خرج يوم الأحد 5 أكتوبر أحرار وحرائر المغرب في مسيرة حاشدة نصرة للشعب الفلسطيني وإسناداً لغزة الأبية التي تأبى إلا الصمود في وجه طغيان إسرائيلي متوحش أبان عن انتهاك صارخ لحقوق الإنسان والقانون الدولي، وعن عربدة لا تتوقف في سلب حقوق المستضعفين من نساء وأطفال وشيوخ.
بعد مرور عامين على أحداث طوفان الأقصى المبارك الذي نعتبره شرارة حقيقية لتحرير مرتقب ننظر إليه طال الزمن أو قصر، قدرا متحققا ووعدا ناجزا، ندير الصفحة عن صورة بشعة من صور الإرهاب الدموي للعدو الغاشم، والتهجير القسري والتجويع والتنكيل والتقتيل؛ حيث تنطق الإحصائيات بارتقاء أعداد كبيرة من الشهداء، وقصف للدور السكنية والمستشفيات، واغتصاب للبراءة وقتل همجي للعزل؛ إذ منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى الثاني منه من السنة الجارية، وبإطلالة سريعة على بعض الإحصائيات الرسمية المنسوبة لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، ارتفع عدد الشهداء في غزة إلى ما يقارب السبعين ألف شهيد، فيما بلغ عدد الجرحى حوالي مائة وسبعين ألفا، هذه ليست أرقاما باردة؛ هذا تعداد لأحلام قُطفت قبل أوانها، أو منعت جبرا من ممارسة حياتها.
وتحت رماد القصف، يتلمس العالم وجها فادحا للمأساة، فقد وثّقت الأمم المتحدة أربعمائة وخمس وخمسين حالة وفاة مرتبطة بسوء التغذية إلى حدود الفاتح من أكتوبر 2025 ما يزيد عن ربعهم من الأطفال؛ أطفال يتهددهم في أية لحظة شبح الموت، كان من المفروض أن يحملوا حقائب الدراسة لا آثار الهزال.
كما لم تسلم البنية المدنية من التدمير واسع النطاق، مما يجعل حوالي 92% من مساكن غزة، مدمرة أو متضررة؛ دون عد باقي المنشآت. هذا ليس خراب حجارةٍ فقط، بل تقويض لدفء البيوت وأسياج الأسر، ومعاقل التريبة والبناء.
لم تسلم المؤسسات التعليمية من الهدم والردم ببشاعة من يتعمد القضاء على الأجيال الصاعدة، واجتثاث هويتها واقتلاع جذورها الممتدة مثل شجر الزيتون، وأنى له ذلك، المدرسة التي كانت ملاذ الطفل ومعناه ومأواه، لم تعد قائمة كما كانت؛ حيث تحتاج 88.8% من مدارس غزة إلى إعادة بناء كاملة أو تأهيل. فأي مستقبل نرجوه لأمة يُحاصر طلابها؟ لولا الهمة العالية والبحث عن النور في رحم الظلام، وانخراط المجتمع في جهود التعليم ولو من خيمة مهترئة أو أطلال بيت مهدوم.
أما القطاع الصحي فبين فكي الحصار والنار، فوفقا لمنظمة الصحة العالمية في آخر تحديث قبل ثلاثة أيام، أربعة عشرة مشفى فقط من أصل 36 تشتغل جزئياً اليوم، فيما انهارت خدمات تأهيلية حيوية وباتت على حافة الإغلاق. غرف الولادة تضيق بالأمهات، ورضّع يتقاسمون الحاضنات لأن الأجهزة لا تكفي والجراح تنزف.
وتحذر اليونيسف، من مشهد لا ينبغي أن يُرى؛ أحذية صغيرة تدفع كراس متحركة وسط الركام، وأطفال بلا مأوى يواجهون الجوع والمرض والانقطاع الطويل عن التعليم. إنها خسارة مضاعفة للطفولة والمعنى.
لكننا نقف بالمقابل وبفخر كبير عند صورة لامعة للإيمان بالقضايا العادلة حينما تتمكن من القلوب الواثقة، كيف تُحول الألم إلى شعلة من الصمود، والبكاء إلى فرح بالله تعالى والموت في سبيل المقدسات، فيصير النصر هدفا يتحقق بعزم مهما قلت الإمكانيات.
كشف لنا الطوفان المبارك عن عزيمة كبيرة للشعوب حينما تنهض ضد الظلم، وتبذل الغالي والنفيس من أجل رفع لواء الحق خفاقا في الآفاق، وتشارك برا وبحرا في الإسناد لغزة الجريحة، وما أسطول الصمود العالمي عنا ببعيد، حيث رسم لنا بفخر صورة غنية بالملاحم للهمة العالية والعزم الأكيد، وإن تم اعتراضهم واختطافهم من المياه الدولية، وإن واجهوا المصاعب من العدو الظاهر أو المتخفي الذي رغب في التمويه والتضليل، فإن الأسطول قد نجح في مهمته المقدسة، وإن كان فضحه لعربدة العدو الغاشم وحده لكفى.
نهضة العالم الحر بأساطيله المدنية ومبادراته الإغاثية وأصوات ضميره الحر، كشفت وتكشف رواية التعمية وتكسر صمت المنصات، إن فضح المتاجرين بآلام الشعوب المغيرين للحقائق نصر أخلاقي في ذاته، يضع العالم أمام مرآته.
لا يفوت هذا الإسهام المتواضع في جهود النصرة، أن يحيي المرأة الفلسطينية التي لم تحبسها أمومتها عن البذل؛ من بيتها تؤسس لواجهة الأمة الاستراتيجية، توحد الصف وتدعمه، وتقدم الشهيد تلو الشهيد، وتضحي بالنفس وبالزوج وبالولد من أجل الطِّلبة الغالية فتحول الفقد إلى عزيمة. هناك، تعلم البشرية معنى أن يكون البيت قلعة، والرحم جسرا إلى الحرية.
ختاما، إن مسيرة الرباط المليونية وغيرها من أوجه الإسناد التي لم تتوقف في وطننا وفي العديد من البلاد عبر العالم، ليست مجرد حدث عابر؛ إنها إعلان إرادة شعبية بأن كرامة الإنسان غير قابلة للمقايضة، والتحرير مطلب مستعجل.
إلى الله العظيم الجبار نلجأ بالدعاء ونلظ بالطلب، أن يكون طوفان الأقصى بداية تحول فعلي يُنهي الاستبداد والفساد والظلم والطغيان، لتعانق البشرية فجر العدالة والكرامة والحرية، يومها فقط سنعلم أن الدرس وصل، وأن الدم الفلسطيني لم يذهب هباء.