مظاهر الاعتقال وآثاره في نظم الاستبداد

Cover Image for مظاهر الاعتقال وآثاره في نظم الاستبداد
نشر بتاريخ

يعتقد الكثيرون أن الاعتقال مقتصر على حبس الأشخاص والمجموعات داخل جدران السجون ومخافر الشرطة والمعتقلات الظاهرة والخفية في الدول الاستبدادية، لكن الحقيقة أنه يتخذ مظاهر كثيرة وصورا متعددة تحمل كلها معنى الاعتقال، ما دام الاعتقال حرمانا من الحرية والحقوق، ومنها الحق في العبادة والتعبير والتنقل والعيش الكريم والاستقرار إلى غير ذلك، مما تتجلّى صوره في النظم الاستبدادية التي تسعى بكل الوسائل والسبل إلى السيطرة المطلقة، وإلى تجريد الأفراد والشعوب من القيم الإنسانية النبيلة والحقوق المرعية، ولاسيما في ظل التدافع بين الحق والباطل، والخير والشر، والعدل والظلم.

ونريد في هذا الموضوع أن نسرد بعض المظاهر التي تجسد الاعتقال في نظم الاستبداد والتي قد يتعايش الناس معها ولا يعتبرونها اعتقالا يستحق الاحتجاج ويدعو إلى الاعتراض، ما دام الإنسان يتمتع بـ”الحرية ” وينجو من “السجن”، ونبين الآثار التي تنجم عنها.

1- اعتقال الدين

ظل الدين وسيظل إطارا للتدافع بين أهل الحق والباطل، بين من يوظفون الدين لتوطيد الاستبداد وترسيخه، وبين من يجددون الدين ويسعون لتنقيته من كل الشوائب التي تسيء إليه وتجعل الناس يزدرونه، وينتقدونه ويذهبون في تسفيهه كل مذهب، ولعل الصورة التي قدمتها الدول المتعاقبة بعد الانفصال بين الدعوة والدولة في التاريخ الإسلاميّ تظهر لنا عظم الاعتقال الذي تعرض له دين الإسلام، ولا يزال هذا الاعتقال مستمرا ويتخذ شكل الوصاية على الدين، كما احتكرته الكنيسة المسيحية في القرون الوسطى، وصارت من خلاله تتحكم في الناس وتوجههم من مبدأ السلطة المطلقة المكتسبة من الله. فأصبح الشأن الدينيّ في دولة الاستبداد مرتبطا بالسياسة العامة للحاكم، يتحكم في المنابر والمساجد والمعاهد الدينية، وفي البرامج التعليمية والتربوية، ويستمد من علماء السلطان مشروعية مزيفة، تضمن له البقاء في الكرسي، وتخول له إصدار الفتاوى المنسجمة مع أهدافه والخادمة لغاياته، والممددة لجبريته، وعلى أساسه يعاقب الخصوم والمعارضين. ونتساءل كما تساءل الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله: لماذا يمنع المستكبرون الناس من الإيمان ويمكرون عليهم بالليـل والنهار ليكفروا، وَيُدخلونهم في الطاحون الإلحادي؟) 1 ويجيب عن ذلك بقوله: قصْد المستكبرين في كل عصر أن يحولوا بين الناس وبين عقيدة الإسلام التي تحرر العباد من كل عبودية لغير الله، وتأمرهم شريعته بجهاد كل متأله في الأرض، نفسيّاً كان هذا المتأله داخلياً أو معتدياً أثيماً خارجيّاً) 2 .

وبهذا الاعتبار يكون الدين معتقلا، والمسلمون فاقدي الحرية في التدين، فلا يجوز للمسلم الاعتكاف في المساجد، ولا يجوز له الاعتراض على الحاكم، ومساءلة استبداده، فهو مستكبر ومترفع ومحتكر للدين ولشؤونه عامة.

ويترتب عن اعتقال الدين حرمان الإنسان من معرفة ربه والتقرب منه والوقوف على منهاج الحياة السليم ومكارم الأخلاق والقيم النبيلة التي ترفع من قدر الإنسان وترقيه وتجعله في مصاف الشاهدين بالحق والقسط والقائمين بالعدل.

2- اعتقال الرأي والتعبير

من الحقوق مقررة إنسانيا حرية التعبير عن الرأي والموقف بما لا يتعارض مع حقوق الآخرين ذاتها، لكن دولة الاستبداد تحكم قبضتها على كل المنابر والوسائل الإعلامية من صحف ومجلات وجرائد، بل ومطابع وقنوات، وجمعيات ودور الشباب ومكتبات، فلا تسمح للآخرين المعارضين بتصريف آرائهم، ولا تمكنهم من هذا الحق، لأن ذلك يهدد مصالحها، فتغدو السلوكات متناقضة مع ما يصرح به هؤلاء المستبدون، من إشاعة جو حرية التعبير والرأي، وقد كذبت كثير من الوقائع والأحداث والقضايا الملموسة في الواقع زيف هذه الشعارات، وكذب أصحابها، فتحولت بعض هذه الأقوال إلى شاهد زور بعد الاعتراض والمنع لكل محاولة جادة تسعى إلى التعبير عن الرأي، ويمكن أن نمثل لهذا الاعتقال الضمني بالعديد من حالات المطاردة والمنع لكثير من الفنانين والصحفيين، رشيد نيني، وعلى أزولا، ورشيد غلام ومعاد بلغوات وغيرهم كثير. وبكل الكتاب والمفكرين الذين منعوا أو سجنوا أو حتى الذين يتجنبون النشر رفضا لهذا الاستبداد والتسلط الذي تواجه به حرية الرأي والتعبير، فيصبح التعبير عن الرأي معتقلا، وقابلا للمصادرة في أي وقت وبأتفه الحجج. ومن ذلك مصادرة الحق في الاحتجاج والنيل من المتظاهرين المحتجين وفي بعض الحالات تتجاوز السلطات القمعية الحد في استعمال العنف من ضرب وتعنيف وسب وشتم وسحل، ولو في حق المعاقين والنساء والأطفال وكبار السن والأئمة.

ومن نتائج هذا الاعتقال ضياع الحقيقة، وانتفاء الصوت المنافح بين الناس، الفاضح لأكاذيب المستبدين الذين يتمكنون من تضليل الرأي العام وإضفاء المصداقية المزعومة على خطاب أحادي مراوغ ومخادع، لا يقبل أصحابه المنازعة ولا يرضون بتعرية الواقع والكشف عن الحقائق، ولولا التقارير الأممية والدولية التي تظهر حجم الاعتقال المسجل على جميع المستويات والتي وللأسف لا تستثمر عادة أمام الرأي العام إلا نادرا، لما سمعنا إلا لحن التضخيم والتبجيل لمنجزات لا علاقة لها بالواقع.

3- اعتقال الحركة والتنقل

مما جاء في كتاب الله تعالى قوله تعالى: قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها 3 . دعوة للمستضعف الخائف على دينه أن ينتهك حقه أو تصادر عقيدته، للفرار بدينه والهجرة بحثا عن موطن تصح فيه عبوديته لله وطلبا لمستقر أمين، لكن هذا المطلب أصبح معتقلا ومصادرا، ويتجلى ذلك في منع الدول المستبدة معارضيها أو ممن ترى فيهم خطرا يهدد وجودها من السفر والتنقل، إما بالحرمان من جواز السفر أو بالإقامة الجبرية، أو من خلال الملاحقة المستمرة لهم من أعوان السلطة وذوي النفوذ والمطاردات اللصيقة لهم في الأحياء والشوارع والحواجز والمقرات والنوادي. وكثيرة هي الحالات التي منع فيها المعارضون من الحصول على جواز السفر والمنع منه لأسباب غير مبررة ولاعتبارات هاوية. من ذلك منع محمد الرياحي الإدريسي من الحصول على جواز السفر.

وينتج عن هذا الاعتقال مضايقة الإنسان وحجز حركته، وانتهاك حقه في التنقل بما أكد عليه الله تعالى في الآية السابقة، فيتحول المطارد إلى إنسان عاجز يسيطر عليه الخوف والتردد والترقب المستمر، فلا ينطلق لبناء ولا يقدم على خير، إلا إذا تحدى وأنّى له ذلك في سلطة الحكم المطلق.

4- اعتقال البيوت والمقرات

غدا تشميع البيوت سمة بارزة في نظم الاستبداد، والذرائع والتلفيقات موجودة لا يحصيها العد لاعتقال البيوت وحبسها عن أصحابها، مع ما لهذه البيوت من حرمة تتجاوز حدود الأركان والأسقف والجدران، إلى أحقية الأفراد والأسر في مسكن يكون مستقرا ومنزلا للستر والدفء والسكينة وضمان الاستقلالية والخصوصية.

وما تعرفه بعض البيوت من تشميع يبرهن على هذا الاعتقال التعسفي في حقها وهي وإن لم تتكلم بصوت مسموع ولم تتفوه بكلام مرفوع، فهي تشكو بلسان الحال الذي يطالب كل غيور على الحقوق المخولة وكل متصد لضمانها، بالتدخل لرفع هذا الظلم القائم والجور المستمر.

ولعل بيت الأمين العام لجماعة العدل والإحسان وبعض أعضاء الجماعة في مناطق متعددة، وبعض مقرات الهيئات الحقوقية والجمعيات المستقلة، خير دليل على هذا الاعتقال التعسفي للبيوت والدور والمنازل والمقرات.

وهذا مظهر حي على الاعتقال المقيت للطوب والحجر والإسمنت والحديد وما أقساه من اعتقال!

ونتيجة لهذا الاعتقال تتشرد الحقيقة الإنسانية القائمة على ضمان الحد الأدنى من الحقوق وهو الحق في السكن والمأوى وما يعنيه ذلك من سكينة واستقرار وأمن. عن عبيد الله بن محصن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها” 4 . يقول الإمام المجدد رحمه الله استنادا على هذا الحديث: ما قننه علماؤنا الأبرار في صيغة التجريد في باب “العادات” و”المعاملات”، أي في مقاصد حفظ النفس والعقل والنسل والمال، نجده في الحديث النبوي مشخصا في الزمان (من أصبح… قوت يومه) والمكان والجماعة (في سربه) والبدن.

)هذه المطالب والأهداف الدنيوية، المؤدية إذا حيزت إلى الغاية، لا تتحقق إلا في مجتمع يأخذ فيه الكم والإحصاء والإنتاج والتوزيع والعدل في كل ذلك المكان الشرعي) 5 .

5- اعتقال الإرادات

ما يميز الشعوب المتحررة هو مشاركة أهلها في البناء والعمل والاقتراح والمبادرة الفعاّلة، فإراداتها محررة ومنتجة، وطاقاتها موجهة نافعة، غير أن الشعوب المضطهدة تشكو من سلب للإرادات، وتحكم في العزائم، وقتل للهمم، وهذا من أشنع أنواع الاعتقال، وهو يخالف ما يدعيه البعض ويرسمه الخطاب الرسمي المستبد، ويبرره للناس، من ادعاء الحفاظ على الرأسمال اللا مادي الذي تتمتع به هذه الشعوب، والاستفادة منه في الإنتاج والتنمية الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي وما إلى ذلك.

إذ أن رأس مال الإنسان إرادته وعزيمته فإذا ما قتلت لا يستطيع حركة بانية ولا يقدر على إبداع أو عطاء. وهذا ما فعله الاستعمار عندما أجهز على مقومات الأمة الروحية والمعنوية وسلب منها قوتها الذاتية، فسار عملاؤه على النهج نفسه في تحطيمهم لقدرات الأمة وروحها المعنوية الفاعلة.

والنتيجة أننا نعيش حالة اعتقال جماعية لا يسلم منها إنسان ولا حجر ولا شجر ولا بيت وبر أو مدر، وأن ما يجب تحريره أولا من هذا الاعتقال الضمني، هو تحرير الإرادات والعزائم ورفع الهمم، لطلب ما عند الله واستكمال الرجولة الإنسانية في مثل قوله تعالى: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه 6 ، وقال رجل مؤمن من آل فرعون 7 ، وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى 8 ،… وقال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما 9

وهذا لا يتأتى إلا بالتربية القلبية الإيمانية مع اكتمال شروطها ومحضنها وظروفها على طلب الحرية، وإعادة الاعتبار لدور الإنسان في الحياة العامة فعلا وأثرا إيجابيا. والاعتبار بما كسبت أيدي الناس بالتوبة والرجوع والإنابة إلى الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتُليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخِذوا بالسنين وشدة المُؤْنة وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زَكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمْطَروا. ولم يَنْقُضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل بأسهم بينهم” 10 .

يقول الإمام المجدد رحمه الله: تؤول أسباب استضعاف المستكبرين لنا إلى سببيْن: أصْلي عام هو ابتلاء الله المسلمين بالنقص من الأموال والأنفس والثمرات، وفرعي هو العقوبة على ما كسبت أيدينا مما يفصله هذا الحديث العظيم الجدير بالتأمل، الحامل على التوبة والتضـرع والإسراع لتغيير المنكر الذي تنصبُّ علينا تبِعاته على شكـل قحط واستعمار وبأسٍ شديد بيننا وفرقة وعداوة) 11 .


[1] ياسين عبد السلام، (العدل الإسلاميون والحكم)، ص: 457.\
[2] العدل، ص: 457.\
[3] سورة النساء: 97.\
[4] رواه الترمذي وابن ماجه والبخاري في الأدب، وإسناده حسن كما أشار السيوطي رحمه الله في الجامع الصغير.\
[5] ياسين عبد السلام، نظرات في الفقه والتاريخ، ص: 76.\
[6] سورة الأحزاب: 23.\
[7] سورة غافر: 28.\
[8] سورة يس: 20.\
[9] سورة المائدة: 23.\
[10] رواه الحاكم بسند صحيح وابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما.\
[11] العدل، 458.\