“ووسط كل ذلك الازدحام، ووسط صراخ كل أولائك الأطفال، انتبهت للتو أن طفلي غير موجود! لقد كان قبل دقائق إلى جانبي، أجل أذكر ذلك، وأنا أطلب من ابن الجيران أن يحمل ثيابنا وقوتنا إلى جانب خاصتهم، وكذلك حين تحدثتُ إلى صديقتي رغد أواسيها بينما أنا في حاجة إلى من يواسيني، وهنا تذكرت شيئاً مهماً طول هذه المدة كان رَجُلي الصغير يجر عباءتي، كان يحاول لفت انتباهي كي نعود للبحث عن دميته، تلك الدمية التي لطالما كرهتها بينما أحبها هو جدا لأنها ذكراه من أمه، هل تراه عاد ليبحث عنها كما كان يرغب؟ مستحيل… ألا يسمع صوت الغارة المزعج؟ أم أنه لا يدرك المغزى منه؟ لكنه حتما لاحظ أن الجميع يبتعد عن شارعنا! لكنها دميته التي يحب! لأبحث عنه الآن، فلا وقت لأفكاري هاته التي تشوش عقلي فقط.”
تسير عكس التيار، الجميع يسعى لمغادرة هذا الحي، بينما هي عائدة إليه، تسير بين النساء تارة وتسألهم عنه، وتارة أخرى تبحث عنه في تجمعات الأطفال، ترتب أفكارها التي تضع أمامها كل الاحتمالات، إلا واحدا لا ترغب في تصديقه، ويعود صوت الغارة أقوى هذه المرة، فيسرع كل سائر في ذلك الدرب لمغادرة المكان، وتسرع هي في سيرها عكس التيار، وها قد قل الناس، وبرز حطام البيوت، وتعالى صوت القصف في مكان ليس بالبعيد ينذر بخطورة البقاء في المكان.
“ماذا لو لم يكن هنا؟ هذا أقصى ما أتمناه الآن، نعم ستكون مجازفتي هذه بلا فائدة، لكن على الأقل سيكون ابني الذي لم أنجبه بخير.”
أصوات كثيرة لرشقات صاروخية في أماكن مختلفة، وأصوات تحطم جدران وتكسر زجاج، مع صوت يتعالى لطفل تائه كلما اقتربت من بيتهم، عفوا! بيتهم سابقا.
وها هو يظهر أمامها، واضعا كفيه على وجهه ليخبئ دموعه، تجري إليه هي وتحضنه بقوة، كمن كان غريقا تتلاعب به أمواج بحر هائج ليجد أخيرا من ينتشله إلى بر الأمان، فقد كان لها الأمان، وانفجرت هي الأخرى في البكاء وكأنها تُخرج كل الأفكار السوداوية التي زارتها منذ أدركت غيابه مع هذه الدموع.
– لن.. لن أبحث عن دميتي، هيا بنا يا أختي، لقد فهمت، لقد أصبحت رجلا الآن، لن ألعب بها.
مسحت دموعها ونظرت إلى وجهه الصغير وعيناه الزرقاوتان المغرورقتان بالدموع، ثم ابتسمت تحاول تهدئته وهي تمسح دموعه بكفيها.
– لنلحق بالبقية الآن، فلنبق أحياء، وسنعود، سوف نعود بالتأكيد، وسأحضر لك لعبة أخرى، هيا بنا الآن.
“وجهت بصري لآخر مرة تجاه بيتنا، نظرة خاطفة كأنها دهر من الزمن، وتراكمت الأحداث والذكريات في عقلي، حملت “سيفا” على ظهري لأسير بسرعة، وأطلقت العنان لدموعي مرة أخرى لتتنافس مع انسياب شريط الذكريات في عقلي، اختفت أصوات الغارات والصواريخ، وصَدَّقْتُ ذلك، لتحل محلها أصوات ضحك وكلام كثير، ضحكي أنا وحازم حين كان يحملني بين ذراعيه ويلفني في حديقة بيتنا، صوت تبريكات العيد من أبي وإخوتي، وأنا وحسام نتنازل أيُّنا ظفر بمبلغ عيدية أكبر، وصوت أبي يرحب بعمتي وابنها في حوش الدار يوم تقدم لخطبتي، لقد كانت كلحن جميل استمتعت به حتى..”
صوت هذه الرشقة كان مميزاً بشكل مؤلم، أخرجها من ماض جميل عاشته خلال دقائق ابتعدت فيها عن بيتهم، ليست الوحيدة التي شعرت بذلك الألم في الجانب الأيسر من صدرها، فقد سمعت بعدها انتحاب أخيها سيف واستشعرت يديه الصغيرين تحكمان إمساك كتفيها، لوهلة كانت ستلتفت لترى الدمار الذي لحق البيت، لكنها لم تستطع، بل أسرعت الخطى لتلحق بالركب…