مشروع قانون المسطرة الجنائية: تقنين التسلط وتجميل الفشل بدل إصلاح العدالة

Cover Image for مشروع قانون المسطرة الجنائية: تقنين التسلط وتجميل الفشل بدل إصلاح العدالة
نشر بتاريخ

أولًا: سياق التعديل وموازين القوى

في مشهد ماراثوني يفتقر إلى النقاش العمومي الجاد، مرّ مشروع قانون المسطرة الجنائية عبر أروقة المصادقة الشكلية، في استنساخ مألوف لمسار تشريعي يُراد له أن يبدو ديمقراطيا في الشكل، بينما يفتقر إلى المشروعية الشعبية والمشاركة المجتمعية الحقيقية.

منذ استقلال البلاد، ظلّ قانون المسطرة الجنائية مرآة لتوازنات القوى السياسية؛ فمنذ صدور أول نص سنة 1959، تميزت التعديلات بطابعها السلطوي في فترات، مقابل انفتاحات محدودة في محطات أخرى مثل ما بعد الاستقلال، أو خلال ما سُمِّي بالانتقال الديمقراطي، حيث تم اعتماد تعديل شامل سنة 2002 أدخل بعض الضمانات الإجرائية، دون أن يغيّر جوهر التوازن المختل في المسطرة الجنائية.

أما في سياق “الربيع العربي”، بعد دستور 2011، فقد وُعد المغاربة بمراجعة شاملة للمنظومة الجنائية بما ينسجم مع مبادئ دولة الحق والقانون. تم إعداد مشروع جديد منذ سنة 2015، إلا أن إخراجه تأخر لأسباب سياسية، ثم بدأ تسريعه في السنوات الأخيرة وسط تراجع حقوقي وتغوّل السلطة التنفيذية، ما أسفر عن مشروع يعكس موازين قوى مختلة.

هذا المشروع لا يأتي في سياق انفتاح ديمقراطي، بل يُفهم في إطار الانكماش الحقوقي، واستغلال برلمان فاقد للمشروعية لتمرير نصوص تخدم منطق التسلط لا الحرية، والتحكم لا التوازن، والانحياز لا الإنصاف. وهو ما يفسر أيضا المضامين الظالمة والمجحفة التي يتضمنها، والتي تعكس رغبة في تقنين واقع متدهور لا إصلاحه.

ثانيًا: التعديلات ومبادئ المحاكمة العادلة

بعيدًا عن الخطاب التجميلي، فإن التعديلات المقترحة تُضعف أسس المحاكمة العادلة وحق الدفاع وتكافؤ الأطراف، ومن أبرز الملاحظات:

– يُجسّد مشروع المسطرة الجنائية هذه الردّة من خلال مضامين تُكرّس الخلل القائم في ممارسات التحقيق والمحاكمة، حيث يُقنِّن المشروع ما تعرفه المحاكمات من شطط في استعمال السلطة، وانتهاك للمساطر القانونية، وهيمنة شبه مطلقة للنيابة العامة (القضاء الواقف) على حساب القضاء الجالس ودور الدفاع، بما يفقد المحاكمة توازنها المفترض، ويحولها إلى مسرحية محسومة سلفا.

– كما أن المشروع يعمّق اختلال ميزان العدالة من خلال مقتضيات تُضعف الرقابة على الفساد والمفسدين، حيث تُمنح سلطة تقديرية واسعة في تكييف الأفعال الجنائية إلى مجرد جنح، مما يقلّص من آثارها القانونية والعقابية، ويُفلت المتورطون من المحاسبة.

– يعزَّز صلاحيات النيابة العامة، بينما يظلّ قاضي التحقيق ضعيف الحضور والتأثير، مما يُفرغ وظيفة التحقيق من بعدها الضامن للحياد.

– في كثير من القضايا، لا يُلزم المشروع بحضور المحامي في لحظات حاسمة مثل البحث التمهيدي أو الاستماع الأولي، ما يُضعف حماية المتهم ويُعرضه للضغط أو الاعتراف القسري.

– يُقيد المشروع حق الدفاع في الاطلاع الفوري والكامل على الملف، خاصة خلال المراحل الأولى التي تُشكّل مسار الاتهام.

– تُوسَّع آليات التتبع والمراقبة والتنصت، دون ضمانات كافية للاستقلالية القضائية، وهو ما يُهدد الحياة الخاصة ويُطوّع القانون لخدمة الأجهزة.

– تُستعمل صياغات فضفاضة وغامضة، تفتح المجال لتأويلات تقييدية للحريات، بحسب ما تقتضيه الظروف الأمنية والسياسية.

وبذلك، لا يُمثل المشروع تقدمًا نحو ضمان المحاكمة العادلة، بل يقنن هيمنة النيابة العامة، ويُضعف الرقابة القضائية، ويُحوّل المتقاضي إلى طرف عاجز أمام سلطة الاتهام.

وحتى إن تضمّن المشروع بعض البنود الإيجابية -مثل التنصيص على حقوق المعتقلين أو تقليص مدة الحراسة النظرية والإجراءات البديلة أو تقنيات التقاضي الحديثة- فإن النسق السلطوي العام، وتغوّل الأجهزة على القضاء، كفيلان بتفريغ هذه البنود من محتواها، وتحويلها إلى مجرد أدوات للتسويق الإعلامي، لا آليات فعلية لحماية الحقوق والحريات.

ثالثًا: التعديلات وفشل السياسة الجنائية

إن هذه التعديلات، بصيغتها الحالية، لن تُخرج المغرب من فشل السياسة الجنائية الذي راكمته الدولة لعقود، بل تُعيد إنتاجه بلبوس قانوني مزخرف.

رغم وعود التحديث، فإن المعطيات الميدانية تفضح هشاشة السياسة الجنائية:

– المغرب يُصنّف ضمن الدول ذات أعلى نسب السجناء في المنطقة، بأكثر من 100 ألف سجين، بمعدل يناهز 230 سجينًا لكل 100 ألف نسمة، يفوق مصر التي تعرف 120 ألف سجين لأزيد من 100 مليون نسمة.

– نسبة الاعتقال الاحتياطي تفوق 40% من مجموع السجناء، في مؤشر صريح على الإفراط في السجن الوقائي وتغييب البدائل.

– لم تُواكب التعديلات إصلاحًا حقيقيًا لأدوار القضاء أو النيابة أو المؤسسات الرقابية، بل تم استبعاد المجتمع المدني من أدوار التبليغ عن الفساد المالي، وتكييف الجرائم الكبرى إلى جنح، بما يُضعف المحاسبة ويُفلت الفاسدين من العقاب.

– في مقابل ذلك، يُكرّس المشروع ثقافة الردع والعقوبة، ويُهمل البُعد الوقائي والاجتماعي للسياسة الجنائية، وهو ما يتنافى مع أبسط مبادئ الفعالية في العدالة الجنائية الحديثة.

إننا إزاء مشروع قانون يُجمّل الفشل بدل إصلاحه، ويُقنّن الانتهاك بدل وقايته، ويُضعف استقلالية القضاء، ويُحجّم دور المحاماة والمجتمع المدني، ويُعيد إنتاج منظومة جنائية متخلفة تحت ستار “التحديث”.

ما العمل؟

نحن أمام مشروع لا يُعزز الثقة في العدالة، بل يرسّخ منطق التسلط، ويُقنّن الظلم، ويحمي الفساد، ويُقصي المجتمع المدني من دوره في الرقابة والمحاسبة. مشروع يعيد إنتاج الواقع الأمني بقالب قانوني، ويُفرّغ المسطرة الجنائية من بعدها الحقوقي.

في ظل غياب إصلاح سياسي حقيقي ينتصر للحقوق والحريات، واستمرار إقصاء المجتمع المدني بمختلف مكوناته -من إعلام ومؤسسات تعليمية وجمعوية- عن أداء أدواره التوعوية والتربوية والإصلاحية، وغياب دور العلماء والمؤسسات الدينية عن أداء مهامها الطلائعية في التهذيب والتربية، فإن السياسة الجنائية في المغرب ستظل مرهونة للفشل البنيوي.

فلا يمكن لمنظومة أمنية وقضائية أن تنهض وحدها بأعباء الإصلاح، في غياب رافعات المجتمع الأساسية. والنتيجة أن النماذج البشرية التي تُنتجها هذه السياسة، في غياب التأطير والرعاية، ليست ضحايا فقط للظلم الاجتماعي والاقتصادي، بل تتحول أحيانًا إلى تهديد حقيقي لأمن المجتمع واستقراره، وتُجسّد عجز الدولة عن مواكبة استحقاقات المرحلة وتحديات المستقبل في عالم لا يرحم المتقاعسين ولا يغفر للفاشلين.

وهو ما يفرض على الفاعلين الحقوقيين والقانونيين، ومكونات المجتمع الحية، أن يُطلقوا نقاشًا وطنيًا صادقًا ومسؤولًا، وحراكا فاعلا ومحررا، من أجل قانون جنائي ومسطرة إجرائية يُبنيان على مبادئ الحرية والكرامة والعدالة، لا على منطق الردع والسيطرة. نقاش لا ينفصل عن رؤية شمولية لسؤال “أي مغرب نريد؟”، ولا عن عمل تشاركي يُشرك جميع أبناء هذا الوطن؛ من تقلّهم أرضه، وتظلّهم سماؤه، وتجمعهم روابطه العقدية والتاريخية والثقافية، وتُهددهم أطماع المفسدين، واستبداد المستبدين، وتربص الصهاينة والمتآمرين.