مشاهد راقية من حياة السيدة خديجة مع الإمام ياسين

Cover Image for مشاهد راقية من حياة السيدة خديجة مع الإمام ياسين
نشر بتاريخ

1

بعد أن نفضوا أيديهم من التراب، خفقت قلوبهم وارتعشت وهم يتأملون مشهد القبرين المتجاورين، أحسوا ببعض نفحات البرزخ الدافئة تداهمهم فجأة.. سالت دموع الأهل والأصحاب في صمت، ودفنوا وجوههم وسط أكفهم حين رفع الدعاء..

2

انتقل الخبر في وسائل الإعلام انتقال النار في الهشيم.. كان المشهد دراميا بكل المقاييس؛ جحافل من قوات التدخل السريع تعترض نعش امرأة متجهة إلى مثواها الأخير. وبين ظهر يوم وعصره أصبح الكل يتحدث عن السيدة خديجة، وأصبح اﻻسم ظاهرا بعد أن كان خفيا تقيا إذا غاب لم يفتقد وإذا حضر لم يعرف.. فالأخفياء يظهر الله أمرهم متى شاء، وقد شاء ما شاء متى شاء.. صنع الله وفضل الله وكرم الله.

3

كانت في الخامسة عشر من عمرها، حملت قلبها بين يديها وهي متجهة صحبة زميلتها في الثانوية ﻻلة عفيفة أرسلان إلى أحد بيوت الله.. كانت صديقتها عفيفة تحدثها رغم حداثة سنيهما دائما عن الله وعن صحبة عارف بالله.. التقت بسيدي ابراهيم الروداني رجل ناعم البال خالي الذهن من تفاهات الحياة، دلها الرجل على العارف بالله الشيخ العباس وشوّقها لرؤيته.

4

كان يوما مشرقا من أيام الله.. حين التقت بالشيخ العباس استشعرت هيبة عظيمة ونورانية ظاهرة جلية، كان طويل القامة، سمح الملامح، وجهه أبيض مُشربا بحمرة، استقبلها بابتسامة وعينين صافيتين وقد أشرقت لحية بيضاء في وجهه زادته نوراً على نور.

شيء غريب ﻻ تدري كنهه ولد في صدرها تلك اللحظة.. ﻻ تجد تفسيرا واضحا، تعطل الوقت وعقارب الزمان، شعرت بنفسها وكأنها ليست هي، وتملكتها الدهشة والبراءة والنقاء.. شعرت بأحاسيسها تولد من جديد وتصبح أكثر رقة وأكثر صفاء.. حين نظرت إلى أختها ﻻلة عفيفة، اغرورقت عيناها بدموع اﻻمتنان..

5

يقول أولياء الله “على قدر  الإناء يكون العطاء، وإناؤها الذي حملته وهي تذكر الله مع الفقيرات كان كبيرا واسعا وشاسعا، حين طلب يدها الأستاذ عبد السلام ياسين، وكان رجلا مطلقا وأبا لثلاثة أطفال، وافقت على الفور فقد رأت ما لم يره الآخرون: رجل ذو قلب أبيض كبير جاءها يسعى للزواج بها، يظلله نسب عريق وطلعة بهية ومنصب وثير وخلق نادر ، وفوق كل هذا محبة خاصة من شيخهما الحاج العباس الذي يحبه “قبالة قبالة” أي كثيرا كثيرا بلغة أهل وجدة، بل كان يقدمه ليؤم الصلاة بالفقراء في حضرته.. 

6

كان ياسين رجلا نحيلا وطويلا، خفيفا ورقيقا، يبتسم برقة وسهولة.. كانت ضحكته تدفئها مثل شمس مشرقة.. حين تجلس إلى جانبه وهو غارق في جلسة ذكر تحمل سبحتها وتكرر وراءه الكلمة الطيبة، كانت تحس كأن رذاذا من النور ينهمر عليها ويغمرها. كان زوجا دافئا ومحبا..

رقيق القلب حلو المعشر ﻻ يتعالى على مشاعره.. قالت عنه مرة: “كان سيدي عبد السلام إنسانا حنونا رحيما ودودا لطيف المعشر، يُذكّر دائما بالموت واليوم الآخر، كان يذكر الله تعالى في كل أوقاته، وكان يملأ أجواء البيت عبقا بروحانيته الفذة. كان لا يخاف في الله لومة لائم…

يقول العاشقون ﻻ يمكن لعين أن ترى بوضوح وبدقة مثل عين العشق.

7

“اعلم يا بني، ما من أمر تقدم عليه إﻻ وكانت معك فيه عناية الله، والله لن يخيبك الله” بهذه الكلمات سمعت حماتها  ﻻلة رقية ترد على عزم ابنها على كتابة رسالة إلى الملك ينصحه بالإسلام أو الطوفان، سرت رعشة خفيفة في جسدها حين نظر إليها طالبا رأيها، كانت في العشرين من عمرها وﻻ يزال طعم الحياة الزوجية حلوا في فمها، تنهدت في هدوء وطمأنينة وسكينة وغمغمت: “الله معنا”. حين التفتت إلى ربيبتها ندية ذات الستة عشر ربيعا رأت في عينيها ألقا عجيبا وإكبارا لوالدها الذي خصه الله بعطاء دون غيره.. كانت فتاة وكل فتاة بأبيها معجبة..

8

وجاء شهر رمضان كما تجيء أيام السعادة الحلوة التي تجري من بين أصابعك كما تجري المياه. ارتج البيت بطرقات عشرات من رجال الأمن، كانت حاملا بنجلها أحمد، حين طلبوا من زوجها مرافقتهم وقف غير هيّاب ولا وجل وتوضأ وصلى ركعتين جهرا، حين قرأ “إذا زلزلت الأرض زلزالها” شاهدت من خلف خوفها على زوجها مشهدا لن تنساه أبدا: شاهدت كيف تحول هؤﻻء القساة إلى مخلوقات مسكينة بائسة ترتعش في ملابسها من الخوف.

حين أخذوه أمام عينيها أحست بخنجر يخترق صدرها إلى المقبض، فالتجأت إلى حماتها ﻻلة رقية تعانقها وتبكي.. أما الفتاة ندية فقد فتحت نوافذ المنزل وهي تصرخ بكل ما أوتي قلبها الغض الممزق من لوعة على أبيها “الله أكبر الله أكبر”.. بكى الناس والجيران وحتى بعض من اقتادوه إلى غياهب السجن..

كانت ندية، وهي أم وحماة وجدة، أول من كبر في مقبرة الشهداء وكبر خلفها المئات، حين وافق المخزن على دفن ماما خديجة قرب قبر أبيها.

9

مضت ثلاث سنوات مترعة بالحزن الشفاف الرقيق.. تحملتها صابرة راضية داعية غير قانطة.. رأى النور ابنها أحمد وأبوه في ظلمة مستشفى الأمراض العقلية والصدرية، حين أظلمت قلوب جلاديه، ومكروا مكرا كبارا..

ما إن أطلق سراحه ورجع حتى ارتدت إليها روحها وهي تراه يدخل عليها باسما واثقا هادئا… ولأن طريق الدعوة عقبة واقتحام فقد رجع رجال الأمن مرة أخرى واقتادوا زوجها وهي حامل مرة أخرى بابنتها مريم، التي رأت النور هي الأخرى وأبوها في ظلمة السجن.. تلقت الحدث وهي ثابتة القلب هادئة الأعصاب أقرب إلى الفرح بقدر الله وفعل الله. ولأن الظلم يجعل النفوس أقرب إلى سماع الهدى فقد استجاب الكثيرون لدعوة زوجها وبدأ عود جماعته يشتد ويستوي على سوقه يعجب الزراع ويغيظ الظالمين.

لبث في السجن بضع سنين ثم عاد، كأن الله استجاب لدموعها وتوسلاتها لتعيش في ظله وتزداد له حبا وهياما كلما رأت ملمحا من عظمة ورقي وصفاء قلبه.. فلبث في الإقامة الإجبارية عقدا من الزمن وخمسة أشهر كانت فرصة لتنهل من معين الصحبة والمحبة والوفاء.. استأنست بقربه أيما أنس وتنعمت بروحه أيما تنعم..

10

كان قلبها مفتوحا وبيتها مفتوحا.. زيارات لا تنتهي لكل من علم بالإمام ياسين من شباب وكهول في كل الأوقات. تبتهج بكل طارق أو صاحب حاجة.. فتمر الأيام والشهور ومعظم وقتها في المطبخ تهيء أو في السوق تتمون. كانت لا تشتكي بكلمة ولا بإشارة، بل تعمل وتعمل وتعمل بغير منّ أو حساب. تحب المؤمنين، تطعمهم وتسقيهم، وتعين على نوائب الحق..

11

ومات الإمام المجدد عبد السلام ياسين..

12

كانت تتعجب كيف يتسع قلب في حجم قبضة اليد لأحزان في رحابة الأفق.. ترك رحيل الإمام آثارا عميقة في قلبها ﻻزمتها إلى آخر عهدها بالدنيا.. 

وقفت صامتة أمام قبره، أما بناتها فقد جلسن أمام القبر يبكين. فجلست إلى جوارهن على ركبتيها واحتضنتهن، ولم تدر كم من الوقت مر عليهن وهن يبكين وهي تمسح دموعهن بطرف ثوبها.

13

سنتان مرت على وفاة الإمام ياسين و ﻻ يؤنسها في الحياة شيء قدر طيف زوجها في بيتها، كانت تتنسم حضوره في كل ركن، كانت خديجة مسكونة بزوجها، كان واحتها وملاذها والقلب الرحيم الذي احتضنها  وكانت هي نعم الزوجة الوفية والأم الرؤوم..

كانت تعرف أن الله إذا أغلق بابا بحكمته فتح أبوابا برحمته..

تغمض كثيرا عينيها فترى قبل ذلك بسنوات طويلة، مشهد زوجها في حديقة المنزل وحوله الأبناء والأحفاد، تتعالى ضحكاتهم وهم يلعبون معه ويمرحون ويترك صغارهم يزينون لحيته بورود الحديقة، فتضحك عليه ويبتسم لها..

وبعد ذلك يقرؤون على لالة الحاجة رقية رحمها الله وعلى موتى المسلمين ما تيسر من القرآن الكريم -الفاتحة والإخلاص اثني عشر مرة والمعوذتين ثلاث مرات- يوميا، وبعد ذلك يختمون بنشيد جميل علمه إياهم: ” لالة فاطمة الزهراء جالسة في قبة خضراء شادة الحسن والحسين ولاد شفيع العباد، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، محمد رسول الله عليه سلام الله”. 

تتذكر اللحن والكلمات فتنهمر دمعة على وجنتيها تشق القلب نصفين..

14

كانت في الخامسة عشر من عمرها سألها الشيخ العباس “واش شفتي شي رؤيا”، فقالت له نعم رأيت فيما يرى النائم أن سيدي العباس أعطاني خبزة كبيرة وقال لي هذه خبزتك”، فتبسم وقال: “خير إن شاء الله”.

يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا.