محمد ﷺ قدوتنا فلسطين قضيتنا.. “تربية وتنظيما وزحفا”

Cover Image for محمد ﷺ قدوتنا فلسطين قضيتنا.. “تربية وتنظيما وزحفا”
نشر بتاريخ

تقديم

رفعت بوابة العدل والإحسان شعارا جامعا: “محمدﷺ_قدوتنا_فلسطين_قضيتنا” تخليدا لذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذكيرا لمن ينسى بالمعركة الحقة والعادلة “طوفان الأقصى” بين آلة الباطل الصهيونية والمتصهينة وجند الله وراء القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم، وبذلك يكون الشعار اختصارا إجرائيا للمنهاج النبوي الذي يعمل على تحرير الأفراد والجماعات من كل المحاب إلا حب الله ورسوله وجهاد في سبيله، وذلك جمعا بين التربية الإيمانية والاقتداء؛ كل الاقتداء؛ برسول الله ﷺ، والانخراط الفاعل في المعركة المركزية للأمة: “فلسطين”، “تربية وتنظيما وزحفا”.

ولقد كانت؛ وما زالت؛ هذه الثلاثية معالمُ كبرى في المشروع التجديدي للإمام عبد السلام ياسين والتحرري للأمة: تزكية للنفس بالصحبة والذكر، وتهذيب أخلاقها، وبناء الشخصية المؤمنة الثابتة على الحق، القابضة على الجمر؛ فالأمر أعظم وأجل، والأمة تحتاج إلى الرجال والنساء لا يصدهم صاد، ولعل فلسطين بطوفانها ورجالها ومقاومتها كشفت هذه الحاجة: تنظيما للصفوف فكريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، ربطا بين القلب المفرد والجماعة والأمة، على خطى الرسول ﷺ قدوتنا.

محمد رسول الله ﷺ قدوتنا

ربّى الحبيب ﷺ أصحابه؛ رضي الله عنهم أجمعين؛ على حبِّ الله، والصدق، والأمانة، والصبر، والتعاون، والبذل، والأخوة، فكانت أخوة المهاجرين والأنصار نواة للمجتمع المتماسك يحتذى ويقتدى… وكل الخصال المجددة لبواعث الجهاد، فصاروا قدوةً للبشرية جمعاء، فكانت قلوبهم وأعينهم على كل شبر من ثغور أرض المسلمين باعتبارها وقفا على الأمة وليست ملكا لوال أو حاكم يبيع الأرض والعرض للغاشمين، لذلك لا غنى لنا عن الاقتداء بالرسول ﷺ لبناء هذه الشخصية المتوازنة، عبادة وعملا، تحرص على خلاصها الفردي وعينها على خلاص الأمة من الاستبداد والاستعمار.

ولم يقتصر ﷺ على ذلك، بل وضع معالم الدولة تأسيسا للعلاقات الخارجية، فكانت وثيقة المدينة عنوانا كبيرا يضمن التعايش بين المسلمين وغيرهم، وتنظّم العلاقات الأفقية داخل المجتمع على أساس العدل وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (آل عمران: 159)، والتكافل. وأرسى نظام المؤاخاة بين الأفراد، ونبذ كل أشكال العصبية القبلية، وثمن قيم الانتماء للإيمان والجماعة. ورغم التحديات الداخلية والخارجية والأنفسية التي يشيب لهولها الولدان، لم يستبدّ برأي، ولم تطرف له عين ولا جفن عن حال أصحابه في الحال والمآل، والأمة في الدنيا والآخرة.

ولقد كان كل شبر يفتح في أرض الله ويذكر فيه اسمه وتقام فيه الصلاة وتنشر فيه المحبة والسلام أمانة تنضاف إلى الأمانات الكثيرة المطوقة لأعناق المسلمين، وقد استدعى ذلك بعد الدعوة بالحال والمقال تنظيم الصفوف وتحديد المهام، وترتيب الرايات والقوة والجيش؛ فغرس في قلوب أصحابه أن الجهاد عبادة وقربة إلى الله قبل أن يكون حربًا ودفاعا عن الحدود، فكان الصبر والثبات والتوكل حاذيهم.

كل ذلك على أساس التعبئة العامة والإعداد النفسي المستمر للدفاع عن ثغور القلوب قبل الحدود، ووضع الخطط الاستراتيجية المحكمة، ولقد تجلى ذلك بوضوح في الخندق عبر المؤازرة والمراقبة، لحماية الدولة والأمن الداخليين، وإرهاب العدو في الداخل والخارج.

وبما أن المسلمين قبل الهجرة عانوا من ويلات الحصار والجوع والظلم من ذوي القربي قبل الأعداء، كانت عينه ﷺ على تنظيم موارد الدولة (الزكاة، الغنائم، الجزية) بما يكفل العدل والتوزيع العادل للموارد، ثم تشجيع نظام الوقف والتكافل، ومحاربة الاحتكار والربا، وكل أنواع الجشع. وشجّع؛ في المقابل؛ التجارة الحلال، فكان النظام الاقتصادي الفتي مبني على التكافل والعدالة الاجتماعية، لا على العلاقات المشبوهة والمحسوبية والزبونية والقهر واستغلال النفوذ والعلاقة بالسلطان.

ها قد قويت الدولة؛ والحمد لله؛ واتسعت رقعتها شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، فكان القدوة ﷺ يوصي أصحابه بالرحمة: بالخلق وفي الخلق، ويمنع الغدر والتمثيل بالقتلى، ويذكرهم؛ إنما جُعل الجهاد لحماية الدين والإنسان لا للبطش أو القهر والطغيان: فعن مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامل من عماله، أنه بلغنا أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان إذا بعث سرية يقول لهم: “اغزوا بسم الله في سبيل الله تقاتلون من كفر بالله، لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وقل ذلك لجيوشك، وسراياك إن شاء الله” 1، وفي الحديث: “اغزوا باسم الله، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلاً، ولا امرأة، ولا تغلّوا، وأصلحوا وأحسنوا؛ إن الله يحب المحسنين” 2، فتحقق النصر في بدر والخندق؛ لا بكثرة العدد والعدة؛ ولكن بالأخلاق والعفو، والله ينصر من نصره، ويخذل من خذله ورسوله والمسلمين.

   ثم جاء بعد ذلك الفتح المبين في مكة وحماية المستضعفين والرفق بهم وتجنب العنف، لأن “الرفق هو خلاصة المنهاج الإسلامي، وأصل من أصول الدعوة النبوية، وهو لا ينافي رد المظالم ودرءَ الفساد وتغيير المجتمع، كما أن القوة لا تتنافى مع الرفق الذي يؤتي الله به ما لا يؤتي على العنف” 3، فها هو ﷺ يدخل مكة متواضعا لله عز وجل الذي نصره وأعزه وذل الشرك والمشركين، ومثل هذا النصر هو ما ينتظره المسلمون، يقول ابن القيم: “هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين … وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، ضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجا” 4، ولقد أتى أمر الله، فها هي بشائر النصر تلوح من فلسطين، فكيف نجعلها محورا لقضيتنا؟

فلسطين قضيتنا

يقول الإمام ياسين رحمه الله: (ها هي) “السيرة النبوية العطرة… نموذج القومة ووصفها ومدرستها، عليك في عصرك ومصرك وظروفك وحظك من الله وقوة من معك من حزب الله، قوة الإيمان قبل قوة العدد، أن تترجمها واقعا حيا تتعرض به لأمر الله” 5،  هي السبيل لنستلهم منها تربيةً تصنع أجيالًا ثابتة لا تهتز أمام التحديات، تربية على حبّ القدس وغزة، وبذل النفس والنفيس، ونتعلم أن حب فلسطين؛ أرض الإسراء والمعراج؛ جزء من حبّنا لرسول الله ﷺ، ومدرسة لتخريج الرجال الصابرين والنساء الصابرات، والأطفال الحكماء والطفلات الحكيمات، بل مدرسة للصبر والمقاومة، وتربية النفوس على العزة والكرامة.

نتعلم منها أن الدعوة كي تكون “فلسطين قضيتنا”، والمسجد الأقصى مركز التربية والتنظيم في قلوبنا وبرامجنا وتخطيطنا، كما كان المسجد النبوي في المدينة، فإن ذلك يحتاج إلى تنظيم الصفوف وتوحيد الجهود والكلمة والمؤسسات من التشتت كما فعل النبي ﷺ مع أصحابه.

قال الله عز وجل: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ (الأنفال: 60)، ولقد كان الرسول ﷺ قدوة في الإعداد للجهاد، الاستعداد بكل أنواع القوة الممكنة لهم في وجه الأعداء، وتشمل هذه القوة الأدوات والعتاد والتدريب وكل ما من شأنه أن يرهب العدو ويقوي المؤمنين، مع ضرورة استحضار أن مفهوم القوة يختلف بتغير الزمان والمكان… “والإعداد: التهيئة والإحضار، ودخل في “ما استطعتم” كل ما يدخل تحت قدرة الناس اتخاذه من العدة” 6.

لذلك فقولنا: “فلسطين قضيتنا” لا تكفيه العاطفة والخطب والمحاضرات والمقالات، بل يلزمه التخطيط والإعداد والصبر، دفاعا عن الأرض والعرض والمقدسات، وبذلك تكون حركاتنا وسكناتنا امتدادا لزحف الرسول ﷺ وأصحابه دفاعًا عن الرسالة في كل شبر من أرض المسلمين. وإن تبني هذه القضية لهو معيار صدقنا، وإن مجرد التفكير في التخلي عنها هو تخل عن القرآن وعن سنة محمد ﷺ، يقول الإمام رحمه الله: “ليست “قضية فلسطين” قضية محلية، بل هي قضية مصيرية” 7.

خاتمة

 أختم مقالي المستعجل هذا بكلام نفيس للإمام عبد السلام ياسين، يحدد فيه موقع القضية الفلسطينية في خط التدافع نحو وعد الله، حيث قال: “قضية فلسطين بداية المواجهة الحاسمة بين الحق والباطل، بين الجاهلية والإسلام. مع الجاهلية تنَبؤٌ يهودي بمملكة صهيون الألفية. ومع الإسلام وعد الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بالنصر المبين، وبالخلافة على منهاج النبوة، وبظهور هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون” 8.


[1] ابن عبد البر – أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، مكتبة ابن تيمية، حديث رابع عشر من البلاغات، ج: 24، ص: 232.

 https://www.islamweb.net/ar/library/content/78/1796/


[2] نفسه، ج: 24، ص: 232.
[3] محمد ياسين العشاب، ملخص البحث: التأصيل المنهاجي لاقتحام العقبة، كلية العلوم القانونية والاقتصادية بطنجة – المغرب.

 https://yassineconferences.net/quran-conf/ar/document/87.shtm
[4] ابن القيم، زاد المعاد، ج: 2، ص: 160.
[5] ياسين عبد السلام، سنة الله، مطبعة الخليج العربي، تطوان، الطبعة الأولى، 2005، ص: 300.
[6] ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج: 11، ص: 55. بتصرف.
[7] ياسين عبد السلام، سنة الله، ص: 118.
[8] المصدر نفسه، ص: 126.