مسيرة الأربعين في تاريخ العدل والإحسان.. نظرات وثمرات -1-

Cover Image for مسيرة الأربعين في تاريخ العدل والإحسان.. نظرات وثمرات  -1-
نشر بتاريخ

هذه سلسلة مقالات تفكر في المسيرة العامة لجماعة العدل والإحسان خلال سنينها الأربعين الماضية، تقدم نظرات تتأمل في هذا الحضور الثابت والعطاء المتجدد وسط إعصارات الحصار المتنوع، وهي ترجو من ذلك أن تخرج بثمرات تفيد في تجلية جوانب متعددة من فكر وتصور وممارسة حركة إسلامية فاعلة في ساحة التدافع داخل المجتمع. لعل تلكم النظرات والثمرات تسهم في فتح جسور التواصل والحوار والتعارف والتعاون مع مختلف الفاعلين والصادقين بما يحقق التأسيس لجبهة وطنية لإنقاذ البلاد مما تعيشه في ظل الاستبداد والفساد.

الإمام عبد السلام ياسين: جهاد الكلمة والموقف

ما الذي لا يمكن أن يثير الإنسان في تتبعه للمسيرة العامة لحياة الأستاذ عبد السلام ياسين مرشد جماعة العدل والإحسان؟ ما الذي لا يستوعبه البعض في التحولات المفصلية التي عرضت للرجل في مسيرته النفسية والفكرية؟ وما الذي ينقمه البعض بصدد الموقف السياسي للرجل في علاقته بالنظام المغربي؟ وما الذي يخلق إشكالات كبرى لدى آخرين في قراءتهم لعلاقة الأستاذ عبد السلام ياسين بالجماعة وبأعضائها ولمكانته فيها؟

سيرة الكد والجهد

فتى من أسرة ذاقت مرارة الظلم المخزني منذ كانت؛ سَيَفِرُّ أبوه من البطش ليقدم من البادية إلى المدينة بحثا عن الأمان وعن سبل العيش، سيأتي حاملا معه ملامح العيشة البدوية الفقيرة من معاناة من قلة الحلية وضيق ذات اليد. لم تمنعه عوادي الزمان هاته من أن يقبل بشغف وهمة عالية على الاكتساب العلمي والمعرفي المتين لينهل من مناهل التعليم الأصيل والتعليم الحديث، وليدخل عوالم اللغات الأجنبية عنه بجهد شخصي، وليترقى في مضمار الممارسة المهنية معلما مدرسا، ومفتشا مؤطرا، ومديرا مسيرا، وموجها مرشدا، وخبيرا مدبرا في سنوات قليلة العدد من الأيام كثيرة المدد من الكفايات المعرفية والمهارات التواصلية والخبرة المهنية والإدارية.

 سيمكنه هذا التلقي المعرفي والترقي الوظيفي من تجميع عدة معرفية ومهارية ستكشف كتاباته الغزيرة عن الثراء القوي للمرجعيات المصدرية التي يمتح منها في توليفة متناغمة بين الأصيل التراثي من مظانه المعتبرة وبين الجديد الحديث من مراجعه الأصيلة وبلغته الأصلية من دون رؤية التقاطية مستنسخة مُوَفِّقة مُلَفِّقة، بل من منطلق سيؤهله ليكتسب لقب الإمام المجدد بما أثله من اجتهادات معتبرة في ميادين التفكير التربوي والسياسي بمرجعية إسلامية جامعة. كما ستوفر له هذه المسيرة العلمية الفكرية المهنية إطارا عاما لوعي المرحلة وفهم الظرفية، وإنجاز مقاربة تحليلية لوضعية مغرب ما قبل وما بعد الاستقلال.

ستقتضي القراءة المنصفة للتاريخ الحياتي وللسيرة النفسية والفكرية للأستاذ عبد السلام ياسين أن يتم الاعتراف ب”عبقرية” الرجل، وبإسهاماته العلمية والتربوية في تجديد الفكر الإسلامي، وبدوره الحاسم في بناء المغرب عبر احتضان الآلاف من مختلف فئات هذا الشعب وحمايتهم من مزالق التشرد الإيماني، ومفاتن البؤس الفكري، ومهاوي التطرف والمغالاة.

مسار التحول

لا يفقه الناس كيف يمكن لرجل قد أوتي من الآلة المعرفية والفكرية، ومن الدراية والخبرة الإدارية، ومن المسار المهني والوظيفي، ما يجعله في الذروة من المكانة والوجاهة الاجتماعية، ثم يدع ذلك كله ليبحث هو المعلم المربي الخبير النفسي المرشد الموجه عمن يأخذ بيده في الطريق؟ وأي طريق؟ كيف يمكن لمن كان هذا شأنه وشأوه ماديا ومعنويا أن يفر من هذا كله ليسأل عن معرفة الله؟ ألم يكن حافظا للقرآن تاليا له، ملتزما بأداء واجباته الدينية كأي مسلم عادي؟ ترى عم يبحث هذا؟ كيف يمكن فهم أن يعاني رجل في مثل وضعه من أزمة روحية تجعله ييأس من نفسه ومن الناس، ويطرح أسئلة وجودية لا تعبر سوى عن “فوبيا” القلق من الموت؟

لقد شكلت الأزمة الروحية مرحلة مفصلية في حياة الأستاذ عبد السلام ياسين بما شكلته من نقطة تحول كانت لها الشجاعة لتسائل الذات عن أسئلة الوجود والمصير والموت وما بعد الموت، وليقف الرجل بإرادة باذلة مضحية أمام مغريات الحياة وشهواتها ليعرض لسؤال الحاجة إلى الله ومع الله. سيجابه الأستاذ عبد السلام ياسين المرحلة بممارسة اليوجا، وبالقراءة النهمة لكتب الثقافة الروحية المشرقية ولمؤلفات التصوف، وبممارسة أنواع المجاهدات الموسومة عند أهل الطريقة بالموت بمختلف ألوانه، وبالصيام والذكر والقيام والسهر والعزلة، وسيشيع في الناس أن الرجل قد حمق وسفه عقله. ليشيع بعد ذلك أن الرجل لبس خرقة الدروشة ودخل حضرة الخرافة والبدعة لما التقى بشيخه المربي في الزاوية البودشيشية.

هكذا بجرة قلم، وبأحكام جاهزة، وبكثير من التجني سيلقي اللائمون أصدقاء وخصوما التهم جزافا من دون تورع ولا استحياء، وسيُلْغون بأهواء النقد وشهوة النقض مسيرة تاريخ طويل من الكد العلمي والعملي من حياة الرجل ليجعلوه مخرفا مبتدعا أحمق سفيها. يا حسرة على العباد! لا يريد الإنسان الممتلئ علما المستغني بما عنده من بضاعة الدين والدنيا أن يسمع عن شيء يسمى معرفة الله، وحب الله، والشوق إلى الله، وإرادة وجه الله. ولا يريد المثقف الدارس والفقيه الحرفي أن يسمو إلى ما وراء حجب السلوك البشري والفهم النصي، والانبهار الحداثي ليكتشف بمنهج الصدق والموضوعية والإنصاف أن هناك ما يسمى بالتجربة الشخصية، وأن نقد التصوف لا يعني عدم الاستفادة مما عند القوم، وأن النائحة الثكلى ليست كالنائحة المستأجرة، وأن فهم الأمور يحتاج إلى كثير من الصبر العلمي والتؤدة الشخصية، والقدرة على الجرأة على قول الحق للآخر ثانيا بعد قوله للنفس أولا.

من القعود إلى الجهاد

ما كان لنفس عاشت حياة الطموح والتوق إلى المعالي في مسيرة وكد التعليم والتعلم والخبرة والوظيفة، ولا لِذات عاشت تحولات نفسية كادت تودي بها إلى هلاك العقل والجسم لولا السابقة الربانية، أن تقف عند إسلام القعود في تكايا الزاوية. لذا كان الحرص الشديد حاضرا عند الأستاذ عبد السلام ياسين على الإخلاص للأبوة الروحية التي أعادت له توازنه النفسي، وفتحت له أبواب الترقي في مدارج الإيمان، وذلك عبر حمل لواء المنافحة عن الشريعة والسنة، والدعوة إلى الخروج إلى الناس ببركات الصحبة والدلالة على الله وتجديد الدين.

بعد مرحلة الاستغناء بالعلم والمال والجاه، وبعد مرحلة الأزمة الروحية والزاوية، سيكون للتحرق القلبي والعقلي للإمام على وضعية البلاد، وللطغيان العام الشديد لحاكم المغرب، ولاستقالة العلماء والفاعلين من واجبهم الديني والنضالي، وللخوف والرعب اللذين عرفتهما فترة ما بعد الانقلابات الشهيرة، سيكون لهذه العوامل مجتمعة أثرها في كتابة الرسالة النصيحة الشهيرة “الإسلام أو الطوفان”. ولربما سيكون للظرف العام آنذاك وللخوف العام المسيطر دوره في عدم قدرة الكثيرين على فهم سلوك الأستاذ عبد السلام ياسين وموقفه “المتهور” بأن يرفع رجل فرد معزول إلا من صاحبين له صوته لينتقد “الحسن الثاني”.

ما يهمنا هنا، هو أن الرسالة ستكون الجواب التاريخي الفاحم لمن يتهم الأستاذ عبد السلام ياسين بغياب تاريخ أو ماض نضالي، إلا إن كان الوقوف في وجه الظلم الفاتك للنظام في تلكم الفترة العصيبة لا تعد نضالا في قاموس الخوف والجبن. وستكون تلكم الرسالة وستبقى إلى جانب صنوتها وأختها “مذكرة إلى من يهه الأمر” الأثر التاريخي الناصع لجهاد الرجل ورجولته وموقفه السياسي، والشاهد الأمين على جبن البعض وخوف البعض وتخاذل البعض وانحياز البعض واصطفاف البعض إلى جانب الظلم والجبر والقهر. ويأتي المناضل والداعية ليحدثاك عن الإجماع، والتدرج، والواقعية!

المرشد والجماعة

يمكن أن نعتبر تأسيس جماعة العدل والإحسان، بعد مرحلة الخروج من الزاوية، ومرحلة النصح للحاكم، ومحاولات توحيد العمل الإسلامي، الجواب العملي للرغبة العارمة في تحويل آمال التنظير المجنح لواقع التجربة العملية عبر تقديم نموذج من التفكير الباحث عن التجسير بين الحق الذي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبين الواقع المرير بمرارة الجبر المنيخ بكلكله على مختلف جوانب الحياة، عبر وضع النظرية موضع التجربة واقتحام غمار بناء تكتل بشري منظم في سياق سياسي واجتماعي مختنق على كافة الأصعدة وبأيد مغربية ومرجعية إسلامية ترفض العنف والسرية والاستقواء بالأجنبي.

سيرى البعض في تجربة الجماعة استنساخا لتجربة الزاوية بمنظور تحديثي لرجل لم يحصل الإذن بالدلالة على الله. وسيرى فيها آخرون طموحا سياسيا لرجل أخفق مرة في نيل مكانة وسط الزاوية وأخفق أخرى في نيل مكاسب من تهوره السياسي، فأسس جماعة هي خلطة من مزيج التصوف والفكر الإخواني، والنزعة الجهادية. وسيرى غير هؤلاء في الجماعة منافسا سياسيا محنكا متكئا على تاريخ نظيف وعلى قوة ومكانة اعتبارية مهمة. وسترمى الجماعة بكثير من الأوصاف والنعوت: الخرافية، والمنامية، والخوارج، والانتظارية، والطهرانية، واللاواقعية، وثلاجة الأعضاء… بينما الحقيقة الساطعة بعيدة عن كل هذا الرجم بالغيب.

إن ما على الباحث المنصف استيعابه هو أن الأستاذ عبد السلام ياسين قد عاش تجربة التصوف واعترف بما لها من فضل على حياته، وبما لأهل الله من خير للأمة، لكنه قال إنه لا يحب الاسم ولا الشكل اللذين تتقدم بهما التجربة الصوفية عبر التاريخ، ومارس نقدا علميا ومعرفيا أثمر بحثا مهما من جزءين في كتابه “الإحسان”. ولم يكن الأستاذ عبد السلام ياسين يؤسس جماعة سياسية بالمعنى السائد للحزبية السياسية، ولم يكن يبني إطارا ثقافيا فكريا، إنما استطاع الاستفادة من التجربة الدعوية النبوية ليكتشف المنهاج النبوي للتغيير الفردي والجماعي، ومن الحكمة الإنسانية للتأسيس لتنظيم عصري متكامل الأركان بتصور ورؤية وبرامج وخطط ونظرة استراتيجية. وعليه فليست العلاقة بين الأستاذ عبد السلام ياسين وبين أعضاء الجماعة علاقة “الشيخ” ب”المريدين”، ولا علاقة الزعيم بالأتباع، ولا علاقة المُنَظِّر بالتلاميذ، إنما كانت علاقة مبنية على ما سماه بدستور المحبة القائم على التوقير والإجلال والتقدير والاحترام التي أوجبها الدين للعلماء ورثة الأنبياء.

قد لا يعي البعض معنى أن تحب إنسانا وتقدره لأنه كان السبب في دلالتك على الله، وزرع محبته ومحبة رسوله في وجدانك. ولا معنى أن تجد الإنسان الذي استطاع بما خطه من خطط تربوية أن يحقق لك التوازن بين قلبك وعقلك وإرادتك فتتحقق السكينة لديك وتنتشل من نوازع الخفة، والعنف والتطرف، والتطاول على خلق الله. ولا معنى أن تكون هناك جماعة من الناس لم يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل ولم يركنوا إلى الذين ظلموا، ويحاولون أن يكونوا ملاذا أخلاقيا وسياسيا للإنسان في زمن التفاهة والبلاهة وبيع الذمم.

من الثمرات التي يمكن جنيها من النظرات أعلاه

– يحتاج المرء إلى عمر ليكتسب حكمة تريه فضل الله عليه وعلى الناس، ويحتاج إلى كثير من الإنصاف والتجرد ليعطي الناس حقهم من الاعتبار من دون خلفيات أو أحكام مسبقة، ويقتضي التواضع وتطلب الموضوعية أن ننصت بإجلال لما يقوله الآخرون وللخروج من دوائر الاستغناء والاستعلاء.

– من العبر الجليلة في مسيرة الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين أنه من بعد سابقة الوهب الإلهي لا بد من بذل جهد الكسب الذاتي- توفيقا من الله- لتحصل العلم وتلقي المعرفة والترقي في مدارج الدين والدنيا رغم اشتداد الأزمات وتوالي النكبات، وأن سير هؤلاء العلماء يجب أن تكون مثالا للاقتداء والتأسي لا للتبرك والتمني. وهو ما يعني أن الرجولة لا تصنعها الخطب العصماء ولا الآمال الجرداء إنما يصنعها العمل والاستقامة.

– إنه لا بد من ثمن للكلمة الصادحة وللموقف الصادق، وإن الثبات على المحجة اللاحبة والسير القاصد للهدف على بينة كفيلان بتمحيص الصادق من الكذوب، وتعيين المتحزب لله من المتحزب للدنيا، وأن الصوت الصادق يصل على الناس فتهوي إليه قلوبهم، “ذلك الفضل من الله”. مما يفيد أن الابتلاء سبيل الدعوة إلى الله.

وحاصل الأمر إن حياة الإمام عبد السلام ياسين حافلة بالعبر والدروس، وإن تجربة العدل والإحسان جديرة بالدراسة والمتابعة، وإن مشروعها جدير بالتهمم به والانتماء إليه. وإن واقع المغرب ليفرض على العقلاء الإنصات الجيد لمختلف الدعوات التي تريد لم الشمل وجمع الشتات للاستفادة من كل طاقة في البلاد، ومن كل فكرة لدى العباد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل ولات حين مناص.