريق الصالحين من السلف هو ما توحي به الآية الكريمة التي أوصى الله عز وجل بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم في قوله عز من قائل: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده.

ذلك أن تائبنا مهما بلغ من مضاء العزيمة والرغبة في الخير ومهما شمر وفي معرات نفسه تدبر لن يذهب بعيدا إن ظن أنه يسلك إلى الغايات السامقة وحيدا. تجتاله شياطين الوهم وتغتاله أفانين الفتنة وتلهيه عن مقصده ويصرفه عن المورد العذب سراب الأماني وتسرقه بنيات الطريق عن تلك المعاني.

حتى إذا استوحش في وحدته وضجر من وعثاء السفر القلبي وشدته سمع نصيحة الرب الكريم عبده محمدا صلى الله عليه وسلم والصالحين من أمته في قوله تعالى: قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون.

ألا وإن من الخلائق من يشتري الضلالة بالهدى و يطول عليه من طريق الرشد المدى. قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون.

دع الراقد ينعم برقاده واسلك سبيل الرشد مع قصاده، ولله در القائل:

الطرق شتى وطرق الحق مفردة

والسالكون طريق الحق أفراد
لا يعرفون ولا تدرى مقاصدهم

فهم على مهل يمشون قصاد
والناس في غفلة عما يراد بهم

فجلهم عن سبيل الحق رقادوصية جميلة أن يرشد التائب وقد تحفز وشمر أذيال البطالة عن ساعد الجد.

ها هو ذا على أتم استعداد للعمل تلسعه من خلفه هذه الكلمة الجميلة للشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله لتلهب فيه مشاعر الغيرة وتوقد فيه لهيب الغضب أن وبخه هذا الرباني الجليل بقوله: أنت كسلان أنت جويهل … كم سمنت الدنيا مثلك وأكلته، سمنته بالجاه والكثرة ثم أكلته) 1 .

لا يزري شيخنا الجليل رحمه الله بأحد من خلق الله لكنه أسلوبه في استنهاض الهمم واستجماع الإرادات يزجرها عن التعلق بالدنيا لتتعلق بطلب ما عند الله عز وجل. يفعل ذلك رحمه الله وقد بلغ هو من زجر نفسه وعتبها والشد بخناقها أي مبلغ.

ثم يرفق رحمه الله بطالب الحق يدله على أول خطوة ينبغي أن يخطوها في السلوك إلى الله ويحذره من مغبة الإعراض عن مجالسة العلماء العاملين العارفين بالله إن هو استنكف أن يجلس إلى أحدهم مجلس التلميذ المحتاج إلى التعلم والاستفادة ممن سلكوا قبله ذلك الطريق الوعر، طريق اقتحام العقبة إلى الله عز وجل.

أولئك العلماء العاملون ذوو الاختصاص في تدقيق العلم وترقيق القلوب ينقذون الـغرقى في بحر الدنيا، يداوون المرضى … كن عند (أحدهم) إذا عرفته فإن لم تعرفه فابك على نفسك) 2 .

كم يبذل شيخنا الجيلاني رحمه الله من جهد وكم يستفيض من بلاغة ليحرك مكامن الحماسة عند قارئه. يؤنبه تارة ويسفهه طورا فيقول مثلا: أنت لقلقة، أنت لسان بلا جنان، أنت ظاهر بلا باطن، جلوة بلا خلوة، جولة بلا صولة. سيفك من خشب وسهامك من كبريت أنت جبان لا شجاعة لك أدنى سهم يقتلك، بقة تقيم عليك قيامتك) 3 .

ويخذل رحمه الله عن صحبة الغافلين ويحذر مؤنبا مبكتا مخاطبا التائب الراجي صلاح قلبه يقول: أنت ميت القلب وصحبتك أيضا لموتى القلوب عليك بالأحياء النجباء البدلاء أنت قبر تأتي قبرا مثلك ميت تأتي ميتا مثلك أنت زمن يقودك زمن مثلك أعمى يقودك أعمى مثلك) 4 .

وينبه الجيلاني رحمه الله إلى ما ينبغي للتائب الساعي لصلاح قلبه من آداب مع الصالحين يخرجونه من مصاطب الزمنى ومراتب العمي فيقول: اصحب المومنين الموقنين الصالحين واصبر على كلامهم واقبله واعمل به وقد أفلحت، اسمع قول الشيوخ واعمل به واحترمهم إن أردت الفلاح) 5 .

تلك كانت نصيحة العالم الرباني المتفجرة من قلبه النير وتجربته الشخصية وحرصه على نصح المسلمين النصيحة الكاملة المخلصة التي لا تحابي ولا تداري مهما كلف ذلك من شدة في القول وغلظة في التقريع.

وهذه كلمة عالم من حكماء المسلمين تسلك إلى مسالك العقل مسلك المنطق والإدلاء بالتجربة والاعتماد على الاطلاع وفسيح الإدراك. ذاك ما أثبته عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله قائلا بعد أن دل على ضرورة مجاهدة النفس: ثم اعلم أن افتقار هذه المجاهدات إلى الشيخ المعلم والمربي الناصح ليس على سبيل واحدة، بل هو في بعضها أكمل وأولى، وفي بعضها أحق وآكد، وفي بعضها أوجب، حتى إنه لا يمكن بدونه…).

ويقول رحمه الله مفصلا ما كان لخصه وأجمله: أما مجاهدة التقوى التي هي بالورع فلا يضطر فيها إلى الشيخ إنما يكفي فيها معرفة أحكام الله وحدوده أخذت من كتاب أو لقنت من معلم أو تدورست من أستاذ…)وأما مجاهدة الاستقامة التي هي التخلق بالقرآن وبخلق الأنبياء فمحتاجة بعض الشيء إلى الشيخ المعلم لعسر الاطلاع على خلق النفس، وخفاء تلونات القلب وصعوبة علاجها ومعاناتها…)فإذا يتأكد طلب الشيخ في حق صاحب هذه المجاهدة والاقتداء فيها بسالكها المطلع على عللها).

ثم يعقب حكيمنا ابن خلدون رحمه الله ليطرق بابا نفيسا من أبواب السلوك وما يعبره السالك من مسافة قلبية تلفحه أحيانا نيران المجاهدة وتلمع أطوارا في أفقه أنوار المكاشفة والمشاهدة فيقول رحمه الله: وأما مجاهدة الكشف والمشاهدة التي مطلوبها رفع الحجاب والاطلاع على العالم الروحاني وملكوت السموات والأرض فإنها مفتقرة إلى المعلم المربي وهو الذي يعبر عنه بالشيخ، افتقار وجوب واضطرار لا يسع غيره، ولا يمكن في الغالب حصولها بدونه).

قد يغنينا عن هذا كله التأمل فيما جاء في كتاب الله عز وجل من دليل واضح على ضرورة اتخاذ قدوة وأسوة شاهدة حية تمثل بصفاء قلبها وصدق استقامتها ذلك النموذج المثالي الذي بعثه الله سبحانه وتعالى رسولا عربيا مبينا بفصاحة لسانه فحوى رسالة ربه، عاملا بما جاء به من علم يتلى، بشرا قريبا من الناس ببشريته لا ملكا مستعليا بطبيعته السماوية.

وقد كان المشركون يحادون رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عرفوه صبيا فغلاما فشابا من شبابهم في ما حكى الله عز وجل عنهم: وقالوا لولا أنزل عليه ملك أو جاء معه نذير. وقال تعالى: وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون وقال عز من قائل: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون.

يرد الله سبحانه وتعالى عليهم اقتراحهم وتحديهم استدلالا بأن طبيعة الملائكة سماوية وأنتم يا معشر المشركين بشر من تراب فما كان لملك أن يتفاهم ويتعامل مع أهل الأرض وهم من طينة الأرض بينما منشأ الملك سماوي فأنى يلتقيان.

إن خلقة البشر غير مستعدة للتلقي إلا عن بشر مثلهم وينزل الله عز وجل ملائكة قد يتمثلون بشرا تراه أعين الناس كما أنزل الله سبحانه إلى مريم ملكا روحا منه يبشرها وكما أنزل إلى إبراهيم ولوط على نبينا وعليهم جميعا صلاة الله وسلامه.

وخلاصة القول أن الصاحب البشر لا يستفيد إلا من مصحوب بشر مثله.

تلك حكمة الله عز وجل الأزلية أن يبتلي العباد بعضهم ببعض. فمن المشركين من يؤمن بالإله الخالق كما قال تعالى: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله، ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله حتى إذا جاءهم رسول منهم بشر مثلهم سخروا منه وقالوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها.

أو تطغيهم كبرياؤهم الطاغوتية فيودون أن يكون اختيار الله عز وجل من اختيارهم فيقولوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فيكذبهم الله عز وجل في الآية التالية قائلا: أهم يقصمون رحمة ربك نحن قصمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا.

سخر سبحانه وتعالى للخلق بعض الخلق لقضاء مصالح الدنيا وسخر لهداية الخلق من المصطفين الأخيار من شاء سبحانه من نبي رسول أو صديق شاهد بالحق ماثل بشر تراه العين وتسمعه الأذن ويقتدي به السالك ليخرج من بيداء ضلالته إلى المجالات الفيحاء، مجالات النور والهداية و القرب من الله عز وجل.

من هؤلاء المشايخ الأخيار الشاهدين بالقسط من يختصر الطريق على الطالبين فيشهد بما خصه الله عز وجل من فضل فيقول: “المرء على دين خليله، عليكم بنا، صحبتنا ترياق مجرب والبعد عنا سم” 6 .

فلا يبقى بعد لقاء الصاحب المصحوب الولي الكامل إلا أن يستعد للعمل بذكر الله عز وجل وذكر لقائه، تهون عليه مشقات السفر وهو يؤدي صلواته المفروضة يصطبر عليها اصطبارا و يواظب على نوافل الخير المسنونة المستحبة يتلو كتاب الله وينصت بسمع قلبه إلى ما تحدثه فيه الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر وما تؤثره تلاوة القرآن يتنور بها قلبه فيكون القرآن حياته ودليله ورفيقه.

يجلس مع إخوانه الناصحين الصادقين في مجالس الإيمان ليتجدد بذلك إيمانه كما قال الصحابي لأخيه: اجلس بنا نؤمن ساعة). ولا يكمل للعبد سلوك إلا بالتأسي والاقتداء الحريص المدقق بأذكار النبي صلى الله عليه وسلم وأدعيته وآدابه آناء الليل وأطراف النهار، وما يصحب كل ذلك من صلاة على النبي وتسليم ومن تجديد للتوبة والاستغفار ومن أعمال قلبية يتراوح باعثها بين الخوف والرجاء ويحذو خببها وسيرها الحثيث ذكر الموت وذكر لقاء الله عز وجل ولقاء رسوله صلى الله عليه وسلم، النبي الرسول الشاهد المبشر المنذر الهادي إلى صراط الله المستقيم صراط الله الذي له ما في السموات والأرض ألا إلى الله تصير الأمور 7 .


[1] الفتح الرباني، ص: 333.
[2] المصدر السابق: ص: 373.
[3] نفسه، ص: 285.
[4] نفسه، ص: 248.
[5] نفسه.
[6] البرهان المؤيد، ص: 43.
[7] الشورى: 53.