معالم تحديث الدولة من خلال مرجعية الأمة -2- دولة تجسد إرادة الأمة

Cover Image for معالم  تحديث الدولة من خلال مرجعية الأمة -2-
دولة تجسد إرادة الأمة
نشر بتاريخ

دولة عصرية بمرجعية قرآنية

يتحدث بعض الباحثين عن دولة “المجتمع الأهلي” أي دولة الجماعة البشرية المستقلة في سيادتها، كيفما كانت مرجعيتها المذهبية. وفي الجماعة المسلمة هي الدولة التي تتوسط الأمة وتتخذ من القرآن مرجعيتها الكبرى، فتستمد منه مبادئها ووظيفتها وغايتها ومقاصدها وخصائصها، وجوابها العام عن أسئلتها الكلية، فهو مُوجهها المطلق، ولا معنى لإسلاميتها ما لم يكن القرآن لها إماماً وبرهانا وفرقانا وإحسانا، مُصدقا ومُهيمنا على جميع الاعتقادات والأفكار والآراء والفلسفات والتشريعات، وهذا لا يعني أن دولة القرآن دولة نصوصٍ قانونية مطلقة تؤسس لتأويل جامد، يَفرض على الناس بسلطة القهر فهماً مقدساً ووحيداً، لا يقبل التعدد والتأويل والمراجعة، ويبني كيانا مستبدا يُكره الناس على طاعة حُكامٍ معصومين يفرضون فهمَهم للدّين بإلزامٍ قانوني تسلّطي، ويُعينهم عليه فقهاء يبيعون الدِّين بالتٍّين، ويحرقون البخور في القصور.

إنما هي دولة بشرية بمرجعية قرآنية هي دولة الإنسان المستَخلف، يتساوى فيها الناس وتتساوى حقوقهم ولا يتفاضلون إلا بإنجازاتهم وكِفاياتهم ونفعهم لأوطانهم وفق معايير أخلاقية وقانوينة متفق عليها. وليست دولة شعارات وخُطب وأسواق دعاية ونخاسة، ولا حتى دولة قوانين مجردة، تقول الباحثة الفرنسية جاكلين روس: دولة الحق لا تتمثل فقط في مجرد صورة قانونية مجردة وإنما تتمثل فيما يتجسد بقوة في مجتمعاتنا) 1 ، وإنما هي دولة واقعٍ يراه الناس ويحيونه تجسيدا يوميا، تمارَس فيه السلطة ممارسة معقلنة وتعاني مخاضات الواقع ومتغيرات الظروف، لحفظ كرامة الإنسان في إطار الكليات الكبرى التي لا تختلف فيها المِلل.

دولة القرآن تحرر الفرد من فردانيته ومن أدوائه النفسية والمعرفية والسياسية، وتؤهله ليكون عبدا لله دون غيره. محبا لأخيه الإنسان خادما له. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: يجب أن نُزيل وهماً يتمثل في اعتقاد أن القرآن مجرد مجموعة نصوص، وأنه متى جعلنا هذه النصوص دستورا فقد حكمنا بما أنزل الله، وخرجنا من دوائر الكفر والظلم والفسق. نعم في القرآن أحكامٌ مضبوطة وأصول للاجتهاد وشريعة تَتناول بالتفصيل أو بالإجمال كنشاطات الإنسان وكعلاقات المجتمع. لكن الوهم الخطير هو أن نتصور الحكم بما أنزل الله عملية قانونية فقهية، بالمعنى الدارج للفقه لا بالمعنى القرآني. من الوهم أن نتصور أن دولة القرآن تقوم بمجرد رفع النصوص شعارا. والإلزام بها، والناس كالناس، والقلوب جافة من معاني الإيمان والرحمة، ناشفة منها) 2 .

ويمكن أن نجمل خصائص الدولة في المرجعية القرآنية في:

1- الدولة تجسيد لإرادة الأمة

إذا كانت الجماعة هي المستخلفة، سواءٌ جماعة المسلمين فيما يتعلق بأمة المسلمين أو جماعة قطر من أقطار الأمة، أي دولة قطرية، فإن الدولة في التصور القرآني هي دولة الجماعة، وهي التي نسميها -حرصا على اللغة المشتركة- دولة المدينة أو الدولة المدنية. تستمد منها مشروعيتها وتُجسِّد إرادتها الجماعية الحرة، وتمارس السلطة نيابة عنها، عبر مؤسساتٍ من اختيار سوادها الأعظم، حيث الإمامة من الحقوق المشتركة بين حق الله تعالى وحقوق الآدميين) 3 . إذ كان الخطاب القرآني موجها للجماعة المسلمة التي يناط بها إقامة الدولة بصيغة “يا أيها الذين آمنوا” تخصيصا للخطاب العام بــ”يا أيها الناس” و”يا أيها الإنسان”. ولا قيمة للفرد الحاكم إلا من خلال مكانته الاعتبارية في الجماعة التي تختاره بمحض إرادتها الجماعية اختيارا تعاقديا مشروطا، قال الماوردي عن الإمامة: وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجبٌ بالإجماع) 4 ، فتختار الجماعة من هو للإمامة أصلح وبتدبير المصالح أقوم وأعرف) 5 .

الدولة جهازٌ للقيادة السياسية ينبثق من روح الجماعة ويمثلها بواسطة ممثلين أكفاء عرفاء) 6 ، فيسهر على تسيير مؤسساتها وتدبير شؤونها العامة وفق تصورٍ متفق عليه مسبقا لا يخرج عن إطار كليات القرآن الحاكمة التي لا تختلف فيها الجماعة، بل لا تكاد تختلف فيها الإنسانية. وهي دولةٌ تسع كل إنسان منسجم مع فطرته الإنسانية، فضلا عن أن يكون مسلما مؤمنا. وليست سلطة عمودية قهرية تبسط تجبرها وسلطانها على الناس بالعنف والإكراه، وإنما هي قيادة منسجمة مع روح الجماعة، تنبثق من الأمة وتعود إليها، وهي مراقَبة من الجماعة ومؤسساتها الموازية والوظيفية، ومقيدة بالإطار المرجعي الأكبر الذي هو كليات الوحي المنزل.

وبهذا المعنى تتعارض الدولة العصرية أو نظام حكم الجماعة مع دولة الفرد أو نظام الطاغية، مهما ادعى هذا الفرد لنفسه من ألقابِ التقديس والتهويل، كأن يدّعي أن دماءً إلهية تجري في عروقه من دون الناس، أو أنه ابن إلهٍ أو ظلّ إله، أو ابن عائلة شريفة تستحق الانفراد بالمجد والنفوذ، أو كان والده حاكماً، أو قهَر الناس بالعنف والاحتيال.

المستخلف عن الله في أرضه استخلاف عاما هو الإنسان، واستخلافا خاصا هو الأمة الشاهدة بالحق القائمة بالقسط، أي أن الجماعة البشرية هي مصدر السلطة وليس الفرد أو الطبقة أو الحزب أو العائلة، قال ابن تيمية: واللهُ لا يجوز له خليفة… والخليفة إنما يكون عند عدم المستخلِف، بموت أو غيبة، ويكون لحاجة المستخلف إلى الاستخلاف، وسمي خليفة لأنه خلف عن الغزو، وهو قائم خلفه، وكل هذه المعاني منتفية في حق الله تعالى، وهو مُنزه عنها) 7 ، ولعل هذا لا يدع الشك في الضلال الذي أصاب قوما عدُّوا أنفسهم خلفاء لله من دون الناس، حتى أجازوا لأنفسهم ما لا يجوز.

دولة الجماعة تعني مما تعنيه أن الشعب هو مصدر السلطات، يُنيب عنه من يمثله في سنِّ التشريعات، ومن يقوم بتنفيذها، في اختيار الحاكمين وعزلهم عند الاقتضاء، وليس الملوك والبابوات والأباطرة والقياصرة الذين يضعون القوانين على مقاس استبدادهم واستئتارهم بالسلطة والنفوذ، ويحاكمون بها الناس وكأنها قوانين تعاقدية شرعية، بل ويضربون بها عُرض الحائط إذا ما عنَّ لهم أنها تخالف استفرادهم بالسلطة والقهر. فيعتبرون أنفسهم فوق الجماعة والقانون نفسه. لقد كان الملك في ظل النظام الفرنسي مثلا قبل الثورة يضع القوانين المنظمة لنشاط السلطات العامة، ولكنه لم يكن يتقيد بها) 8 .

إذا كانت الأمة هي المستخلفة، أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ ۚ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (النمل: 64)، وهي محلّ التكليف الشرعي الجماعي، وإجماعها هو الأساس الذي تقوم عليه شرعية الحكم والمؤسسات السياسية، فإن الإمامة عقد لا يتم إلا بعاقد) 9 والحكام ليسوا نوابا عن الله تعالى، وإنما هم نواب عن الأمة برضاها، فلا ميراث في الحكم ولا عصبية في السلطات، ولا حقوق مقدسة لرجل أو مجموعة من الناس، حتى ولو كان بيت النبي صلوات الله عليه) 10 ، وذلك ما يقصد حسن الترابي بقوله: الأصل في السلطة على الأرض هو إجماع المجتمع) 11 .

أما عن روح الجماعة في القرآن فهي الولاية الجامعة القائمة على المحبة والمودة والتراحم والتناصر والتناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يكون الولاء لله ورسوله والمؤمنين وليس الولاء للقبيلة والطبقة واللغة والتاريخ والتكتل القومي الحزبي والشخص، حتى تكون ولاية إيمانية جهادية تجتمع فيها الشروط القرآنية قلبا وعقلا وعملا. قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (المائدة: 56)، وقال أيضا: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة: 72).


[1] Jacqueline Rose,les théories du pouvoir, librairie générale française (coll poche) 1944.\
[2] ياسين عبد السلام، القرآن والنبوة، دار لبنان للطباعة والنشر، لبنان، ط1، 1431ه/2010م، ص: 34.\
[3] الماوردي علي بن محمد بن حبيب، الأحكام السلطانية، مرجع سابق، ص: 10.\
[4] الماوردي علي بن محمد بن حبيب، الأحكام السلطانية، مرجع سابق، ص: 5.\
[5] المرجع نفسه، ص: 4.\
[6] صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب العرفاء للناس، رقم: 6755.\
[7] ابن تيمية أحمد، مجموع الفتاوى، ج7، دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، الرياض، 1412هـ/1991م، ج 35، ص: 45.\
[8] محمود حلمي، نظام الحكم الإسلامي مقارنا بالنظم المعاصرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط 2، 1973م، ص: 116.\
[9] الماوردي علي بن محمد بن حبيب، الأحكام السلطانية، مرجع سابق، ص: 9.\
[10] سرور طه عبد الباقي، دولة القرآن، دار نهضة مصر القاهرة، د. ت، ص: 93.\
[11] الترابي حسن، السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع، دار الساقي، ط2، 2004م، ص: 231.\