جماعة العدل والإحسان تعرض “منطلقات مؤسسة” لإصلاح مدونة الأسرة (وثيقة)

Cover Image for جماعة العدل والإحسان تعرض “منطلقات مؤسسة” لإصلاح مدونة الأسرة (وثيقة)
نشر بتاريخ

مشاركة منها في النقاش الوطني الدائر منذ مدة حول مدونة الأسرة، أصدرت اللجنة المشتركة للنظر في المدونة التابعة لجماعة العدل والإحسان ورقة في الموضوع، وسمتها بـ“مدونة الأسرة.. منطلقات مؤسِّسة”. معتبرة اجتهادها هذا “مساهمة جادة إلى جانب باقي المساهمات للدفع نحو إصلاح حقيقي شامل، يكون منطلقه إصلاح أحوال الأسرة، وتكون غايته إصلاح الدولة والمجتمع، من خلال رؤية جامعة ومقاربة شاملة تربط أحوال الأسرة المغربية، وبرامج إصلاحها بمختلف الاختلالات التي تشكل عقبات الإصلاح سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو التربوي أو التشريعي”.

ضمت الورقة التي جاءت في 21 صفحة، بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة، 3 محاور أساسية عالجت من خلالها مرتكزات قضية الإصلاح المأمول؛ حملت العناوين التالية:

أولا: تعديل مدونة الأسرة في المغرب: السياق والدواعي

ثانيا: منطلقات أساسية لتعديل مدونة الأسرة

ثالثا: شروط نجاح تعديل مدونة الأسرة

فيما يلي النص الكامل للورقة:


جماعة العدل والإحسان

اللجنة المشتركة للنظر في مدونة الأسرة

مدونة الأسرة

منطلقات مؤسِّسة

تمهيد

أولا: تعديل مدونة الأسرة في المغرب: السياق والدواعي.

1- السياقات الدولية

2- السياقات المحلية

ثانيا: منطلقات أساسية لتعديل مدونة الأسرة.

المنطلق الأول: المرجعية الإسلامية.

المنطلق الثاني: تحديد مفهوم الحداثة ورهاناتها.

المنطلق الثالث: التكامل عوض المساواة

ثالثا: شروط نجاح تعديل مدونة الأسرة

الشرط الأول: نظام سياسي ديموقراطي قائم على العدالة الاجتماعية

الشرط الثاني: نظام تربوي تعليمي أخلاقي

الشرط الثالث: اجتهاد مقاصدي منفتح ومؤسساتي جماعي

الشرط الرابع: قضاء أسري مختص مستقل ونزيه

الشرط الخامس: إعلام في خدمة الأسرة

خاتمة


بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

تعتبر الأسرة المكونة من زوج وزوجة وأبناء أول صيغة اجتماعية تأسست عليها الحياة البشرية عبر الأزمان، وأقدم مؤسسة اجتماعية على الإطلاق أَمَّنَتْ البقاء الإنساني لآلاف السنين حتى وقتنا الحاضر. وقد قامت الأسرة في المجتمعات البسيطة بالأساسي من الأدوار التربوية والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية…، فكان المجتمع صورة مُكَبَّرَةً من نسيجها وبنيتها.

لكن مع توسع المجتمعات وظهور الدولة وسن القوانين وبروز المؤسسات الوظيفية، أضحت الأسرة مجرد حلقة في بنية معقدة تتداخل فيها كل السياسات، وتراهن عليها كل المشاريع، ليس لأهميتها الاجتماعية، وإنما لأهميتها الاقتصادية باعتبارها وَحَدة استهلاكية، ولأهميتها السياسية باعتبارها حقل سلطة تراهن عليه الدولة لإعادة إنتاج علاقة الفرد بالسلطة.

 في ظل هذه العلاقات المتشابكة والمعقدة، أصبحت الأسرة محط صراع قيمي بين كل المذاهب والفلسفات والمشاريع المجتمعية، ما يدعو أي فاعل يروم إصلاح الأسرة أو إصلاح قوانين الأسرة إلى ضرورة استحضار كل هذه التقاطعات والحقول المؤثرة. فالأسرة ليست بِنْيَةً مبتورة يمكن معالجتها وتجاوز الاختلالات التي أصابتها بمعزل عن البناء الكلي للدولة والمجتمع، بل هي جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة العامة، حيث يتكامل أو يتضارب ما هو اجتماعي بما هو سياسي واقتصادي، فالأسرة بهذا المعنى ليست قَارَباً أصيب في عرض البحر يمكن جره إلى مرفَإٍ لترميمه وإصلاحه ثم إعادته للإبحار، بل هي جزء أساسي من منظومة مِلاَحَةٍ تتأثر بكل الظواهر المحيطة بها.

والأسرة باعتبارها نواة المجتمع ومحضن التربية والقيم، وضمان استمرار النوع البشري، تجعل المجتمعات والدول اليوم أمام أمانة اجتماعية تستوجب حفظها بكل مكوناتها، وأمام مسؤولية تاريخية تستدعي ضمان حق الأجيال القادمة أولا في كينونتها، ثم ثانيا في مُستَقَرٍّ متوازن وآمن يحتضنها، مما يترتب على هذه المسؤولية ضرورة التعامل بالحكمة المطلوبة مع مقترحات البناء والتغيير والتطوير في القوانين والأحكام التي تنظم وتؤطر قضايا الأسرة، بما يحفظ نسيجها الطبيعي، ويحفظ وظائفها التاريخية والإنسانية.

وتُعدُّ مدونة الأسرة في القانون المغربي من أهم الأوراش التي ما فتئت تتعالى فيها نداءات ومطالب الإصلاح على مر عقود. نداءات تعددت سياقاتها وأسبابها، وتباينت أهدافها وغاياتها، آخرها ما تعرفه الساحة المغربية اليوم من نقاشات ومطالب لتعديل عدد من القوانين المتضمنة في مدونة الأسرة. نقاش تؤطره حتما خلفيات متعددة ومرجعيات متباينة، لكن يبقى الغرض هو الإسهام-رغم التباين في المرجعيات الفكرية بين الأغيار المتدافعين من داخل هذا الورش الإصلاحي – في بناء مقاربة متكاملة غايتها حفظ قيم الفطرة، وحفظ حقوق الإنسان، ثم حفظ وظيفة الأسرة التاريخية التي مكنت الإنسانية من بقاء الجنس البشري على طبيعته.

من هنا تأتي هذه الوثيقة لتكون مساهمة جادة إلى جانب باقي المساهمات للدفع نحو إصلاح حقيقي شامل، يكون منطلقه إصلاح أحوال الأسرة، وتكون غايته إصلاح الدولة والمجتمع، من خلال رؤية جامعة ومقاربة شاملة تربط أحوال الأسرة المغربية، وبرامج إصلاحها بمختلف الاختلالات التي تشكل عقبات الإصلاح سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو التربوي أو التشريعي. مع الإشارة إلى أننا سنعتمد في هذه الورقة مسلك الإيجاز والاختصار والاكتفاء بإبراز أهم آرائنا ومواقفنا من الموضوع، مع تجنب الخوض في التفاصيل والأمثلة. وبالتالي ستركز الورقة على معالجة قضايا إصلاح المدونة من خلال ثلاثة عناوين أساسية:

أولا: تعديل مدونة الأسرة في المغرب: السياق والدواعي

ثانيا: منطلقات أساسية لتعديل مدونة الأسرة

ثالثا: شروط نجاح تعديل مدونة الأسرة

أولا: تعديل مدونة الأسرة في المغرب: السياق والدواعي

مرت مدونة الأسرة المغربية بسيرورة تاريخية كانت بداياتها سنة 1957 مع وضع أول “مدونة” للأحوال الشخصية بالمغرب، حيث سعت لملء الفراغ التشريعي والقانوني في المجال الأسري، وظل العمل بها ساريا إلى مطلع التسعينات. وقد تخلل هذه المدة مطالبات بإحداث بعض التعديلات، كان أبرزها مقترح رؤساء المحاكم سنة 1961، ومبادرة وزير العدل آنذاك سنة 1965، تلتها مبادرات في سنة 1970، 1974… لكنها ظلت في عمومها أقرب إلى التعديلات المسطرية دون النفاذ إلى العمق والجوهر.

في هذه المرحلة كانت الحركة النسائية بالمغرب تعمل على إعادة تنظيم صفوفها ومطالبها، خاصة مع السياق السياسي والاجتماعي الذي كان يعيشه المغرب ومع الدعم الدولي الذي كان ضاغطا. وقد توجت هذه الدينامية في الثامن من مارس 1991 بإطلاق اتحاد العمل النسائي حملة وطنية لتعديل المدونة من خلال المليون توقيع. وفي العشرين من غشت سنة 1992 تشكلت لجنة ملكية ترأسها عبد الهادي بوطالب، لتعلن عن التعديلات الجديدة بتاريخ 10 شتنبر 1993.

في سنة 1999 سيطفو على الواجهة نقاش مجتمعي، وفي الصلب منه نقاش تعديل المدونة، وكان ذلك إثر صدور مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية والتي فجرت تقاطبا حادا داخل المجتمع بلغ أوجه في مارس 2000 بمسيرتي البيضاء والرباط، ليتم في 27 أبريل 2001 تشكيل لجنة ملكية مكلفة بتعديل المدونة ترأسها إدريس الضحاك وبعده امحمد بوستة، وتم الإعلان عن مخرجاتها بتاريخ 10 أكتوبر 2003 في الخطاب الملكي الافتتاحي للدورة البرلمانية الخريفية. تعديلات اعتبرتها الأحزاب السياسية والحركة النسائية ثورة هادئة وخطوة مهمة نحو تكريس مبدإ المساواة ومناهضة أشكال التمييز ضد المرأة. إلا أنه سرعان ما بدأ البعض يشكك في قدرة هذه التعديلات على تقديم إجابات لعدد من الإشكالات التي أبان عنها التطبيق والتنزيل، وعاد من جديد مطلب التعديل إلى الواجهة خاصة بعد دستور 2011، إلى حدود خطاب العرش لسنة 2022 الذي نادى بضرورة تعديل المدونة، استنادا إلى ما أبانت عنه التجربة من عوائق ونقائص تحول دون تمكين النساء من كافة حقوقهن القانونية والشرعية، ليتم بعدها إسناد الإشراف العملي على إعداد ملف التعديلات لكل من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، مع إشراك الهيئات المعنية بهذا الموضوع بصفة مباشرة، وفي مقدمتها المجلس العلمي الأعلى، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، مع الانفتاح أيضا على هيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين، وذلك بحسب ما جاء في بلاغ للديوان الملكي.

إن هذا الجرد الكرونولوجي ينبغي ألا يصرفنا عن السياقات المتحكمة التي تدفع في كل مرة مكونات المجتمع المدني أو بعضا منها إلى الحديث عن ضرورة تعديل مدونة الأسرة وجعله موضوعا يتصدر واجهة النقاش العمومي. ويمكننا أن نجمل ذلك في سياقات دولية وأخرى محلية كالآتي:

1. السياقات الدولية

تتمثل أساسا في الديناميات الدولية الضاغطة عقب اجتماعات الأمم المتحدة سنة 2020

في إطار ما بات يعرف ببكين + 25، والذي كان من بين توصياته إطلاق دورة جديدة في الدفاع عن قضايا المساواة تحت شعار” جيل المساواة”.

وقد كان المغرب ملزما في إطار هذه التوصيات بتقديم تقرير دوري لـ”لجنة وضع المرأة” وهي لجنة معنية بقضايا التمييز ضد المرأة أحدثت في إطار اتفاقية”سيداو” لمتابعة عملية الأجرأة في الدول والبلدان المعنية. وقد عقدت هذه اللجنة لقاءها مع المغرب في يوليوز 2022، وقدمت تقريرها الدوري الذي أكدت من خلاله على الموقف الأممي الداعي إلى ضرورة سحب المغرب لتحفظاته حول عدد من القضايا، مع مطالبته بإجراء عملية استعراض تشريعي شامل، بما يحقق ترسانة قانونية خالية من كل أشكال التمييز ضد النساء وقائمة على تكريس مبدإ المساواة، مع تعيين مطالب بعينها مرتبطة بزواج القاصر وتعدد الزوجات وقسمة الأموال المكتسبة أثناء الزواج وأحكام الطلاق والحضانة والإرث…

كما تأتي مطالب إصلاح مدونة الأسرة على المستوى الدولي في سياق التقرير الذي أصدره الكونجرس الأمريكي في دجنبر 2021، والمرتبط بقضايا المرأة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والذي رصد حسب تعبيره ثلاثة اختلالات بارزة على المغرب معالجتها، والمتمثلة في وجود قوانين تمييزية بين الجنسين، وارتفاع نسب العنف الزوجي، والزواج المبكر.

2. السياقات المحلية

ورش إصلاح مدونة الأسرة يحكمه منذ انطلاقه الحديث عن عدد من التحولات يعتبرها الكثير من المنخرطين في نقاشه أسبابا وجيهة لمطالب الإصلاح، يمكن تحديدها في الدواعي الآتية:

– دواعٍ سياسية: يندرج تحتها بالأساس مطلب الملاءمة الداعي إلى ملاءمة القوانين والتشريعات المغربية مع مقتضيات الاتفاقيات الدولية التي وقع عليها المغرب، كجزء من التزامه الأممي، بالإضافة إلى دعوة ملاءمة القوانين مع الوثيقة الدستورية 2011 وما جاء فيها من تنصيص على مبدإ المساواة والسعي لتحقيق المناصفة.

– دواعٍ اجتماعية: مرتبطة أساسا بالتحولات الاجتماعية والقيمية التي يعرفها المجتمع المغربي، والتي تمس المكانة الاعتبارية للمرأة داخل بنية الأسرة.

– دواع قانونية: مرتبطة بما رشح من إشكالات واختلالات برزت خلال تنزيل المدونة وتفاعلها مع الواقع بكل تعقيداته، منها ما يرتبط بالمساطر والإجراءات، ومنها ما يرتبط بالموارد البشرية، ومنها ما يرتبط باللوجستيك ومنها ما يرتبط بالاجتهاد القضائي.

بناء على ما سبق، يتبين أن المطالبة بإصلاح مدونة الأسرة في القانون المغربي تحكمه سياقات دولية ومحلية، اقتصادية وسياسية، أخلاقية وثقافية، يصعب تجاهلها لفهم مقترحات الإصلاح التي تؤطرها خلفيات متباينة.

صحيح أننا أمام تغيرات كبيرة في الواقع المعيش، وصحيح أيضا أننا أمام الحاجة إلى تشريعات تتلاءم مع كل التحولات الطارئة، غير أن هذا السعي للمواءمة بين متطلبات الواقع ومقاصد التشريع لابد أن يستحضر في الوقت نفسه رحى صراع القيم الدائرة، ومطلب حفظ الهوية الدينية والاجتماعية في مجتمع مغربي أغلبيته المطلقة من المسلمين.

ثانيا: منطلقات أساسية لتعديل مدونة الأسرة

في أي نقاش عمومي، أيا كان مجاله، تنتصب عدة عقبات تحول دون مد جسور التقارب والفهم والتفاهم بين فرقاء الحوار، وعلى رأسها طبيعة المرجعية التي تمثل خلفية ثابتة توجه الأفكار والمواقف والقرارات، ثم عقبة اللغة والمفاهيم التي تعد بمثابة آليات للبيان والتبيين والإقناع، وهو ما يتطلب وعيا بهما من أربع جهات: الأولى بذل مجهود لفهم دوافع الآخر المختلف والخلفيات المتحكمة في نسقه الفكري، والثانية عدم الانزلاق في دروب الألفاظ والتوحل في مستنقع الخلط بين معرفة الوحي ومعرفة البشر، والثالثة التمسك بالمرجعية الإسلامية ولغة القرآن باعتبارهما منطلقا من شأنه أن يكسبنا وضوح الرؤية وثبات الخطى وسلامة التقدير، ثم الرابعة الإيمان بأن هذا الاختلاف هو آية من آيات الله في هذا الكون، وأن انفتاحنا على الواقع باختلاف توجهاته إنما هو انفتاح له مغزى وله دلالة وله وجهة، بحيث إننا أمة رسالة لا نرى العالم حركة سائبة، إنما نراه ونرى أنفسنا بين يدي الله عز وجل، وأن سطوة الفكر المادي وأصحابه في هذا الزمان هو من قبيل الغراب الذي سخره الله ليعلمنا كيف نواري سوءاتنا في التدبير والسياسة والاقتصاد وحقوق الإنسان…، لعلنا نَخْلُصُ ونحن نتدافع معه فكريا من جهة إلى سد نواقصه الروحية، ونتدارك من جهة أخرى نواقصنا المادية التي أجهز عليها الاستبداد لقرون.

انطلاقا من هذه المقاربة سنسعى لمعالجة قضايا جوهرية، شكلت ولا تزال نِقاط التباين في النقاش العمومي الدائر اليوم حول مدونة الأسرة في المغرب، وهو نقاش يتطلب وضوحا وجرأة مسؤولة وتبرما من الانغلاق والتعصب والإقصاء.

المنطلق الأول: المرجعية الإسلامية

إن الحديث عن المرجعية الإسلامية ليس مجرد منطلق للتقارب والتفاهم مع الأغيار، بل هو القاسم المشترك، والمنطلق المؤسِّس، والمسلَّمة التي لا نتصور نجاح أي نقاش عمومي حول تعديل المدونة خارج دائرتها، فالمرجعية الإسلامية تعد الثابت الذي تدور حوله كل المتغيرات، والمعيار الذي تحتكم إلى مقاصده كل الآراء على اختلافها.

وينص الدستور المغربي بشكل واضح وصريح على سمو الشريعة على غيرها من المصادر بما في ذلك الاتفاقيات الدولية، وذلك في عدد من المواضع، منها أن “الإسلام دين الدولة” و”أن الهوية المغربية تتميز بتبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها” مؤكدا على “جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية”.

فالشريعة الإسلامية تعني توظيف منظومة التشريع التي أحال عليها الشارع الحكيم، في ترقية فهم النصوص، وتحقيق المقاصد المعتبرة، وفتح آفاق التدين المستبصر الواعي، والتبشير بهدايات الرسالة الربانية الخاتمة في بناء الإنسان وعمارة الأرض. كما أن التزام المرجعية الإسلامية يعني السعي لإقامة حكم عادل يستهدي بقيم الوحي وأخلاق الإسلام، ويلتزم بقطعيات الشريعة التي لا تقبل التأويل، ويسعى لتحقيق المقاصد والمصالح المعتبرة في ديننا. وفي هذا السياق وجب التأكيد على خصوصية مجال الأحوال الشخصية وطبيعة أحكامه المؤطرة ابتداء والخاضعة أساسا للنص الديني، والذي له خصوصيات على مستوى  الفهم والتفسير والتأويل والاجتهاد. وبالتالي فمكانة  النص  الديني وأهميته على مستوى التشريع تطرح أسئلة مشروعة بخصوص الجهة المخول لها إصدار الفتاوى أو الاجتهاد في القضايا الخلافية وتحديد مواقف رسمية للدولة بشأنها، بعيدا عن الآراء الشخصية والأهواء الفردية، بالإضافة إلى مدى توفر الشروط الضرورية في الجهات التي يوكل إليها أمر الاجتهاد والحسم في قضايا مصيرية، بما تتطلبه هذه الشروط من علوم شرعية بمختلف تخصصاتها، وعلوم كونية، ودراية بفقه الواقع، وتمكن من أدوات الاجتهاد، بالإضافة إلى التحلي بالموضوعية والقدرة على الترجيح بين المصالح والمفاسد ومدى تأثيرها في البلاد والعباد.

إن التشبث بالمرجعية الإسلامية سبيل لأن تكون لنا رؤية واختيارات تستهدف إعادة قراءة النصوص وتمحيص التجارب بما يتماشى مع فقه المرحلة، وبما يحفظ الأصول والقواعد الكلية التي تؤسس للحياة الكريمة، وتضمن سلامة الترجيح والتطبيق، وتؤكد على الصورة السمحة لرسالة الإسلام. فالمرجعية الإسلامية في أبعادها وآفاقها ليست محصورة في قانون عقوبات “التشريع الجنائي”، بل هي مشروع نهوض وبناء وحقوق وتكريم للإنسان والشعب والأمة، للمرأة والرجل على حد سواء، بلا تفريق في أصول الحقوق والواجبات، إلا بما خص الله تعالى به كل واحد من أحكام ومسائل تتناسب وطبيعة التكليف وأغراضه ومقاصده. هي مرجعية لها محددات تميزها عن أي مرجعية غيرها بما يلي:

– المرجعية الإسلامية تُعنى بتفعيل مبدإ الشورى، ووضع آليات وضمانات الترجيح والتنفيذ والإلزام، وإعطاء حقوق تداول المعلومات والشفافية والرقابة بين مؤسسات وإدارات الحكم المنتخبة وجهات ولجان الرقابة والمتابعة والتقييم والتقويم. هي ليست قوالب جاهزة للتطبيق بقدر ما هي أسس ومبادئ تحتاج إلى اجتهادات دائمة ومطردة.

– المرجعية الإسلامية رؤية تستهدي بتجارب البشرية الراشدة في ضبط اختيارات وصلاحيات السلطة السياسية والسلطة التشريعية، وإدارة الموارد المالية، وتوظيف الطاقات البشرية في ترسيخ ثقافة وهوية المجتمع وحماية منظومته الأخلاقية.

– المرجعية الإسلامية ترسم آفاق مشروع النهوض للعدالة الاجتماعية، بمطالب حقوق الإنسان وكرامته، وبمخطط التنمية ومعالجة تراكمات الباطل الذي أذل البشر وأزكم الأنوف بفساده، وأنهك القدرات وعطل المصالح وخيب الآمال.

– المرجعية الإسلامية تنحاز إلى مبدإ استقلالية القضاء العادل النزيه، والتأسيس لهيبة دولة المؤسسات والحقوق والمواطنة.

– المرجعية الإسلامية تروم ترجمة قيم الشورى والديموقراطية والحق والعدل والرحمة والإحسان إلى مفاهيم ومناهج وسلوكيات تربوية، ونظم وتشريعات قانونية، يكون لها ثقل التوجيه والضبط والإعانة على متطلبات السلوك الفردي والاجتماعي.

– المرجعية الإسلامية هي دعوة إلى الإسلام الشامل كما أبانت عنه التجربة النبوية والخلافة الراشدة، وليس كما قدمه ويقدمه تاريخ المسلمين الذي عرف انحرافات في نظام الحكم، الأمر الذي كان له الأثر البليغ في انحباس الفقه وحصر باب الاجتهاد.

– المرجعية الإسلامية لا تمانع من الانفتاح على التجارب البشرية شريطة ألا تتعارض أو تتصادم مع أصول ديننا وقطعياته.

المنطلق الثاني: تحديد مفهوم الحداثة ورهاناتها

يتردد مطلب “المدونة الحداثية” على لسان الكثير من الجهات المهتمة والمنخرطة في نقاش إصلاح مدونة المدونة، الأمر الذي يستدعي الوقوف عند هذا المصطلح وتحديد مفهومه وخلفياته في علاقته بالموضوع.

مصطلح الحداثة من المصطلحات التي دار حولها خلاف كبير في تحديد تعريفها ومدلولها؛ لذا تعدَّدت تعريفاتها وكثرت بحيث لا يكاد يتَّفق اثنان على تعريفٍ واحد لها، وإنما أخذَ كلُّ متصدٍّ لتعريفها ومُدَّعٍ لتبني مشروعها ما يلائم فنَّه أو علمه أو موقفه الشخصي وآراءه الذاتية، وهذا واضح في أنَّ كلَّ فنٍّ من الفنون وعلمٍ من العلوم الإنسانية (اللغة – الأدب – الأديان – الاجتماع – علم النفس – المنطق – الفلسفة – الإعلام …) التي هي مجال فلسفة الحداثة – أصبح ينادي بالحداثة ويدعو إليها ويحثُّ عليها ويضع لها التعريفات والمفاهيم المناسبة. والذي يعنينا هنا اتجاه بذاته من اتجاهات الحداثة، وهو ذاك الذي نَصَّبَ نفسَه حاكمًا على التراث واتَّخذ منه عدوًّا؛ فأصبح يكيل له الاتهامات ويعمل على هدمه ونقضه. فأصحاب هذا المذهب يرون في الحداثة مشروعا يسعى لصياغة نموذج للفِكر والحياة، يتجاوز الموروث، ويتحرَّر من قيوده؛ لِيُحَقِّق تقدُّم الإنسان ورُقِيَّه بعقله ومناهِجِه العَصْرية الغربية؛ لتطويع الكون لإرادته، واستخراج مُقدَّراته لخدمته، مع رفض كل قديم واعتماد العقلانية معيارا لكل معرفة.

وهنا ينبغي الإشارة إلى أن القديم والحديث لا يكتسب قيمته من مُجرَّد الاصطلاح عليه بالقِدم أو الحداثة، وإنما لا بد من وجود معايير وضوابط تضبط قيمة هذا القديم أو قيمة هذا الحديث بصرف النظر عن عنصر الزمن، فربما سبق القديمُ الحديثَ في القِيمة والفكر وبُعد النظر. وهذه المعايير تحتاج إلى قدرٍ كبير من الموضوعية والحيادية تجعل صاحبها على مسافة واحدة من القضايا المطروحة، بحيث يتخلَّص من الأحكام المسبقة أو الاقتناعات الخاصة، ويترك البحث الموضوعي ليتحرك به إلى النتيجة، فلا يضع النتيجة قبل البحث، ولا يصوغ النهايات قبل البدايات.

إن تجربة الغرب مع الدين إبان العصور الوسطى مخالفة تماما لتجربة الدين في واقع المجتمعات المسلمة، ما يستوجب تجنب إسقاط الأحكام، ومحاولة استنساخ نفس التجربة التاريخية، وجعل التصادم مع الدين وتجاوزه شرطا لتحقيق الحداثة. وبهذا فهي تسعى إلى إحداث بنى وأنظمة فكرية ومجتمعية واقتصادية وسياسية جديدة والإطاحة بالبنى والأنظمة القديمة القائمة، كما تسعى إلى الفصل بين قطاعات الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، على أساس أن يقوم كل قطاع على تنظيم ذاته داخليا وفقا لآليات عمل العقل الأداتي، وليس وفقا لأي غائية أخلاقية أو دينية تقع خارج هذا القطاع.

وإذا كانت الحكمة البشرية وسيلة للتطور، فإن المجتمعات الإسلامية لا يضرها الانتفاع بمزايا الحداثة التنظيمية والتدبيرية، واهتمامها بالحاضر والمستقبل، وتعظيمها للوقت وقيم التطور والتقدم، مع السعي إلى تجاوز مظاهر العلمنة والعقلانية المتطرفة.

المنطلق الثالث: التكامل عوض المساواة

ترى هيئة الأمم المتحدة أن المساواة تواجه في العالم العديد من التحديات، ومن بينها: الفقر والتمييز الاجتماعي والاقتصادي، والعنف والتحرش الجنسي، وتمييز الأقليات والأقليات الجنسية، وعدم المساواة في الفرص والوصول إلى التعليم والرعاية الصحية، وعدم المساواة في الحقوق القانونية والسياسية. وسعيا منها لتجاوز هذه التحديات تبنت المساواة “الجندرية” بشكل رسمي في معاهدة “سيداو”.

والمساواة الجندرية تعني المساواة بين الأنواع الاجتماعية المختلفة في الحقوق والمعاملات، وألا يكون هناك تمايز واختلاف بين الأفراد على أساس الجنس، وبصفة خاصة فيما يتعلق بتوزيع الموارد والعائدات وتوفير الخدمات، والحقوق والواجبات. ويفيد قرار الأمم المتحدة الخاص بالقضاء على أنواع التمييز كافة ضد المرأة إلى ضرورة المساواة في الفرص والواجبات وفي الحياة العملية، بل وفي كل نشاط من أنشطة الحياة المختلفة، وعلى نطاق القطاعات الاقتصادية المختلفة.

على أساس هذا المفهوم تمت المطالبة بمراجعة مدونة الأسرة تحقيقا لما يسمى بالمساواة الفعلية التي تتجاوز واقع الاختلاف الجنسي وتعتبره مجرد تكريس اجتماعي صنعته الثقافة عبر التاريخ. وعلى هذا الأساس، ينتقد المطالبون بالمساواة الجندرية مدونة الأسرة في أربعة أشكال رئيسية من اللامساواة بين الجنسين وهي:

– عدم المساواة في الإرث بين الأخ وأخته.

– عدم المساواة في التوارث بين الزوجين.

– إباحة تعدد الزوجات.

– تحريم زواج المسلمة من غير المسلم.

فهم يعيبون أن تكون المرأة موضوع نفقة، ووارثة لنصف ما يرث أخوها ولنصف ما يرثه زوجها منها، وزوجة بين الزوجات، وممنوعة من التزوج من غير المسلم، ومجبرة على العدة، وغير مؤهلة لتنقيل النسب… وكيف لها أن تكون “مكرمة” من خلال هذه الآليات الفقهية التي تحمي تبعيتها وتكرس ضعفها؛ وبالتالي فإن المساواة تقتضي في نظر المدافعين عن الجندرية تجاوز المرجعية الدينية لأنها لا تمتلك آليات تشريعية كفيلة بجعل المرأة والرجل متساويين أمام القانون.

ولَئِن كان هذا هو ظاهر مطالب الحركات النسوية فيما يتعلق بالمساواة الفعلية في المدونة، فإن طموحها يتعدى هذه المطالب المرحلية حيث تسعى للتَّغيير الاجتماعي والثَّقافي، وتغيير بنَى العلاقات بين الجنسين وصولاً إلى المساواة المطلقة كهدفٍ استراتيجي، وتتبنَّى صراع الجنسين وعداءهما، وتهدف إلى تقديم قراءات جديدةٍ عن الدِّين واللُّغة والتَّاريخ والثَّقافة وعلاقات الجنسين، لنكون بهذا  إزاء حركة فكريَّة سياسيَّة اجتماعيَّة متعدِّدة التَّيَّارات، تتَّسم أفكارها بالتَّطرُّف والشُّذوذ المتجليين في مطالبها الآتية:

– المناداة بعداء الجنسين، وجعل العلاقة مع الرجل مبنية على الصراع والندية.

– رفض الأسرة والزَّواج.

– رفض الأمومة والإنجاب.

– ملكيَّة المرأة لجسدها.

– إباحة الإجهاض دون قيد أو شرط.

– الشُّذوذ الجنسي وبناء الأسرة اللاَّنمطيَّة.

– إعادة صياغة اللُّغة.

– إلغاء وظيفة الأب في الأسرة من خلال رفض “السُّلطة الأبويَّة”.

وبين المساواة والتكامل في هذا السياق، لزم التأكيد على أن المساواة المطلقة تجحف بالمرأة نفسها، وتضيع الكثير من حقوقها، حين تشوه خصائص أنوثتها، وتصرفها عن وظائفها الطبيعية، فتختلط عليها الوظائف، وتصبح ملزمة بالإنفاق وتحمل الأعباء التي هي من صميم مسؤوليات الرجل، بينما الإنصاف يقتضي أن المساواة في التّشريعات تكونُ حيثُ وجدت الصّفات المتطابقة، وهو يقتضي كذلك الاختلاف في هذه التّشريعات حيث اختلفت الصّفات، ويكون التّطابق والاختلاف في التّشريعات متناسبًا مع نسبة التّطابق والاختلاف بين صفات الرّجل والمرأة في كلّ قضيّة من القضايا التفصيليّة.

إن الإسلام دين الفطرة، فكلّ ما شهدت الفطرة بالتّساوي فيه بين المسلمين فالتّشريع يفرض فيه التّساوي بينهم، وكلّ ما شهدت الفطرة بتفاوت البشريّة فيه، فالتّشريع بمعزلٍ عن فرضِ أحكامٍ متساويةٍ فيه. كما أن المساواة في التّشريع أصلٌ لا يتخلّف إلَّا عند وجود مانع.

وهنا لا بدّ من التّنبيه على أنّه إذا كانت المجتمعات المسلمة أو غير المسلمة قد ذهبت إلى تكريس الظّلم، وتوسيع مساحة التّمييز بين الّرجل والمرأة بصور متعسّفة لا علاقة لها بالإسلام وتشريعاته العادلة، فمن الظلم للمرأة في المقابل أيضًا أن تكون ردّة الفعل هي السعي إلى فرض المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، فكلاهما تعسّفٌ وتطرّف، والتّوازن إنّما يكمن في التّشريع الإسلاميّ الذي راعى جانب المساواة وجوانب الاختلاف بين الرّجل والمرأة في التّشريعات تطابقًا واختلافًا، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (المائدة: 50).

ثالثا: شروط نجاح تعديل مدونة الأسرة

إن اختزال ورش إصلاح الأسرة بكل تفاصيله وحيثياته وجوانبه في تعديل نص قانوني هو مقاربة تجزيئية سطحية، الهدف منها أساسا التهرب من القضايا الأساسية التي تعتبر أسبابا مباشرة لما آلت إليه أوضاع الأسرة المغربية. فمحاولة إصلاح منظومة الأسرة في أي دولة دون توفير البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واستحضار مجمل العوامل التربوية والثقافية والقيمية المساعدة على تحقيق ذلك، يعد هدرا لزمن الإصلاح، ومشاركة في عطب أجيال تلو أجيال، خصوصا إذا انحصر الرهان على المقاربة القانونية على أهميتها، إذ أكدت التجارب أن القوانين لوحدها لا تصنع مجتمعا صالحا، وإنما تسهم إلى جانب مقاربات أخرى في صلاح المجتمعات ورقيها وتقدمها. وعلى هذا الأساس، نرى من الضروري التأكيد على أنّ ثمة شروطا موضوعية لا يمكن تصور نجاح أي إصلاح أسري منشود إلا على أساسها. ومن أهم هذه الشروط:

الشرط الأول: نظام سياسي ديموقراطي قائم على العدالة الاجتماعية

يتيح النظام السياسي الديموقراطي شكلا ومضمونا الحق لكل الفاعلين في المجتمع بالمشاركة في النقاش العمومي حول موضوع الأسرة، باعتباره موضوعا يحدد هوية المجتمع وحاضره ومستقبله، بغض النظر عن ولائهم أو معارضتهم لسياساته، ناهيك عن أن النظام الديمقراطي يُمَكِّنُ من الولوج إلى المعلومة التي تفضي إلى تشخيص دقيق للخلل الموجود، ومن ثَمّ إلى اقتراح حلول ناجعة لتجاوزه. فضلا عن ذلك، فإن الديمقراطية التشاركية توفر نقاشا عموميا متزنا ينخرط فيه الجميع، بعيدا عن منطق الغلبة والتقاطب، خاصة وأننا أمام ورش يتحدد فيه مصير الإنسان بخصوص عدة قضايا اجتماعية واقتصادية، أضف إلى ذلك أن المناخ الديموقراطي يشجع على حرية النقد والاقتراح، فلا يمكن مثلا أن نعزو ضُعف المبلغ الذي يخصصه قاضٍ للنفقة أو الحضانة إلى خلل في تشريعات المدونة، في حين أن الطليق يتقاضى راتبا شهريا ضعيفا لا يرقى إلى الحد الأدنى للأجور. إذ الدولة في ظل نظام ديمقراطي ملزمة بضمان الحد الأدنى للعيش الكريم لجميع المواطنين، وتمتيعهم بحقوقهم المشروعة والمستحقة في ثروات البلاد، وتمكينهم من تغطية الواجبات الأسرية في كل الظروف والأحوال. فالإصلاح الحقيقي لمدونة الأسرة رهين بتحمل الدولة كامل مسؤولياتها في تغطية عجز الأفراد، مما يستدعي ضرورة تخصيص موارد مالية ومؤسسات متخصصة في هذا المجال؛ أما إعفاء الدولة وعدم تضمين التزاماتها في هذا الإصلاح فإنه يحكم عليه لا محالة بالفشل.

الشرط الثاني: نظام تربوي تعليمي أخلاقي

إن التربية رسالة ومهمة رافقت رحلة البشرية على وجه الأرض منذ خلق الإنسان، بها تحفظ القيم وتستقيم العلاقات وترتقي المجتمعات. والتربية والتعليم وظيفتان متلازمتان، تستمران مع الإنسان منذ ولادته إلى وفاته، تتداخل فيهما مؤسسات متعددة وإن بدرجات متفاوتة، غايتهما تطوير الأفهام وإعداد الإنسان لحسن التفاعل والاندماج في مجتمعه الذي يعيش فيه تأثرا وتأثيرا.

وتعتبر مؤسسات ومراكز التربية والتعليم من أهم الفضاءات المؤثرة في تربية الفرد عقلا وقلبا وخلقا، وتمكينه من القيم التي تؤهله لعمارة الأرض وحفظ الفطرة ونسج علاقات إنسانية سوية سواء داخل الأسرة أو وسط المجتمع، يتعلم من خلالها معرفة حقوق الغير واحترامها، ومعرفة واجباته وحسن القيام بها. ومن هنا كانت حاجة كل مجتمع ملحة إلى نظام تربوي تعليمي يعلي قيمة المرأة والرجل، ويوضح خصائصهما الفطرية، وتكامل أدوارهما ووظائفهما داخل الأسرة بما لا يخل بقدر أحدهما، وقيمة الروابط التي تجمعهما مع أبنائهما داخل الأسرة. فهذه الأخلاق والقيم وحدها كفيلة بضمان استقرار الأسر وأمنها، إذ التربية على أخلاق التعاون والإحسان والإيثار والصبر، والتزام قيم التواصل والتطاوع والتوافق وحسن التدبير، كفيلة بجعل الناشئة تنأى تدريجيا عن أخلاق الأنانية والكراهية التي تكون في معظمها سببا في الصراع والتصادم داخل الأسرة، والمطلع على واقع التربية والتعليم ببلادنا يعي المسألة جيدا.

الشرط الثالث: اجتهاد مقاصدي منفتح ومؤسساتي جماعي

إن نجاح الإصلاح اليوم في مدونة الأسرة المغربية يتطلب بالضرورة تبني خطاب ديني يؤمن بالاجتهاد والتجديد وفق الشروط المطلوبة، خطاب له أصول وثوابت، لكنه ينفتح على الاجتهادات في الأمور الخلافية التي تقوم على النصوص ظنية الدلالة، إذ لا يعقل اليوم في ظل توفر الاجتهادات الفقهية والنصوص الشرعية والحقائق العلمية والمجامع الفقهية أن نحصر خياراتنا في أحكام أو فَتاوى قد لا تتناسب ومتغيرات الواقع ومتطلباته، في الوقت الذي يمكننا الانفتاح من داخل نفس المرجعية الإسلامية على مذاهب فقهية مختلفة واجتهادات معتبرة تفي بالغرض وتستجيب لتطلعات العصر، مع التنبيه على أن مجال الاجتهاد والترجيح في الشرع لا ينبغي ترك حبله على الغارب بحيث يصبح مطية للأهواء، بل لابد من حصره في أهله وخاصته المتحققين من آلياته. مع التذكير أن عصرنا الذي تعددت وتوسعت فيه التخصصات في كل العلوم والمجالات أضحى عصر الاجتهاد الجماعي، إذ لا يمكن للفقيه وحده “استفراغ الوسع لتحصيل ظن بحكم” بمعزل عن استشارة باقي تخصصات عصره في النازلة أو النوازل المعروضة، فمع تطور الحياة والمجتمع وظهور أقضية لم يعهدها فقهاؤنا الأقدمون، أصبح من الضروري والمفيد حضور الخبير الاقتصادي وعالم الاجتماع والنفس وخبراء السياسة والأطباء والمهندسون وغيرهم إلى جانب العالم والفقيه المجتهد.

الشرط الرابع: قضاء أسري مختص مستقل ونزيه

تنتصب أمام القضاء عند تطبيق أي إصلاح لمدونة الأسرة عقبات جمة يمكن اختزالها في المعطيات الآتية:

– قلة الموارد البشرية، بحيث تفوق القضايا المطروحة على محاكم الأسرة طاقة العاملين بها.

– ندرة التخصص في مجال الأسرة وقانون الأسرة وعلم النفس الأسري وأساليب الوساطة وتدبير المنازعات.

– بطء المساطير المعتمدة وضعف آليات تتبعها، ما ينجم عنه تعطيل المصالح والحقوق.

– إفلات المفسدين من المحاسبة والعقوبات الزاجرة.

إن هذه العقبات وغيرها كثير لا يمكن تجاوزها إلا بإعادة تأهيل الإدارة والقضاء عامة وقضاء الأسرة خاصة، وذلك بتوفير الإمكانيات اللازمة سواء تعلق الأمر بالموارد البشرية كمّاً وكيفا، أو تعلق بتوفير بنية المؤسسات الكفيلة باستيعاب قضايا المواطنين. ثم إنه لابد من إحداث آليات للتنسيق بين كل المشتغلين في حقل الأسرة قضاة ومحامين وعدول ومؤسسات الوساطة الأسرية…مع تمتيع العاملين في الجهاز القضائي بأجور معتبرة وتعويضات تليق بالمجهودات المبذولة.

وفي ذات السياق، وجب تفعيل دور الوساطة والاعتراف بها مهنةً رسمية، وهذا يقتضي فتح مسالك أكاديمية ومهنية لتخريج أفواج من الوسطاء الاجتماعيين، مع تقنين المجال وإخضاعه لمعايير خاصة تشترط على العاملين فيه خبرات عملية إلى جانب الخبرات العلمية، إذ الغرض من مؤسسة الوساطة تأهيل المقبلين على الزواج، والمساهمة في تدبير الخلافات والنزاعات عن طريق المصاحبة والتوجيه، والأهم من هذا وذاك تقديم تقارير كافية شافية تساعد القضاة على اتخاذ الأحكام المنصفة لجميع المعنيين.

الشرط الخامس: إعلام في خدمة الأسرة

يعتبر الإعلام من أقوى وأهم واجهات التأثير والتوجيه داخل المجتمع، وأكثر الوسائل التي تستخدم في تسويق الأفكار، وتعبئة الرأي العام، وتشكيل آرائه حول العديد من القضايا المجتمعية.

وإن علاقة الإعلام بالأسرة- كما هي علاقته بمواضيع أخرى- تتعدى كونها علاقة تقنية للتواصل أو إيصال الخبر والمعلومة، إلى كونها في الغالب الشائع مسألة شائكة تتعلق بنسق فكري وسياسي تحمله وسائل الإعلام وتعمل على ترويجه داخل المجتمع انطلاقا من قيم ثقافية وتصور للنظام الاجتماعي.

فالإعلام عندما يصور من خلال برامجه الأسرة على أنها حلبة صراع بين الزوجين من جهة، وبين الأبوين والأبناء من جهة ثانية، وينقل لمشاهد الناس صور ومظاهر العنف والانحراف والكراهية بين مكونات الأسرة، إنما يُسهِم في زعزعة الفطرة، وتراجع الأخلاق، وزرع القيم السلبية في مخيال الناس، والتطبيع مع كل السلوكيات التي تهدد أمن الأسرة وتماسكها واستقرارها، وسلامة العلاقات بين مختلف مكوناتها.

وفي سياق إصلاح مدونة الأسرة، لا يستقيم عقلا أن يسير الإعلام في خطه وسياسته وبرامجه ضد تطلعات إصلاح هذه المنظومة، بل إن من واجبه الرسالي أن يكون في خدمة أخلاق وقيم المجتمع، وأن تكتمل أدواره مع الدور التربوي والأخلاقي المنوط بمؤسسات التربية والتعليم، فيكون هو الآخر واجهة لإبراز النماذج الأسرية الإيجابية، ويسعى من خلال ما يقدمه إلى ترسيخ أهمية الأسرة ودورها المركزي في إسعاد الإنسان وتحقيق الأمن والاستقرار والرقي للمجتمع.

خاتمة

في ختام هذه الورقة، نود التأكيد على عدد من الأمور التي تلخص اقتناعاتنا ومواقفنا في ما يرتبط بمطالب تعديل مدونة الأسرة المغربية:

1- ضرورة احترام أي تعديل في مدونة الأسرة لسمو المرجعية الإسلامية وثوابت الدين الإسلامي وقطعياته، والاجتهاد فيما يقبل الاجتهاد وفق مقاصد الشريعة وكلياتها المحققة لمصالح العباد.

2- الانفتاح على سعة الشريعة الإسلامية القادرة بمقاصدها وكلياتها وتعدد مذاهبها وثراء أحكامها على الاستجابة للمتطلبات التشريعية للمسلمين في كل زمان ومكان.

3- دعوة العلماء والفقهاء إلى العمل على تقريب سماحة ديننا الحنيف وأحكامه المثلى من العباد، وتحملهم أمانة ومسؤولية نصرة دين الله تعالى، والصدع بكلمة الحق لحفظ مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم.

4- سياق وزمن تعديل مدونة الأسرة لا يناسبان حجم وطبيعة الأحداث والظروف التي يعيشها المغرب، في مقدمتها الزلزال الذي ضرب أنحاء متعددة من المغرب والذي ما زال المتضررون يعانون تداعياتِه، والاحتقان الشعبي بسبب عدد من الملفات الاجتماعية الحارقة، بالإضافة الى الاعتداء الصهيوني الغاشم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني خصوصا في قطاع غزة… بما يجعل فتح ورش كبير ومصيري في هذه السياقات يفوت لا شك فرصة التعبئة له والمشاركة فيه، ويصرف الأنظار عن عدد من القضايا المهمة.

 5- إن النظر في قضايا الأسرة وما يتعلق بها من أحكام وقوانين ينبغي أن ينطلق من دراسات علمية وموضوعية لتحديد حجم كل مشكل على حدة وليس فقط بناء على توجيهات سياسوية لا يعلم أحد بواعثها، كما يحتاج الأمر إلى نقاش مجتمعي هادئ وموضوعي يستحضر كل السياقات ويراعي مصالح جميع مكونات الأسرة.

6- مطالب تعديل أي قوانين منظمة للحياة الإنسانية تكون مطالب واقعية لها مشروعيتها، ولكن بشرط أن تقتضيها الضرورة الملحة المقبولة، وتدعو إليها الإرادات الصادقة.

7- مقاربة قضايا الأسرة ينبغي أن يتم بعيدا عن كل الضغوطات الأجنبية والإملاءات الخارجية التي تستهدف تفكيك روابط أسرنا، وتهدد النسيج القيمي والأخلاقي الضامن لتماسك المجتمع واستقراره.

8- إنجاح أي تعديل قانوني بما يحفظ حقوق المواطن ويصون كرامته في مغرب اليوم لا بد أن يسبقه إصلاح في البيئة التي ينخرها الفساد على جميع المستويات.

9- مهما سمت القوانين المؤطرة لأي إصلاح اجتماعي، فلن تستطيع النفاذ إلى تصويب الإرادات، وتقويم الدوافع، وتحسين العلاقات بكيفية تلقائية وشاملة، وتبقى التربية والأخلاق والقيم من المداخل الأساسية القادرة على اختراق عمق الإنسان وتغييره قبل تعديل سلوكه نحو الخير والفضيلة والصالح العام.

والحمد لله رب العالمين.

 الأربعاء 29 نونبر 2023