“ألا وإن لي أشياء أوصي بها من يسمع ويعقل، صدى وترجيعا يبلغه الله عز وجل آذانا واعية وقلوبا صاغية، إن شاء ربنا الولي الحميد… لتشهد يوم القيامة الأشهاد أن عبد السلام ياسين عبد مفتقر إلى عفو ربه مقر بذنبه، يشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد، وأن سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، دعوة صادعة، وحجة على الخلق بالغة، وخلافة على منهاج النبوة بعد يانعة رائعة” 1.
كان هذا مقتطف من وصية الإمام المجدد رحمه الله التي أتم كتابتها بإحدى عشرة سنة قبل وفاته في 28 محرم 1434ه الموافق للثالث عشر من دجنبر 2012م. وصية عبد مفتقر لربه، مقبل عليه محتسب للقاء الآخرة. ضمنها كلمات نثرية تشمل عصارة ما كتبت يمناه لصالح الإنسان وماهية سلوكه لربه ومآله، والإسلام ومستقبله، والأمة وخلاصها. قال رحمه الله في وصيته المنظومة أيضا:
نصحتك حبي أخي في حياتي
وهذي الوصية من مرمسي
بنية روحي أخت الجهاد
إليك كساء من السندس
إليكم عصارة عمر مضى
تصرم في النجح والمبأس
إليكم وصية من قد ثوى
دجى القبر شخص له ونسي 2
التجديد المطلوب
يبعث الله للأمة من يجدد لها دينها على مر الحقب والعصور ممن اجتباهم من أصفياء وربانيين. بشرى نبوية تحققت بعد انصرام زمن الخلافة الراشدة. وفي سبعينيات الألفية الأولى بزغ فجر التجديد لهذه الأمة على يد الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله، وما وسمه بعلم “المنهاج النبوي” استشرافا لمستقبل الإسلام والخلافة الثانية على منهاج النبوة كما ترويها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم 3. راسما معالم طريق الإنسان الكادح لربه كدحا في الدنيا فملاقيه يوم البعث، تحدوه غاية وجودية أن يكون عبدا مطيعا لله عز وجل.
أرشد رحمه الله إلى سلوك سبيل الفقه المنهاجي الشامل للدين والدنيا والآخرة، ولخلاص الفرد والجماعة معا، ولتحرير الأمة من الخنوع للطاغوت إلى عبادة رب العباد جل جلاله. وحيث ما تزال الأمة تجر أذيال وهنها، وبعدها عن ربها، منهكة بأثقال مخلفات الاستعمار وفساد الأنظمة الجبرية، أضحى ضربة لازب أن يعرف الإنسان الباعث من إسلامه وإيمانه وما مدى غاياته الكبرى. بمعنى “أن يكون الله عز وجل غاية كل فرد من العباد، أن يكون ابتغاء رضاه والسباق إلى مغفرته وجنته، والسير على مدارج الإيمان والإحسان لمعرفته والوصول إليه” 4. في مشروع الإمام الغاية الإحسانية مطلب وأساس الدعوة إلى الله عز وجل، وعليها يبنى سلوك الفرد والجماعة على مستوى التربية الإيمانية وانبعاث الإرادة الجهادية في تغيير ما علق بالفرد والأمة من عنف الحضارة الجاهلية، ويخص الإمام جانب العدل.
“إن مرمى التجديد المطلوب للأمة هو تجديد بواعثها لتقوم، أفرادا تجدد إيمانهم بالتربية، وجماعة تجددت قوتها بتجدد بواعث أعضائها الإيمانية بواجب الجهاد واقتحام العقبة” 5. يؤكد رحمه الله في مشروعه أن التجديد ليس تغييرا لثوابت الدين وأحكامه المنصوص عليها في القرآن والسنة، وإنما التجديد في الترقي في مراتب الدين إسلاما وإيمانا وإحسانا، يكون المبدأ ذكر لا إله إلا الله وآخرها إماطة الأذى عن الأمة، يتوخى الشمولية في التنزيل والتنفيذ كما تلقاه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم.
الإنسان والتغيير
لم يكف التجديد الفكري الذي أحدثته الحركة الإسلامية منذ مطلع القرن العشرين، وإن كان صحوة مهمة في تاريخ الإنسان، لكن لب رسالة النبوة، وهو الدعوة إلى الله وهداية الخلق لتمام العبودية لله عز وجل، ذاب في دواليب الدولة وأنظمة الجبر، لذا أكد الإمام طوال حياته عن الغاية من وجود الإنسان ومآله. الإمام وعبر مكتوباته ومصنفه الكبير “دولة القرآن” بث تجديدا شموليا يتعمق في مكنونات هذا الكائن البشري، قلبيا ونفسيا وفكريا وإيمانيا. يقول الإمام رحمه الله مخاطبا الإنسان: ما معنى وجودي؟ وما معنى حياتي؟ وفيم سنستثمر حياتنا، ومالنا، وعلمنا، حتى يبلغ مردودها أقصى مداه؟ 6.
أثرت حضارة السوق والمال والسلطان الحديثة على الإنسان، في العالم وفي ديار الإسلام. فماج واضطرب عقله وقلبه في خضم عالم الاستهلاك المادي والفكري المنكر للدين والقيم، فعرض الإمام معاني الحرية والعدل والأخلاق على ميزان القرآن والنبوة، بعد أن خاض فيها الفلاسفة منذ قرون في حربهم مع الكهنوت الكنسي. فدعونا نغوص في المنهاج لنقرأ للإمام عن ذلك الزيال بين “الإنسان الحر” و”الإنسان المسخ” يعرضه على صاحب المنهاج الهادي إلى الصراط المستقيم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام رحمه الله: “إن المسخ انحراف الإنسان عن قصد ما خلق من أجله” 7، فالناس تبعث على صور أعمالها في الدنيا، فهم يعيشون هذا الانحراف في حياتهم الدنيا وفي الآخرة أيضا، ما لم يستجيبوا لداعي الله بالإسلام والإيمان التامين الأكملين. يقول الإمام رحمه الله: “ومادام الإنسان في دائرة الإنسية وحياة الأرض فقد بخس نفسه حقها وعمى عن الحق، فهو مسخ” 8. ولن تكتمل نقلته من غسق الدائرة إلا بعد أن يعلن ولاءه لخالقه إسلاما وإيمانا، عملا وتنفيذا في الدنيا، وتبصرة بالنبأ العظيم.
غاية المشروع
في مشروعه التجديدي رحمه الله دل على الوصفة النبوية الطبية للإنسان ليتحرر ويتغير من الجاهلية إلى الإيمان الفاعل والعملي هي إعلاء لا إله إلا الله 9 ذكرا وفكرا وشكرا وعلما وعملا، تطبيبا للسان وتنفيذا بالأركان، ليكون مسار الأمناء العاملين بها “لدحض الطاغوت وإحقاق الحق، لا إله إلا الله، لا معبود إلا إياه، لا حاكم إلا هو، لا مشرع إلا هو، لا مرغوبا في رضاه ومخوفا من غضبه إلا هو” 10.
إن غاية سعي الإنسان المكرم ليس بتحقيق معاشه وإرضاء أنانياته الدنيوية، الفكرية والاقتصادية وغيرها، إنما بمدى انتسابه للحق واستسلامه التام لخالقه. إذ إن “المؤمن بالله ورسله وغيبه، الذاكر غير الغافل، إنسان الفطرة كما عرفناه بالمعنى القرآني للفطرة، إنسان حر” 11، فإن نكص على عوامل التربية وتطبيب أمراض روحه وجوارحه، وأعرض عن طاعة الله ورسوله تعرض للمسخ الجاهلي المقيت.
تحدث الإمام كثيرا عن تربية الفطرة ورعايتها، للذكر كما للأنثى، تربية إيمانية يستجيب وتستجيب فيها للوحي قرآنا وسنة تلمذة وتنفيذا، هداية العقل وهداية الجوارح حتى تعرف ربها ومصيرها بعد الموت، حتى تخرج من حظيرة الدوابية والأنعام الضالة عن هذا النور الإلهي. إنه إنسان الفطرة السليمة المخاطب في القرآن: “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا” [الروم: 30].
إن ما غيبه الفكر الحداثي العلماني واللائكي، وأنكر مسلماته اليوم، ذاك الرابط بين الإنسان والغاية من وجوده وعالم الغيب، بين إرادته هو وإرادة الله بارئ الكون موجد الموجودات. يرى الإمام أن الإنسان الحر هو من عقد العروة الوثقى مع قداسة الوحي معرفة وعلما وعملا، لا من يسرح خارج حماه. فالإسلام حرر العقل وأرشد الفطرة وهذب الجوارح، فميز بين العقل الخاضع للوحي والإيمان فتبين رشده وتحققت عبوديته لخالقه، وبين العقل الخانع للهوى يفسد أكثر مما يصلح هو كما يصفه “صنم العصر المعبود” من دون الله عز وجل.
علم المنهاج سر التغيير
يقول الإمام رحمه الله في كتابه الإسلام والحداثة: “حياتي رأسمال لا يعوض، والتدبير السيئ له لن يقود إلا إلى الإفلاس الأخروي. تلك هي لغة القرآن الذي يعبر بها عن الحياة الشخصية بمصطلحات من قبيل العمل الصالح الخالص والحساب والجزاء والخسران، فيصبح أخسر الخاسرين من ضيع نفسه بإفناء عمره في الغفلة عن المصير وتضييع نفسه في سفساف الأمور” 12. جعل الإمام هذه الأسئلة في مكتوباته حافزا محركا لكوامن الإنسان، ومنه المنطلق لتغيير ما بالنفس البشرية، وسمه بـ”قانون التغيير الإلهي”، المتمثل في قوله تعالى إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11]. إنه التربية، والتربية تغيير وتقويم لنفس الإنسان حتى يستقيم قلبه وعقله وإرادته تحت مراد الله سبحانه، فتستقيم رؤيته للعالم من حوله بمنظار الإيمان بالله وبالغيب.
يقول الإمام: “ففرقان الله يدلنا على مصدر التغيير وهو سلطانه عز وجل فهو المغير، وأنه جعل سببا للتغيير ما نحدثه نحن في أنفسنا من تحول. وأن رسولنا صلى الله عليه وسلم علمنا أن التحول النفسي من الإيمان للكفر يحدث بعامل التربية. فنفهم أن التحول المعاكس يحدث أيضا بالتربية” 13. تربية على مراتب الدين: إسلام، وإيمان، وإحسان، ثم النبأ العظيم، كما تفضلت بها النبوة في حديث جبريل. عبر تلك المرقاة تتكون في أمة الإسلام الشخصية الإيمانية الإحسانية، ترتقي بإيمانها وإحسانها مراقبة لله عز وجل في النيات وأعمال الجوارح. يتحدث رحمه الله عن عمق هذه التربية المنشودة في الفرد والجماعة: “الغاية أن يعرف العبد ربه، بأن يتقرب إليه حتى يحبه سبحانه، ويكرمه بما يكرم به أولياءه. وكل القربات من أقوال وأفعال وأحوال وأخلاق في جوف هذه الغاية وفي طريقها ومن شروطها. وكل ما يسميه لسان الاصطلاح تربية دون أن يحقق هذه الغاية فليس التربية التي نقصدها” 14.
سطر الإمام إلى جنب تربية الفرد الروحية غاية ملازمة لها وهي: تأهيل المجتمع وتربيته استنبطها من القرآن والنبوة الشريفة، إنها الاستخلاف في الأرض لحمل رسالة الإسلام لكل البشر. قد يقول قائل هذا القرآن وهذه السنة بين ظهرانينا ولم المسلمون غرقى في مستنقع جاهلية العادة والهوى والدعة للدنيا؟ يجيب الإمام حاثا ذوي الألباب بضرورة الالتفاف حول منهاج النبوة وعلم المنهاج: “تجد في كتاب الله تعالى حين يقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24]، فلو كانت القلوب قد حررت من أقفالها ولو كان الأمر يعني مؤمنين يعملون الصالحات، ولو كنا نومن بالغيب ونقيم الصلاة لما احتجنا لمجدد ولما احتاج من قبلنا إلى أنبياء يتلو بعضهم بعضا ليجدد شريعة الرسول الذي قبله” 15. كما رصد الإمام الضرورة الحتمية للتجديد بالمنهاج، كشف عن الخلل وهو الإقصاء القسري لموضوع عالم الغيب والآخرة من كل فكر أو حديث في زمن الحكم الجبري اليوم. لأن بفقه المنهاج يعقد رباط المسلم المؤمن بالآخرة والنبأ العظيم المنظم للدنيا والآخرة. كان القطب الرئيس في حياة النبوة والصحابة الكرام في سكناتهم وحركاتهم وحربهم وسلمهم. ذاك ما يريده دين الوحي الإسلام، وما تبغضه الحداثة المستكبرة.
هم النفس واهتمام الأمة
للإمام رؤية استشرافية؛ دعا فيها الصحوة الإسلامية لقراءة التاريخ من الأعالي وتطبيب الواقع بإزاء القرآن والنبوة، لا تحت لواء اديولوجيات وفلسفات علمانية إلحادية. “لن يأتينا خير إذن إلا من الطريق التي جاء منها الخير للأمم التي كتب الله لها الانبعاث، وهي طريق النبوة الممتدة في هذه الأمة في أشخاص الدعاة إلى الله الصادقين” 16. “صعد بصرك في التاريخ الإسلامي تجد نبضات الإسلام مقترنة بظهور الداعي إلى الله. صحبة رجال الدعوة الصادقين الأمناء يحل الأقفال عن القلوب بالتربية الروحية” 17.
كانت دعوة الإمام صريحة أن يكون الفرد همه الله، قبل كل شيء يشغل ليلته ويومه محبة وقربة له. ينخرط العبد وسط جماعة المؤمنين بعد ذلك في دعوة الناس وتربيتهم بما تعلم، من غير أن يغفل عن تهممه بشؤون ومظالم المسلمين والأمة في جميع الأقطار. لذا سطر رحمه الله غايتين هما أساس كل بناء للفرد والأسرة والمجتمع: الغاية الإحسانية والغاية الاستخلافية.
وصيته رحمه الله
“وأوصي كل ذي همة يقظة ألا يكون له من دون الله عز وجل مطلب يحجبه عن الله. طلب الثواب والأجر والجنة شرع من الشرع. وإرادة وجه الله، والسعي إلى مرضاة الله بما يرضي الله ويقربنا من الله مرمى الهمم العلية. بشرط العمل الدائب والنية المتجددة. أوصي أن العدل قرين في كتاب ربنا وفي اسم جماعتنا فلا يلهنا الجهاد المتواصل لإقامة دولة العدل في أمتنا عن الجهاد الحثيث لبلوغ مراتب الإحسان” 18. وصيته رحمه الله نابعة من تهممه الشديد وحرصه البالغ أن ينبعث الإيمان في قلب العبد، وتتيقظ همته صحبة إخوانه، ويسلك مدارج السالكين الطامحين الطامعين لمراتب الإحسان تربية وصدقا. ولا يثنيه مطلبه هذا أن تسمو إرادته وتبلغ مدارج المجاهدين عملا وبذلا بين المسلمين وفي جموع الأمة. لذلك ترك الإمام بين مكتوباته للإنسان الشاهد بالله ربا وبالإسلام دينا وبسيدنا محمد نبيئا ورسولا حرية اكتشاف هويته المسلمة الحقة وصفاتها وشروطها وغاياتها ومقاصدها.
– الهوية الإحسانية الإيمانية
عبر قرون العض والجبر تعرضت الهوية الإسلامية لعوامل انجراف التربية الإيمانية عنها فامتزجت بمؤثرات الجاهلية والخلافات المذهبية والطائفية المفرقة للمسلمين، والعلمانية المدنسة للدين، حتى أن كثيرا منهم “يتنكرون للدين، ويلحدون في الدين، ويفرون من الدين” 19.
يرى الإمام أن “باعث بعضهم المسخ الثقافي والإباحية الأخلاقية، يرون في الدين عقالا لحريتهم كما يفهمون الحرية تسيبا بلا حدود” 20، يعزيه إلى الجهل بالدين أو مزجه بالخرافة، وزحف رمال العلمانية والقومية على هوية المسلمين. “فنخبة من ذراري المسلمين تربوا تربية الولاء الجاهلي والغذاء الفكري الجاهلي” 21، معينها التربوي فلسفة الغرب وأصنام العلمانية واللائكية. ومع انبعاث الإيمان بعد قرن الصحوة الإسلامية إلى اليوم، أي في الألفية الثالثة، بدأ التحول في البحث عن مسار الهوية المسلمة المؤمنة.
من قدره سبحانه وتعالى الابتلاء في هذه الأمة عبر الزمن، ومن أقداره الانبعاث على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباعا وإيمانا وخلقا وجهادا. لذا كان التدرج النبوي في اعتلاء مدارج الدين إسلاما فإيمانا ثم إحسانا، كما جاء جبريل يعلمه للصحابة في حضرة نبيهم الكريم.
يؤكد الإمام أنه من سننه سبحانه وتعالى أيضا كما أخبر بها نبيه الحبيب صلوات ربي عليه أن يجدد الإيمان للأمة على يد من اجتباهم من عباده؛ طلب الإحسان في كل مناحي حياة العبد “في معانيه الثلاثة تعطينا مواصفات المؤمن الصالح في نفسه وخلقه وتعامله مع المجتمع، وتعطينا الوصف المرغوب لعلاقات العبد بربه وبالناس وبالأشياء” 22. وكثيرا ما أكد على حقيقة منهاجية هي عماد قومة الأمة للتغيير والتحرر من الفساد؛ أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وصلاحها بإخلاص الولاء لله عز وجل. وأن اكتساب الهوية الإحسانية الإيمانية الربانية هو الضمانة الوحيدة ليكون الله معنا، ولتكون الدنيا وبروزنا فيها وقوتنا وانتصارنا مدرجة لسعادة كل فرد منا في الآخرة” 23.
ولا يروم مطلب الإحسان والإتقان في الباطن والظاهر من لم يوثق إسلامه بأركانه الخمسة، ويحكم شروط إيمانه الستة، ويبرهن عنها صدقا في طاعاته، وخلقه وحيائه من الله، وأدبه مع الناس وفي المعاملات الاجتماعية والمالية، والذي “يبني على غير أساس، يسقط على أم رأسه” 24.
– الهوية الاستخلافية
يقول تعالى: هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ [هود: 61]. غاية الله من خلق البشر هو استعمارهم في الأرض عبر شروط سنها القرآن والنبوة وهو العمران على أسس العدل والشورى والإحسان. وعد الله عباده بالاستخلاف والتمكين في أرضه رهين بتحقيق أواصر التراحم وروابط الإيمان بربهم. فالإحسان والعدل متلازمة حياة وآخرة الإنسان السوي فطرة، السليم قلبا، القائم بالقسط في أرض الله، المبغض للظلم والعدوان.
يتحدث عن الغاية بأنها ليست المقصودة لذاتها وإنما الباعث الإيماني الإحساني الملازم لها، الذي لا يرتضي غير وجه الله والآخرة سبيلا ووجهة. إن الاستخلاف في الأرض مشروط “ليعرف العبد ربه ويتهيأ للقائه بعد الموت” 25.
إن من صدق تجليات التربية الإحسانية المراقبة لله عز وجل، هو توثيق العروة بين الإنسان وربه، فلا يركن للطاغوت والاستكبار البشري والمادي. وما بعث الرسل وخاتم الرسالات سيدنا محمد صلوات ربي عليه إلا لإتقان مهام الاستخلاف إيمانا وعدلا ورحمة لكل العالمين. يقول تعالى: وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25]. غاية الخلق كله أن يقوم الإنسان بالقسط أي بالعدل والتوازن لا يميل مع ما يترفه ويرديه، بل يقتحم العقبة دائما، ليلقى ربه وهو راض عنه. فإذا استكبر الإنسان بحضارته وبأسه وابتعد عن موقف الفطرة من حيث يخشى ربه ويعبده وينشد عنده الرحمة والنور والمغفرة أهلكه الله” 26.
هذا هو الزيغ الذي غرقت فيه الإنسانية المنغمسة في حضارة الأشياء، نراه اليوم في جاهلية الاستكبار العالمي التي تبسط براثنها على العالم الإسلامي، بعد أن أرست أوثانها الاستبدادية في أصقاع الأمة، الشاهدة على ظلم المعتدين المغتصبين للحق الإنساني فلسطين السليبة. فمن الشروط الكونية للاستخلاف أن هذا الإنسان “مؤتمن على الكون كله ليس من حقه أن يعيث فسادا في شبر من هذا الكون الذي اؤتمن عليه، فوظيفته عمرانية” 27 لا إفسادية؛ ينكر المنكر ويأمر بالمعروف ويدافع الباطل ويقاتل العدو المحتل لمقدساته.
إن مرد ضعف الإنسان المسلم راجع لضعف هذه الأمة بعد أن سقطت فريسة الاستكبار، ونصبت أنظمة الحكم الجبري العلماني تعيث فيها فسادا، ومن جهة ثانية بعده الكبير عن منابع الوحي وهشاشة إيمانه بربه والغيب. لذلك فقيام الإنسان العبد لله بالعدل في الأرض نابذا للظلم واجب آكد هو من صميم إيمانه ويستوجبه عليه مقتضى إحسانه كيلا يهلك فتخرب آخرته.
كثيرا ما دعا الإمام رحمه الله الأجيال ذكورا وإناثا إلى التحلي بمعنى الرجولة حسب التوصيف القرآني والجامعة لمعاني: الإيمان والإحسان والذكر والجهاد. حمل رحمه الله بفخر بشارة النبوة لشباب الإسلام المناهض للظلم والفساد، الطامح للعدالة والكرامة والذي يؤرقه رؤية المستضعفين في بلاد الإسلام خاصة في بيت المقدس وأكنافه. إن وعد الآخرة التي أخبر الله بها في القرآن حول زوال الإفساد الصهيوني في الأرض رهين بإرساء أبنية الخلافة الثانية على منهاج النبوة تربية وتبليغا وعملا وجهادا، ينجزه سبحانه على يد الرجال، يدعوهم “هلم نكن جميعا قرآنيين” 28، يصلحون الواقع بمنظار القرآن ويمشون بين الناس بمنهاج رسول الأمة صلى الله عليه وسلم. الرجال وما معهم من إيمان وإحسان هم خميرة “الأجيال المباركة التي تنبذ عبادة الطاغوت لتتوجه بآمالها وقلوبها وعقولها إلى عبادة من له الحق ومن هو الحق المبين” 29.
يدعو رحمه الله شباب الصحوة إلى الرجولة الكاملة التي تدور حول القرآن والنبوة حيث داروا. مقتدين بالجيل القرآني من الصحابة والخلفاء الأربعة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، يستلهمون منهم حبهم للحق واتباعهم للنور النبوي وعيشهم للآخرة. يدعوهم ليكونوا “صنوا للجيل القرآني الأول وعمادا للخلافة الثانية” 30. ما فتئ رحمه الله ينوه بأهل السابقة بالإيمان والإسلام والإحسان والهجرة لله والجهاد لنصرة دينه “لنكون رجالا كما كانوا” 31. ففيهم تمثلت الرجولة وهم الذين “هداهم الله لنوره، أنهم أهل مسجد وأهل ذكر وتسبيح بالغدو والآصال وأهل صلاة وزكاة، وأهل خوف من الآخرة، وأهل ترقب ورجاء في الله العظيم الكريم” 32.
[2] نفسه، ص27.
[3] عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” رواه أبو داود (441/ 109) والبيهقي والحاكم بسند صحيح. وكلمة منهاج نبوي استقاها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بشارته أمته بالخلافة على منهاج النبوة بعد الحكم العاض والجبري. روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “تكون فيكم النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون الخلافة على منهاج النبوة، ثم سكت” مسند ابن حنبل، حديث النعمان بن بشير. 8697/4187، ج8.
[4] المنهاج النبوي، عبد السلام ياسين، ص15.
[5] نفسه، ص40.
[6] الإسلام والحداثة، عبد السلام ياسين، ص269.
[7] الإسلام بين الدعوة والدولة، عبد السلام ياسين، ص73.
[8] نفسه، ص75.
[9] عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الإيمان بضع وسبعون شعبة-عند البخاري بضع وستون- (زاد مسلم): أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”. صحيح البخاري، باب أمور الإيمان، 9/ 11. صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان. 35/46.
[10] المنهاج النبوي، عبد السلام ياسين، ص41.
[11] الإسلام بين الدعوة والدولة، ص75.
[12] الإسلام والحداثة، ص269.
[13] الإسلام بين الدعوة والدولة، ص597.
[14] المنهاج النبوي، ص384.
[15] الإسلام بين الدعوة والدولة، ص22.
[16] نفسه، ص17.
[17] نفسه، ص25.
[18] وصيتي، ص17-18.
[19] الإحسان، عبد السلام ياسين، ص506.
[20] نفسه.
[21] نفسه، ص449.
[22] نفسه، ص17-18.
[23] نفسه، ص449.
[24] نفسه، ص116.
[25] المنهاج النبوي، ص8.
[26] الإسلام غدا، عبد السلام ياسين، ص 158.
[27] نفسه، ص175.
[28] سنة الله، عبد السلام ياسين، ص254.
[29] نفسه، ص257.
[30] نفسه، ص261.
[31] نفسه.
[32] نفسه.