بالرغم من كونه – صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والمرسلين، وأفضل الناس أجمعين. من اصطفاه الله تعالى من بين خلقه ليجعله حبيبه وصفيه، إلا أنه عانى وقاسى مثل بقية الناس، بل أشد منهم وأكثر.
ولعل فقدان الأب، وهو مازال جنينا في بطن أمه، كانت أولى محطات الفقد التي ستترك بصمتها على حياة المصطفى، يليها فقدان الأم في سن السادسة، وقد صورت السيرة هذا الموقف أدق تصوير وأحزنه على الإطلاق..
لقد كان مشهد الطفل عائدا من زيارة أخواله ببني النجار، وبرفقتهما حاضنته ”أم أيمن“، فتسوء حالة الأم فتفقد حياتها في منطقة الأبواء. إنه بحق مشهد صادم لعقل طفل في السادسة، والأصعب من ذلك كله هو مساعدة ”أم أيمن” في مواراة الجسد تحت التراب.
وتتوالى مشاهد الفقد والحزن منذ الطفولة الأولى للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جده الرؤوف به والعطوف عليه وهو في الثامنة، ولم يرتو بعد من حنانه وتعويضه عن فقدان الأب..
فقد أولاده الواحد تلو الآخر.. وفقد بناته الثلاث الواحدة تلو الأخرى، فقد رفيقة دربه، والركن الركين الذي يلجأ آليه وزوجه الحنون خديجة رضي الله عنها.. وفي السنة نفسها توفي السند الذي يرُدُّ عنه كيد الكفار عمه ” أبو طالب “..
لقد كانت رزيته – صلى الله عليه وسلم- في الأحباب عظيمة.. خاصة رزية الموت… لأن هذا يعني فقدان من تحبهم إلى الأبد… إنه الغياب دون رجعة…
إنه الفراغ الأزلي الذي يكتنف الروح والمكان والجسد…
فهل واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الفقد باستسلام ودعة؟ هل كان صلبا لا تحركه المشاعر، ولا تنزل من مقلتيه الشريفتين العَبرات؟
كلا، لقد كان مثل باقي البشر، يحزن لفقدان ذويه وأحبائه، وتنزل دموعه تترى في مشاهد تخِرُّلها الجبال، وتُبكي من حوله من الأهل والخلان والشجر والحجر..
لكن بصبر جميل، وأدب رفيع، يجعل كل شيء بمقدار، فلا الحزن يدوم، ولا الفرح يدوم أيضا. كان ينظر إلى أحبائه كودائع آن أجل عودتها لصاحبها، أمانات استرجعها مالكها…
عِبر تعلمه وهو معلمنا وقدوتنا… أن الدنيا محطات عبور إلى عالم حقيقي وخالد وليس فان… وأن لا نتعلق بالبشر وننسى رب البشر. ”أحبب من شئت فإنك مفارقه “، قناعة أبدية خرجت من ثغره الشريف على لسان سيدنا جبريل، وقد كان أكثر الناس رزية في محبيه وأهله وذويه…
لقد بكى بناته، وبكى عمه حمزة، وافتقد الصغير والكبير، وعاش الانتصارات والهزائم، ليعلمنا أن الحياة مد وجزر، أخذ وعطاء، وكذا ابتلاءات وامتحانات.
لا يمكن للحياة أن تكون على وتيرة واحدة، حتى لا يطمئن المؤمن للدنيا الفانية. لم يمنعه الحزن البشري ولا الوجع القلبي أن يستأنف حياته، ويعود إلى أعماله وأسرته وأصحابه، بل وأمته.
لقد توارثت الأجيال المقولة الرائجة ”فاقد الشيء لا يعطيه“، لكن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم خالفها، وفنَّدها تماما، فقد أغدق على ذويه وأبنائه وأصحابه الحنان والرحمة، فكان عطوفا عليهم، رؤوفا بهم، وجعل شفاعته لأمته يوم القيامة رحمة بها.
بل شملت رحمته من خالفوه العقيدة، ومن آذوه وعارضوه، وتجرع على أيديهم مرارة الوجع والإيذاء، ومن وقفوا بوجهه في المعارك والحروب…
لقد كانت المحطات الحزينة في حياته صلى الله عليه وسلم، درسا لأمته من بعده، تحمل العديد من الإشارات، منها أن لا صفو دائم في هذه الحياة، وأن الأزمات امتحانات تُمَحص بها قلوب الرجال والنساء، ”ليميز الخبيث من الطيب“، ويظهر من يعبد الله على حرف، فإن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء كفر.