مشاهدات من بلد “التسامح”

Cover Image for مشاهدات من بلد “التسامح”
نشر بتاريخ

المشهد الأول

اصطفت النساء والأطفال، طابورا طويلا أمام مبنى كبير واسع، ورجال بزي رسمي ومدني، ينظمون عملية الدخول إلى المبنى بانتظام واضح، حيث الدخول من باب والخروج من باب آخر، لا أثر للزحام، ولا احتجاجات ولا أصوات تعلو، كان الجميع في “خشوع” ظاهر، وأثر الفقر على النساء والأطفال ظاهر جلي لا تخطئه العين.

في وسط الصف كانت امرأة تسوق ابنها أمامها واضعة كلتا يديها على كتفيه، وهي تنحني عليه بين الفينة والأخرى، وتهمس في أذنيه:

– كن مهذبا يا ولدي، سيعطوننا مساعدة بمناسبة رمضان، وآمل أن يعطوك أنت كذلك فنحصل على قفتين, أنت تعلم أن أباك مريض وأخاك الأكبر لا عمل له وأختك في المدرسة.

– ولماذا لم يأتوا معنا فنأخذ أربع قفف؟

– لا يا ولدي، هم كبار ولا يسمحون إلا لصغار السن.

– ومن يعطي هذه القفف؟

– أناس طيبون، ولكنهم ليسوا على ديننا.

– ولماذا لديهم كثير من الأشياء؛ يأكلون ويشبعون ويعطون، ونحن لا شيء لدينا.

غمزت كتفيه بيديها، وأشارت إليه أن يسكت لأنهم اقتربوا من المدخل، خشية أن يسمعهم أحد “المنظمين” فيطردهم.

لما اقتربوا أكثر، لمح الطفل رجالا وأطفالا على رأس كل واحد منهم “طاقية” تغطي جزءا من أعلى الرأس، فالتفت إلى أمه قائلا:

– أمي .. أمي .. أخي كان يريني في الهاتف مثل هؤلاء يضربون ويقتلون رجالا وأطفالا مثلنا.

ضغطت الأم على كتفي الطفل بقوة أكبر، ودفعته كي يدخل إلى الداخل وعيناها تحدقان يمينا وشمالا وقد تملكها الذعر.

استقبلهم رجل بابتسامة باردة، وبجانبه طفل، وفي ساحة المكان قفف كثيرة، مغلقة بأشرطة لاصقة.

سلم الرجل ذو الطاقية للمرأة قفة، أحنت رأسها في خشوع يشبه الذل، وتمتمت بكلمات خافتة:

– الله يكثر خيرك اسيدي، الله يرحم الوالدين، الله يخلف عليكم.

لم يكترث الرجل لها وأشار إليها بالتقدم.

وقف الطفل ذو الطاقية أمام الطفل “الزائر” وهو يمسك بقفة، وقفا وجها لوجه، تلاقت نظراتهما، تسمر الطفل “الزائر” في مكانه.. حملق بعينيه في كل اتجاه، ثم استجمع قواه، وولى هاربا بسرعة البرق وهو يخترق الصفوف، أمام دهشة الجميع، وهو يصيح بصوت عال: لا… لا… لا… لا…؟؟؟

المشهد الثاني

تناهى إلى سمع بعض الناس “الطيبين” خبر مرض أحمد، الشديد، ومعاناة والديه الفقيرين، كان الموعد مع الطبيب في المستشفى الإقليمي بعد شهرين اشتد خلالها المرض عليه أكثر حتى كان يغمى عليه أحيانا، بعد زيارة الطبيب، وصف له دواء وطلب من والديه شهرا آخر، حتى يتوفر سرير، إذ لا بد أن يكون تحت الرعاية الطبية، لم يستطع الأب شراء كل الأدوية لغلاء ثمن بعضها، فاستعاض عن ذلك ببعض الأعشاب التي كان ينصح بها الجيران خلال الزيارة.

جاء رجل بصحبة طفل، ومعهم مقدم الحومة لزيارة المريض، وتفقد حاله، لما دخلوا البيت القصديري، سلم الرجل على والدي الطفل ثم تحلق الجميع حول أحمد، أخرج الرجل علبة دواء عبارة عن شراب من كيس بلاستيكي كان يحمله، صب منه في ملعقة كبيرة، وقربه إلى المريض قائلا:

– اشرب، ها قد جئتك بالأدوية الناقصة…

رفع الطفل عينيه ببطء شديد، حملق في وجه الرجل، نظر إلى طاقيته، ثم زم شفتيه بقوة وأشاح بوجهه جانبا، واستسلم لنوم عميق.

المشهد الثالث

بعد أذان المغرب تحلقت العائلة على طاولة الإفطار، كان الزوج والزوجة وابنتهما يأكلون من أصناف الطعام الكثيرة، في حين انشغل الابن ذو الست سنوات بهاتف ذكي يقلب صفحات بعض المواقع، كان الجميع يحفز الطفل على الأكل، خاطبه الأب: “كل يا ولدي هذه القطعة من اللحم، أو خذ تلك البيضة”، استدركت الأم: “بل سيأخذ قطعة من السمك، فهو من النوع الجيد ومفيد للأطفال”. علقت أخته ساخرة:

– إنه لم يكن صائما مثلنا، لماذا كل هذا الإلحاح.

كان الطفل لا يبالي بكل ذلك، ويمتنع متعللا أنه لا يشعر بالجوع. استدرك الأب قائلا:

– إن أكلت يا بني سأشتري لك هاتفا أحسن من هذا.

هز الطفل كتفيه، متجاهلا كل النداءات.

انشغل الأب بالحديث عن مشاريعه الناجحة، وتدخلات بعض المعارف لنيل بعض الصفقات، وحمد الله على الرزق الذي يسوقه المولى سبحانه إليه.

فجأة فتح الطفل تسجيلا في الهاتف، يظهر أطفالا عليهم ثياب رثة ممزقة، وهم يجرون ويلعبون بين أزقة يحيط بها القصدير من كل جانب. هرع الطفل إلى أبيه وهو يقول:

– أبي.. أبي.. من هؤلاء؟ لماذا ليس لديهم ثياب جديدة؟… وقرب الهاتف إلى أبيه كي ينظر. ألقى الأب نظرة خاطفة على الهاتف، وفي حركة ميكانيكية أزاح يد الطفل عن ناظريه، وتابع الحديث بابتسامة عريضة وارتياح كبير!