“محمـد رسول الله” كما وردت فـي خواتم سورة الفتح جملة إخبارية تحدد وظيفته صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله، وتخبر بالعطف عن مقامه ومكانته، وما يترتب عليها بمقتضى الإيمان بنبوته ورسالته من وجوب التعظيم والمحبة والتأسي، باعتباره رسول الله الدال علـى الله تعالـى.
لقد تكفلت العناية الإلهية بتأهيله صلى الله عليه وسلم لأداء مهام استثنائية في تاريخ البشرية، فكونه صلى الله عليه وسلم خاتم الرسالات جُمع له وفيه ما تفرق بين من سبقه من الأنبياء والرسل عليهم السلام، وفي جميع المستويات والمجالات، تأكيدا على مكانته ومنزلته عند ربه.
وحيث إن الأمور بنتائجها ومُخرجاتها، ولأن “الصنعة دليل على الصانع”، وإحياءً لذكرى مولده صلى الله عليه وسلم العطرة، ارتأيت أن أتناول عظمة شخصه صلى الله عليه وسلم من خلال صحابته الكرام حالا وسلوكا وبذلا وجهادا نصرةً لدعوة الإسلام ومشروعه. فكيف يفسر هذا التحول في الشخصية الصحابية من حيث العمق، وفي زمن قياسي؟ كيف استحال (تحوّل) الصحابة الكرام مما كانوا عليه من فظاظة وقسوة وجاهلية وتناحر وحروب ثأر إلى هذا المستوى الراقي سلوكا وخلقا ومعاملات، وهم الوافدون على الإسلام بخلفيتهم العصبية للعشيرة والقبيلة؟
إن هذا التحول الكبير والعميق في الصحابة يؤكد عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما حباه من مؤهلات خلقية وتربوية من جهة، وما أسبغ عليه سبحانه وتعالى من وقار وهيبة، شهد بذلك الخصوم والأعداء وسعوا، دون جدوى، لمنع الناس من التواصل معه، بل ومجرد الاستماع له. فتعال، أخي القارئ، أختي القارئة، نقف عند مظاهر تعظيم الصحابة الكرام لرسول صلى الله عليه وسلم.
محمـد رسول الله والذين معه، معه أي في صحبته، ومنها أخذ الصحابة معاني الرجولة الإيمانية، ومن ملازمته تشربوا الحكمة القلبية والرحمة العقلية، فانخرطوا بكل جدية ومسؤولية وتفان ونكران الذات في خدمة المشروع، فأضحى أكـل تمرات حياة طويلة تحول دون الالتحاق بالجنة. بهذه المعية ذابت العداوات والانتماءات القبلية، وصاروا “أشداء على الكفار رحماء بينهم”؛ فلا شدة على العدو إلا بتراحم الصف، ولا تراحمَ في الصف إلا بتربية خلصت النفوس من الأنانية ومشتقاتها، ومن القعود والركون إلى الدنيا وملذاتها.
صحبته ورعايته وتعهده صلى الله عليه وسلم للصحابة وصبره عليهم استئصالا لخصائص الجاهلية وعوائدها من النفوس، واستنباتا للإيمان ومقتضياته السلوكية والعملية في القلوب، أثمر جيلا فريدا نصر الله به رسوله ودعوته؛ جيل قدم أروع التضحيات في أصعب الظروف، كما جسدتها المواقف الحاسمة، وما أكثرها نكتفي منها بموقفين:
أولهما يوم بدر، بعد انفلات عير قريش التي كانت الهدف من الخروج، استشار صلى الله عليه وسلم الجند في قرار خوض النزال ضد جيش قرشي قوي عددا وعدة، فجاءت التصريحات تعبق بمعاني الإيمان والإخلاص لله ورسوله. عن عبد الله بن مسعود رضي الله: شَهِدْتُ مِنَ المِقْدَادِ بنِ الأسْوَدِ مَشْهَداً (يقصد يوم بدر)، لَأَنْ أكُونَ صَاحِبَهُ أحَبُّ إلَيَّ ممَّا عُدِلَ به؛ أتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: “لا نَقُولُ كما قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقَاتِلَا، ولَكِنَّا نُقَاتِلُ عن يَمِينِكَ، وعَنْ شِمَالِكَ، وبيْنَ يَدَيْكَ وخَلْفَكَ”؛ فَرَأَيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أشْرَقَ وجْهُهُ وسَرَّهُ”. (صحيح البخاري).
وفي ذات الاستشارة، ذكر ابن هشام في السيرة النبوية، والطبري في تفسيره، وابن كثير في البداية والنهاية: قال سعد بن معاذ يوم بدر متحدثا باسم الأنصار: “والله لكأنَّك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، قال: فقد آمنَّا بك، وصدَّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السَّمع والطَّاعة، فامض يا رسول الله لما أمرك الله. فوالذي بعثك بالحقِّ، إن استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما يتخلَّف منَّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غداً، إنَّا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ عند اللِّقاء، ولعلَّ الله يريك منَّا ما تقرُّ به عينك، فسِر بنا على بركة الله”.
ثانيهما موقف خبيب بن عدي رضي الله وقد جيء به أسيرا لقريش، وجعلوه على الخشبة ثم وجّهوه إلى المدينة، فقالوا له: ارجع عن الإسلام نُخل سبيلك. قال: لا، والله ما أحب أني رجعت عن الإسلام وأن لـي ما في الأرض جميعا. قالوا: أفتحب أن محمدا في مكانك وأنت جالس في بيتك؟ قال: لا، والله ما أحب أن يشاك محمد شوكة، وأنا جالس في بيتي. فجعلوا يقولون: اِرجع يا خبيب. فقال: لا أرجع أبدا. قالوا: أما واللات والعزى، لئن لم تفعل لنقتلنك. فقال: إن قتلـي في الله لقليل. ثم قال: اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، اللهم إنه ليس هنا أحد يبلغ رسولك عني السلام، فبلغه أنت عني السلام. فلما رُفع على الخشبة استقبل الدعاء. وروى محمد بن عمر عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا في أصحابه، فأخذته غمية كما كانت تأخذه، فلما نزل عليه الوحي سمعناه يقول: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته. ثم قال: هذا جبريل يقرئني من خبيب السلام. موقف استثنائي في الثبات والتفاني في حبه صلى الله عليه وسلم، علق عليه أبو سفيان، وكان ممن حاور يومها خبيبا وحاول زحزحته عن إيمانه بقوله: “ما رأيت أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محـمد محمـدا”.
هذه نماذج من التضحية وبذل المال والمهج في سبيل الله خدمة للمشروع الإسلامي الذي قاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فربى رجاله ونساءه، بل وشبابه ويافعيه الذين تنافسوا في ساعة الجد طلبا للشهادة ليحيا المشروع وينتشر في الأفاق. فيا سائلا بحسن نية، ويا متسائلا عن جهل أو تجاهل عن عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحيلك على صحابته، ولك أن تقارن كيف كانوا، وكيف صاروا بعد تتلمذهم بصدق على يديه، ليكونوا رسل الإسلام ورحمته إلى العالمين، بل وليمتد هذا الإشعاع إلى يوم الناس، وها هي ذات التربية النبوية تخرج جيلا فريدا فرادة جيل الصحابة في زمن الغثائية والوهن، تحمل مشعل الجهاد في غزة أرض الرباط، دفاعا على عزة الأمة ومقدساتها، وتصديا لعدوان دولـي حاز كل أنماط البشاعة والوحشية والنذالة؛ جيل أبهر العالم بصموده وتمسكه بأرضه وحقه في وطنه، لا يلتفت لمتخاذل، ولا يعبأ بمطبع، لسان حاله قوله تعالى في سورة آل عمران: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (الآية: 173).
اللهم اقذف في قلوبنا حب نبيك صلى الله عليه وسلم، وحبب إلينا ورثته من عبادك، واسلكنا – توفيقا منك وتسديدا – في سلكهم، ولا تخالف بنا عن نهجهم، وأكرمنا بخدمة دعوتك معهم، واختم لنا بالحسنى وزيادة بين أحضانهم.
اللهم انصر بعزتك جندك في غزة، أطعمهم من جوع، واسقهم من عطش، وأمّنهم من خوف، ولا تشمت بهم عدوا ولا خائنا متربصا، واجعل ثباتهم عنوانا لعزة المسلمين. والحمد لله رب العالمين.