الانقلاب أعنف مظاهر الإرهاب وأعلى مراتبه، وإرادة الشعوب تفرزها الصناديق الصماء البكماء الشفافة بانتخابات حرة نزيهة ولا تفرضها الدبابات والبنادق القتالة.
لما “أطاحت” الثورة المصرية بنظام مبارك استبشر دعاة ورعاة الديمقراطية خيرا لما قد تشهده مصر من بناء ديمقراطي قد يكون الخلاص من الفساد والاستبداد اللذين ترزح تحت وطأتهما المنطقة العربية والإسلامية، وذلك لمحورية موقع مصر السياسي والجغرافي في العالم العربي والإسلامي، ولكون تحرر مصر يعني تحرر المنطقة كلها، ونجاح البناء الديمقراطي فيها معناه نجاحه في كل بلدان المنطقة في المستقبل.
كانت الثورة المصرية ثورة على العبودية، ثورة على الفساد والاستبداد، ثورة على تخريب البلاد وإذلال العباد، ثورة على شخصنة الدولة ومؤسساتها، ثورة على النظام العسكري الذي امتد لستين سنة تقريبا، ثورة على سيادة الرأي الواحد ووأد كل رأي مخالف. وجاءت ثورة 25 يناير من أجل تغيير ما سلف ذكره والبدء في البناء الديمقراطي وكانت أول خطواته الانتخابات خاصة الرئاسية منها حيث تم انتخاب الرئيس في انتخابات حرة ونزيهة كما شهد بذلك الجميع لأول مرة في تاريخ مصر الحديث.
كان واجبا على كل الأطراف السياسية، فائزين ومعارضين، حماية ورعاية هذا المولود الجديد إلى أن يشتد عوده ويألفه المجتمع بشتى أطيافه المدنية والعسكرية والأمنية، وتترسخ في الأذهان والوجدان التربية الديمقراطية وحق الاختلاف واحترام المؤسسات وتراتبيّتها واستقلاليتها واختصاصات كل منها . هذا طبعا إذا كان الهدف هو إكمال البناء الديمقراطي وتحويل المجتمع إلى مجتمع ديمقراطي ودولة مؤسسات لا دولة أشخاص وتيارات تغلب عليها المذهبية وتحقيق أهداف سياسوية ضيقة تطغى على الهدف الأسمى: بناء دولة القانون والمؤسسات واحترام الحقوق الفردية والجماعية للجميع بغض النظر عن أفكارهم وتوجهاتهم السياسية واعتقاداتهم…
ولما كان من الصعب التحول المفاجئ في رمشة عين من دولة الفساد والاستبداد، وغياب الاستعداد لدى القوى القديمة المتجذرة في الدولة والمهيمنة عليها تغيير الذات والانتقال إلى تغليب مصلحة الوطن والرغبة في بناء الصرح الديمقراطي الحقيقي في البلاد وغياب النوايا الحسنة لدى بعض الأطياف السياسية في التعامل مع البناء الديمقراطي والدفع به إلى الأمام مهما كانت نتائج الصناديق، وتغليب ذلك على التوجهات الحزبية والأهداف السياسوية الضيقة، ولما كان البناء الديمقراطي ليس هدفا وغاية للجل بل مجرد وسيلة. ولما كانت الفعاليات في الساحة السياسية المصرية لم تصل بعد إلى مرحلة التجرد والاقتناع بضرورة البناء الديمقراطي فانه من الطبيعي جدا أن يقع ما وقع، من انقلاب على الدستور الذي صوت عليه بنسبة 63،6% وعلى البناء الديمقراطي، وعلى الحرية وحق الاختلاف ووحدة المجتمع المصري.
ليس ما وقع انقلابا على الرئيس المنتخب ديمقراطيا محمد مرسي، بل هو اغتيال لطموح الشعب المصري وانقلاب على ارادته واختياره الحر النزيه وانقلاب على الديمقراطية، وهو في آخر المطاف انقلاب العسكري على المدني وانقلاب البندقية والدبابة على اللسان الطلق والقلم الحر، انقلاب التشتيت والتفرقة على الوحدة والتماسك، انقلاب الإقصاء على القبول بالآخر والتعاون مهما كانت توجهات هذا الآخر.
في الدول الديمقراطية ما حدث أن تم تغيير سلطة كسبت شرعيتها من الصناديق الصماء البكماء الشفافة بانقلاب عسكري على ظهر الدبابات وترويع البنادق، وإنما تمارس السلطة المنتخبة مهامها إلى حين انتهاء الفترة التي حددها الدستور، وأثناء هذه الفترة يعمل الطرف المعارض على الاستعداد للانتخابات المقبلة بالوسائل القانونية الحضارية بتلميع صورته وإظهار جدارة برنامجه وخططه وفي نفس الوقت يكشف عن نقط ضعف الخصم وسلبياته قصد استقطاب العدد الأكبر من الأصوات التي قد تسمح بتولي وتسيير البلاد في تنافس هادئ شريف وفقا للضوابط الدستورية لكل بلد ولقواعد التنافس الديمقراطي البناء مع إعطاء الأولوية لمصلحة الوطن وجعلها فوق كل اعتبار والاحتفاظ بالسير المؤسساتي للدولة وحرية الأفراد الجماعات…
لكن ما شهدته مصر من انقلاب على الديمقراطية دليل على أن الذهنية التسلطية والاستبدادية والإفسادية ووسائل العمل القديمة لدى بقايا نظام مبارك خاصة المؤسسات المتحكمة في الدولة كالأجهزة الأمنية المختلفة والمؤسسة العسكرية ولوبيات الاقتصاد والمال التي ما زالت الشعوب العربية تعيش في ظلها وتحت وطأتها لن تترك البناء الديمقراطي يأخذ مساره الطبيعي والسلس بل لا بد من أن يعرف مدّا وجزرا ولم لا دما واعتقالا وخطفا و… كما يحدث في مصر وكما حدث في تاريخ الدول الديمقراطية كفرنسا وبريطانيا…
وإضافة إلى القوى الضاربة المذكورة لا بد من ذكر بعض القوى التي كان لها باع طويل في انقلاب مصر العسكري، ومع الأسف الشديد تحسب هذه القوى على النخبة المصرية التي اصطفت وانحازت إلى جانب الانقلاب مثل البرادعي – الذي كان سببا في تشتيت وتدمير بلاد وعباد العراق -وصباحي وعمرو موسى وغيرهم كثير. وبعض من هذه النخبة لجؤوا سابقا إلى صناديق الاقتراع ولم تمنحهم شيئا، وهؤلاء ومن ورائهم تياراتهم وبعد فشلهم في الانتخابات بدؤوا في فبركة عملية إفشال ممنهجة وفي تنسيق مع السيسي وقوى أجنبية لعزل الرئيس المنتخب والانقلاب على الديمقراطية وإرادة الشعب.
إذن فهذه النخبة في برجها، إدراكا ووعيا منها بعجزها عن استقطاب أصوات الناخب المصري وإقناعه ببرنامجها وفشلها في خلق قاعدة شعبية تؤهلها لخوض معركة الصناديق الهادئة الشريفة المحافظة على كرامة البلاد ودماء العباد وبحرية ونزاهة، وعيا منها بالعداء الذي كان السائد بين مؤسسة الجيش والإخوان المسلمين منذ محاولة اغتيال جمال عبد الناصر سنة 1954 والتي اتهم بها الإخوان المسلمون واغتيال الرئيس السابق أنور السادات سنة 1981، لجأت إلى الاستقواء بالعسكر والخارج في عملية إقصاء للشرعية وتغييب إرادة الشعب زاعمة أن هناك الشرعية التي تفرزها الصناديق والشرعية الثورية التي يفرضها الشارع وأن هذه أقوى اعتبارا وأولى من الأولى.
طبعا لا ينكر أحد أن هناك نظريات تتحدث عن الشرعية الثورية وأن هذه يمكن الحديث عنها حين يخرج الشارع كله صوتا واحدا ضد حاكم أو نظام مّا، كما حدث في ثورة 25 يناير ضد مبارك أو ضد بنعلي في تونس، أما أن يكون الشارع منقسما وكل واحد يدعي أنه هو الأقوى والأكثر عددا، ففي هذا الموقف لا مجال للحديث عن الشرعية الثورية خاصة إذا كانت هناك أطراف ومؤسسات منحازة إلى هذا الطرف أو ذاك وفي هذه الحالة تبقى أسبقيّة البتّ والقرار الفصل للصناديق الصماء البكماء، التي لا تحابي أحدا ولا تنحاز إلى أحد، ولا تنضح إلا بما فيها دون نوايا مسبقة ولا دسائس أو مؤامرات.
إذن في مصر غلب التنافس السياسي على السير قدما بالبناء الديمقراطي وهذا كان واضحا منذ الوهلة الأولى، فقبل الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية كانت محاولات لتغيير النتائج وكان هناك شد وجذب بين الأطراف. وبعد إعلان الدكتور محمد مرسي رئيسا شرعيا لمصر بدأت عملية تربّص واضحة للإفشال بانتقاد كل تصرفاته وقراراته مقابل عدم الرغبة في التحاور والتعاون معه لتصحيح المسار، ومطالبته في أقل من سنة بالحصيلة والنتائج وما قدمه للشعب المصري وكأن هؤلاء لا يعلمون أنه من غير الممكن تحقيق تغيير ما أفسدته عقود الاستعمار وحكم العسكر في كل مناحي الدولة ودواليبها ومؤسساتها في رمشة عين، وكأن هؤلاء لا يفقهون أن سنّة التاريخ تقتضي وتحتم مراحل زمنية لتغيير الوضع مهما كان، وأن التغيير في جميع الأحوال يتطلب وقتا ومجهودات ووسائل وأموالا وعقولا وهدوءا وتعاونا وتشاركا ومشاركة وحسن نوايا الإطراف جميعا، وأنه من الصعب تحقيق المطلوب في ظل الجو المشحون الذي خلقوه واختلقوه من أجل تبرير تدخل العسكر. هنا يكمن عيب المعارضة في تعمّد إفشال الرئيس المنتخب وفي وضع العراقيل والتشويه المتعمد لكل ما يقوم به والإصرار على عدم التعاون معه من أجل إنقاد الوطن على الأقل ومن أجل الدفع بالبناء الديمقراطي إلى الأمام ومن أجل تغليب الحكم المدني الديمقراطي على سيطرة المؤسسة العسكرية التي جثمت على صدور المصريين منذ ستين سنة، والعجيب أنه بعد الانقلاب مباشرة بأربع وعشرين ساعة وبقدرة قادر وبعد أن غابت المواد في عهد مرسي رغم وجود الحكومة فاض الغاز والبنزين وزاد الخبز عن الطلب رغم عدم وجود حكومة أصلا، وكذلك يمكرون.
وفي المقابل فان الرئيس المنتخب ارتكب اخطاءا وكذلك حزب العدالة والحرية وجماعة الإخوان المسلمون ولعل أكبر خطأ ارتكبه مرسي هوالثقة التي وضعها في الجيش مهما كانت درجة هذه الثقة وطبيعتها وهوعلى علم بالعداء التاريخي بين مؤسسة الجيش والجماعة منذ الطلاق بينهما بعد محاولة اغتيال عبد الناصر وما عانته الجماعة من نكال من الجيش .اضافة إلى ذلك نجد أخطاء أخرى يركز عليه خصومه أكثر وهي ما يسمونه “بمحاولة الرئيس وجماعته أخونة الدولة كلها” واتهام الرئيس بالرجوع إلى قيادات الجماعة في كل خطوة وقد اتخذ بعض القرارات تدفع الغير إلى قول ذلك مثل قرار تعيين محافظ الأقصر، وكذا الأخذ والرد الذي دخل فيه الرئيس مع جسم القضاء وزيارته لإيران وموقفه المتذبذب في أول الأمر من سوريا… كل ذلك وغيره استغله الخصوم داخليا وخارجيا من أجل تشويهه داخليا وكذا خارجيا.
ومهما يكن فالخطأ وارد بل ضروري للمراجعة والتصحيح ولكن مهما كان هذا الخطأ وهذه الممارسات والتصرفات فإنها لا تشفع لتدخل العسكر بتلك الطريقة الفورية العاجلة الانقلابية والمعاكسة للمسار الديمقراطي.
والعجيب أنه في ثورة 25 يناير حين كان كل الشعب المصري يطالب بإسقاط النظام لم يتجرأ الجيش على عزل مبارك ولا الانقلاب عليه وإنما قرر هذا الأخير التنحّى من منصبه. لأنه في مصر ومنذ العهد السابق وللحفاظ على سيطرة العسكر فان وزير الدفاع يرشحه المجلس العسكري الأعلى وأعضاء هذا الأخير لحد الآن من النظام السابق ومن الطبيعي أن يتخوف هؤلاء من أن يكون مصيرهم كمصير المشير طنطاوي، وأن ينزعجوا من أي بنا ديمقراطي قد يفقدهم السيطرة على الأمور كما حدث للجيش في تركيا، فاستبق السيسي الأحداث بالانقلاب وإرجاع النظام القديم أكثر قمعا وشراسة فاعتقل المخالفين وأغلق الفضائيات والجرائد والمجلات وحبس الرئيس الشرعي المنتخب وقام بمجزرة في حق متظاهرين عزّل راكعين ساجدين لله الواحد القهار.
ما يؤكد أكثر عودة النظام القديم مكشرا على أنيابه ومظهر لمخالبه بكل مؤسساته العميقة والمتجذرة في مصر – مخابرات وجيش وأمن – هو احتفال الجيش بطائراته فوق سماء ميدان التحرير مظهرا انحيازه بجلاء إلى حركة التمرد وكذلك التهاني الفورية التي جاءت من عواصم محور الاستبداد والفساد العربية مثل الرياض وعمان والكويت وذبي والرباط ودمشق، ومنها تهاني مرفوقة برشاوي مالية سياسية سخية لوأد الديمقراطية والتحرر والتعامل بالندية واستقلالية الدولة المصرية في اتخاذ قراراتها، رشاوي لتبقى مصر تمد يدها لهؤلاء وأسيادهم في الغرب ولتعود إلى الدور المخزي الذي كانت تقوم به في عهد مبارك.
لهذا يتضح كيف يتم تغليب التنافس السياسي والمذهبية والمصالح الذاتية على البناء الديمقراطي واحترام الدستور والمؤسسات الدستورية على المصلحة العليا للوطن وعلى بناء الصرح الديمقراطي وكيف قدمت هذه الأطراف قبول الرشاوي السياسية – أو ما يسمونه هم بالمساعدات – على التحرر واستقلالية قرار الدولة والتعامل مع الخارج بالندية.
قد يتضح من ظاهر الوقائع أن ما وقع كان في غير صالح الرئيس المنتخب وحزب العدالة والحرية وجماعة الإخوان المسلمين والحرية والشرعية. بل على العكس من ذلك فما وقع ينطبق عليه قول الله عز وجل وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. إن في ما وقع في مصر خير كثير للإخوان وللرئيس، فنلاحظ اليوم كيف أن شعبية الرئيس تصاعدت بشكل مثير بعد أن كانت في تناقص مستمر وكيف أن الشارع المصري أضحى يطالب بعودته وكيف أن الجماعة استردت ما كاد يضيع منها بعد الانتخابات والاتهامات التي وجهت اليها “بأخونة الدولة” وكيف كانوا يتهمون بالإقصاء للغير وكيف كاد الخصم يعزلهم عن الشارع المصري… وكيف أصبحوا اليوم جنبا إلى جنب في ميدان رابعة العدوية مع مجموعة من الذين كانوا خصومهم بالأمس. ولعل الرابح الأكبر من فعلة السيسي وأعوانه هي الديمقراطية حيث إننا نرى اليوم كيف أن الشارع يطالب بعودة الشرعية والرجوع إلى ما أفرزته الصناديق واحترام إرادة الشعب وكيف أصبح ميدان رابعة العدوية يضم أطيافا مختلفة التوجهات تطالب بالشرعية الدستورية بغض النظر عن الشخص وانتمائه.
وأخيرا أتمنى أن يعود الجيش إلى رشده في ركن الحياد ويحافظ على حدود البلاد ودماء العباد وأن لا يحشر نفسه في المنافسة السياسية ولا ينصر طرفا على آخر كما هو حال الجيش في البلدان الديمقراطية المتقدمة وأن لا يكون وسيلة لقيادة معركة خاسرة ضد جزء من أبناء شعب النيل. وفي الأخير قد يجد نفسه مضطرا إلى أن يختار بين أن يكون إما مع كل الشعب أو ضد كل الشعب. وتلك كرّة خاسرة.