مسيرة الرباط.. محاولة للتقييم الهادئ

Cover Image for مسيرة الرباط.. محاولة للتقييم الهادئ
نشر بتاريخ

الآن، وقد انتهت مسيرة الرباط ليوم 13 مارس (2016)، يمكن أن نفتح حوارا هادئا بعيدا عن التلاعب بالصور والأرقام التي يعلم الجميع حقيقتها، وبعيدا عن لغة التخوين واحتكار الوطنية في قضية يعتبر التخوين فيها لعبا بالنار، وبعيدا عن أجواء التشنج التي لا تنتج حلولا.

على مستوى العدد: أفادت “لاماب” بأن عدد المشاركين وصل 3 ملايين (؟؟؟!!!)، وهذا عدد مبالغ فيه جدا لأن النقل المباشر عبر التلفزيون وطريقة نقل الصور (زوم) يبينان أن العدد أقل من ذلك بكثير، وهذا يعلمه من له خبرة بالعدد وبالمسيرات وله وسائل تقليدية لاحتساب الأعداد. ومن خلال مجموعة من الحاضرين في عين المكان، فإن العدد تراوح بين 50 و80 ألف مشارك، مع العلم أن مسألة العدد ليست هي الرهان بقدر ما ينبغي التركيز على وحدة الجبهة الداخلية وحضور كل الحساسيات المجتمعية. وقد وجد البعض ضالته في أعداد بقيت في الطريق، وهي حجة أخرى تكشف ضعف الجهة المنظمة وخطأ تقديراتها، مع العلم أن مصادر تتحدث عن إغلاق متعمد لبعض المداخل ليحصل ذلك الانحباس. وفي الأخير، لا بد من الاعتراف بأن العدد كان قليلا مقارنة مع المتوقع ومقارنة بالإمكانيات اللوجستية التي وضعت رهن إشارة المنظمين.

على مستوى التنظيم: كان القاسم المشترك لكل من حضر المسيرة هو غياب التنظيم بحيث ظلت الحشود الحاضرة تائهة بدون توجيه، وظلت المسيرة بأكثر من مقدمة، وغابت القيادات الحزبية لأزيد من ساعتين على الموعد المحدد لانطلاق المسيرة، وهذه نتيجة طبيعية لمسيرة لا تُعرف الجهة الداعية لها وتم الإعداد لها بسرعة خيالية لم تساعد على إيصال الرسالة للمنتظم الدولي لأن الإعداد الجيد والتنظيم المحكم هو أفضل رسالة في هذه المواطن.

على مستوى الخطاب: استمرت لغة السب والقذف ضد بان كيمون، وفي ذلك استعداء مجاني وتشويه لسمعة المغرب والمغاربة، وخاصة حين تصدر عن قيادات حزبية يُفترض فيها الرصانة حتى في أحلك الفترات لأنها واجهة الدبلوماسية الموازية.. والغريب هو استعمال البعض لآيات وأحاديث تفيد عكس ما يراد بها، فمثلا استشهد أحدهم بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أمتي لن تجتمع على ضلالة.. فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم”. وقد تناسى المسكين أن السواد الأعظم من المغاربة لم يكن حاضرا بالمسيرة لأن التقدير الرسمي، المبالغ فيه جدا، تحدث عن 3 ملايين، فأين هذا الرقم من 34 مليونا؟؟؟!!! والمصيبة أن الخطاب السائد كان كله متشنجا وغير قادر على إقناع الرأي العام الدولي، ويعكس حالة الارتباك وموقف الضعف ورد الفعل الذي يوجد فيه هؤلاء المتحدثون، ولذلك فهو خطاب للاستهلاك الداخلي فقط، ولا يتجاوز مفعوله المغاربة، بينما الحاجة ملحة لخطاب معتدل وحكيم وعقلاني ومقنع للمنتظم الدولي، وهذه هي نقطة الضعف الكبيرة الذي يصمت عنها الكثيرون، ويكفي ما تسرب من أخبار عن خوف الكثير من الساسة المغاربة الظهور في برنامج “وجها لوجه” على قناة فرانس 24، حتى إن معدي البرنامج تحدثوا عن أكثر من مائة اتصال هاتفي بدون جدوى للحصول على واحد يقبل المشاركة للدفاع عن القضية في قناة ذات نسبة مشاهدة عالية وتأثير على رأي عام واسع، واكتفى الكثيرون من المتصل بهم بعبارة “هاد الموضوع ماشي ديال الأحزاب”.

على مستوى الشكل: هل كان الشكل الوحيد للتعبير هو المسيرة؟ وهل كان ضروريا أن تنظم في الرباط؟ وألم يكن الأجدى تنظيمها في الصحراء؟ وألم يكن الأولى أن يتحرك الصحراويون المنتخبون؟ هذه أسئلة إلى جانب أخرى كثيرة تُطرح كلها على منظمي المسيرة وعلى ترجيحهم لهذا الشكل. ومن جهة ثانية، فإن اختيار الشارع يجعل السلطة، مرة أخرى، أمام سياسة الكيل بمكيالين لأنها تبيح لنفسها ما تمنع منه غيرها.

على مستوى مقاربة تدبير الملف: وهنا مربط الفرس، حيث ينبغي فتح حوار وطني حقيقي حول هذه المقاربة والأدوات المستعملة التي أفضت إلى وضع المغرب في خانة دفاعية وتبريرية وتحت رحمة القوى العظمى التي تبتزه في كل مرة وتقايضه بمساندة نظير امتيازات و…

وهي مقاربة لم تستفد من الكثير من الفرص التي لم تتوفر، منذ عقود، لصالح المغرب، ومن ضمنها الاضطراب الذي يعم المنطقة ومصلحة كل القوى في تهدئة الوضع لأن المنطقة لا تحتمل بؤرة توتر قد تعصف باستقرار المنطقة، وخاصة بعد تنامي جماعات العنف جنوب الصحراء، والتهديد بتدخل دولي في ليبيا المتفككة والتي أصبحت في عداد “الدول الفاشلة”.

أخطأ بان كي مون بإطلاق وصف المحتل على المغرب، وكان له أكثر من مصطلح بديل، لأن كل أدبيات الأمم المتحدة تتحدث عن منطقة “متنازع عليها”، وأخطأ حين تحدث عن رقم محدد لسكان المخيمات بدون إحصاء رسمي ما فتئ المغرب يطالب به. ولكن كل ذلك لا يبرر معالجة خطإ بآخر أفظع منه.

هل بهذا الخطاب سنوقف دعوة بان كي مون إلى عقد مؤتمر للمانحين قبل يوليو المقبل؟ هل بهذا السب والقذف سنفرض على الأجندة الدولية إحصاء اللاجئين في المخيمات؟ هل بهذا التشنج سنقنع العالم بجدوى الحكم الذاتي؟ هل وهل…؟ هل تناست الدبلوماسية المغربية تقرير بان كي مون سنة 2014 الذي هدد فيه بمراجعة كاملة لإطار مسار المفاوضات الذي عرضه الأمين العام في أبريل 2007 إذا لم يتم تحقيق تقدم قبل أبريل 2015؟ (انظر القرار رقم S/RES/2152 الصادر في 29 أبريل).

حينما نتحدث عن الديمقراطية كمدخل، فإننا نؤكد بأنه كلما توسع الهامش الديمقراطي في بلادنا إلا تقوى الموقع التفاوضي للمغرب لأن المُخرج الطبيعي لهذه الديمقراطية هو احترام حقوق الإنسان، بما فيها حقوق من يساند الطرح الانفصالي، وكذا انتخابات نزيهة تفرز مؤسسات ذات تمثيلية حقيقية ومصداقية شعبية وشرعية للتفاوض والتحدث باسم الصحراويين.

وحين نتحدث عن العدالة الاجتماعية كمدخل، فإننا نعني القطع مع اقتصاد الريع والامتيازات التي خلقت تباينا بين فئات الصحراويين وأفرزت طبقة مضطهدة ومظلومة وحاقدة ومحرومة من تكافؤ الفرص، ونعني كذلك القطع مع التفاوت المجالي الذي تتضرر منه جهات الصحراء، ونعني بذلك ضرورة سياسة إدماجية لكل فئات المغاربة بمختلف مناطقهم على أساس المواطنة العابرة للانتماءات القبلية والجغرافية.

وحين نتحدث عن دبلوماسية احترافية كمدخل، فهذا يعني القطع مع التعيينات التي تتم على أسس الولاء عوض الكفاءة وعلى الترضيات الحزبية التي تعكس البؤس الدبلوماسي في أوضح تجلياته، بينما صار العالم يتعامل مع هذا المجال باحترافية، حيث يتلقى الدبلوماسيون تكوينات معمقة في مجال التواصل والتفاوض والإقناع و…

يطول الحديث في هذا الباب، ولكن مؤداه أننا نحتاج إلى مصارحة تفضي إلى تقييم موضوعي لأعطاب الدبلوماسية المغربية التي قادت إلى هذا الوضع، ومن تم استخلاص العبر والاتفاق على مقاربة مختلفة. وأي قفز على هذه المرحلة، أو استصغار لشأنها معناه تزكية للوضع القائم ورضى بنتائجها وعجز عن ابتكار حلول “من خارج الصندوق”.

نحتاج إلى مقاربة جديدة ووضوح رؤية وأشخاص جدد وأدوات جديدة وخطوات ميدانية معبرة للترافع حول هذا الملف في المنتظم الدولي، وقبل ذلك تحقيق إجماع شعبي إرادي وإيجابي، وقبلهما، على مدبري الملف أن يعرفوا طبيعة المنطقة وتقاليدها وتفاصيلها وكواليسها ونفسية ساكنيها والحيثيات اللازمة لأخذ القرار الصائب والحكيم بشأنها. وهذا هو لب المشكلة، وبدون الانتباه إليها سوف يستمر تراكم الإخفاقات إلى الحد الذي لا يمكن تصوره.

إن تحقق ذلك، لن نخضع لإرادة القوى الكبرى وابتزازها ولن نكون رهائن في يدها.