ثالثا: توصيات الحوار الوطني في ميزان المبادئ الدولية
لدواعي منهجية، سوف نقدم قراءتنا وتقويمنا للتوصيات موضوع اشتغالنا ضمن ثلاثة محاور؛ وذلك تماشيا مع تصنيفنا للمبادئ الدولية لحرية العمل الجمعوي أعلاه.
1- التوصيات المتعلقة بحرية الممارسة الجمعوية في ضوء مبدأ الحق الفطري في تشكيل الجمعيات
تنطلق التوصيات المتعلقة بحرية الممارسة الجمعوية كما أوردها التقرير من أن ضمان هذه الحرية يمر عبر تأهيل البيئة التشريعية والمؤسساتية للعمل الجمعوي) 1 . ويظهر من خلال استعرض هذه التوصيات حرص محرريها على توظيف ألفاظ المواثيق الدولية في صياغتها. ولا يسعنا إلا أن ننوه بالفلسفة التي وجهت صياغة هذه التوصيات من حيث استنادها إلى المبادئ الدولية لحرية العمل الجمعوي لا سيما إقرارها بحق الأفراد في تشكيل الجمعيات دونما حاجة إلى موافقة مسبقة. ومع هذا، فإن لنا أربع ملاحظات نقدمها كما يلي:
أ- لا تشير التوصيات ولا مسودة مشروع قانون الجمعيات 2 إلى مشروعية الجمعيات غير المسجلة. ونعتقد أن عدم التنصيص على هذا الحق قد تتذرع به السلطات لتجريم هذا النوع من الجمعيات ونزع الشرعية عنها. ونؤكد -هاهنا- أن هذا النوع من الجمعيات حقيقة اجتماعية في الواقع المغربي. فلم السكوت عن تقنينها؟
ب- إن عدم تدقيق مسودة قانون الجمعيات في الحالات التي تعتبر فيها الجمعية غير مشروعة، وتوظيف عبارات عامة من قبيل: احترام القيم الحضارية للشعب المغربي كما هي منصوص عليها في الدستور) دون تدقيق يزيل عنها العمومية ويبعد عنها تعدد التأويلات، من شأنه أن يفتح الباب لتأويلها في اتجاه تضييق حرية تأسيس الجمعيات لأسباب سياسية.
ت- إن تنصيص مسودة قانون الجمعيات في المادة (27) على تخويل الموظفين المكلفين بتسليم وصل الإيداع صلاحية التقدير فيما يتعلق بنوعية الوثائق التي يتلقونها وعددها، وصلاحية رفض تسلم الملف تبعا لذلك، من شأنه أن يوفر الغطاء لعرقلة تأسيس الجمعيات علاوة على كونه يمس باختصاص القضاء في هذا النطاق. وإذا أمكن الاحتجاج بتجريم المادة (33) رفض تسلم الملف القانوني أو طلب وثائق خارج ما ينص عليه القانون، فإن إرث الماضي يستدعي حصر اختصاص البث في أي نزاع بشأن تأسيس الجمعيات بما في ذلك الشروط الشكلية للملف في يد القضاء.
ث- يعد تنصيص المادة (41) على ضرورة تمثيل النساء في هياكل الجمعية في أفق المناصفة، واشتراط تعزيز تمثيلية الشباب، تدخلا غير مبرر من الدولة في عمل الجمعية وفرضا لتوجهها عليها. فمن حق الجمعيات أن يكون لها موقف ضد المناصفة دون أن يعني ذلك رفضا للتدبير الديمقراطي إذ المناصفة ليس محل إجماع كإجراء ديمقراطي.
خلاصة تقويمنا لهذا القطب من التوصيات تقول: إنه إذا كانت اللجنة الوطنية للحوار قد توفقت في التأكيد المبدئي على ضرورة احترام الحقوق المخولة للجمعيات في المواثيق الدولية، فإن توصياتها لم تستطع الإحاطة بكل متطلبات مبدأ الحق الفطري للأفراد في تكوين الجمعيات لاسيما حق تشكيل الجمعيات دون تسجيلها كما أن مسودة مشروع الجمعيات المعتمدة من اللجنة كأرضية لتفعيل توصياتها تكتنفها اختلالات من شأنها أن تشكل ذريعة لشرعنة إجراءات وممارسات تعتبر ماسة بجوهر مبدأ الحق الفطري في تشكيل الجمعيات.
2- التوصيات المتعلقة بالدعم العمومي للجمعيات في ضوء مبدأ الحق في التمويل وتأمين مصادره
تعتبر توصيات الحوار بشأن التمويل العمومي للجمعيات الجانب الأكثر إشراقا من بين مجموع المقترحات. وإذا كنا نسلم بحساسية الجانب المالي للعمل الجمعوي، فإننا نحذر من التذرع بمشروعية بعض المبررات الحكومية للمساس بهذه الحرية لأسباب سياسية.
تؤكد توصيات الحوار على أنه لتثبيت مبدإ حق الجمعيات في الولوج إلى الدعم، يقترح التنصيص -صراحة- على تخصيص الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية والشركات ذات المساهمات العمومية ضمن ميزانياتها السنوية منحا مالية لمساعدة ودعم الجمعيات المصرح بتأسيسها بصفة قانونية). وتحدد اللجنة آليتين للاستفادة من التمويل العمومي هما: آلية دعم نشاط الجمعية بطلب مباشر منها، وآلية التعاقد لتنفيذ مشاريع تبعا لطلبات عروض تعلن عنها تلك الجهات العمومية 3 . وبالانتقال من التوصيات إلى مسودة مشروع قانون الجمعيات، نجد أن المادة (72) تنص على إلزام السلطات العمومية والجماعات الترابية بتخصيص ميزانياتها منحا لتمويل مشاريع وأنشطة الجمعيات وتغطية مصاريف تدبيرها وتطوير وسائل عملها على أساس تكافؤ الفرص والشفافية والمنافسة؛ غير أن مقتضيات المادة (74) قد تشكل مدخلا لحرمان الجمعيات من الاستفادة من هذا التمويل إذا كانت أنشطتها لا تندرج ضمن القوائم التي تحددها الجهات المانحة، وهو ما يعني بالنتيجة ربط الاستفادة بالاستجابة لاهتمامات الجهات العمومية المانحة. وفي اعتقادنا يتعين التنصيص صراحة على حق كل الجمعيات المؤسسة بصفة قانونية في الاستفادة من منح لتدبير نشاطها عبر الوكالة الوطنية لدعم قدرات العمل الجمعوي وفق مبدأي الشفافية والمحاسبة إلى جانب آلية التمويل التعاقدي.
ومع أننا نستهجن -هنا أيضا- عدم التنصيص على حق الجمعيات غير المسجلة في تدبير مواردها الخاصة، فإننا نكرر أن مخرجات الحوار المتعلقة بالتمويل العمومي تبقى الجانب الأكثر إشراقا ضمن مجمل مخرجات الحوار. ومع كل هذا، فإننا لا نخفي تخوفنا من أن تؤدي إحالة تنظيم بعض الحقوق على مراسيم إلى إفراغها من محتواها؛ وذلك لاحتمال تعطيل هذه الحقوق بفعل تأخر إصدار هذه المراسيم، أو بتكبيلها إجرائيا كما في السابق.
3- التوصيات المتعلقة بأحكام الدستور في ضوء مبدأ الحق في المشاركة في إدارة الشؤون العامة
أثناء بحثنا في استيفاء توصيات الحوار لمتطلبات مبدأ حق الجمعيات في المشاركة في إدارة الشؤون العامة اشتغلنا على التوصيات المتعلقة بأحكام الدستور؛ ففيما يتعلق بهذه الأحكام، تناولت التوصيات الجوانب المرتبطة بتفعيل حق الجمعيات في المشاركة في الحياة العامة من خلال آليتي الملتمس والعريضة كما تناولت مأسسة التشاور العمومي. وخلافا للتوصيات التي تناولناها حتى الآن، تم اعتماد القانونين التنظيمين: 64.14 و44.14 بشأن تحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع والحق في تقديم العرائض إلى السلطات العمومية، كما تضمنت القوانين التنظيمية للجماعات الترابية مقتضيات لمأسسة التشاور العمومي.
وبتمحيص مقتضيات القانون التنظيمي رقم 64.14، يظهر أنه لم يأخذ بكل توصيات اللجنة حيث تخلى عن مقترح تمويل مبادرات تقديم الملتمسات وفق مسطرة تمويل الجمعيات؛ وهذا ما يثير التساؤل عن جدوى هذه التوصيات. وعلاوة إلى ذلك، نعتقد أن عدم إلزام المؤسسة التشريعية بتبرير رفضها لتبني الملتمسات، وعدم إلزامها بعرض الملتمس للتصويت من أجل المناقشة في حالة عدم تبني أي من أعضائها له من جهة، واستبعاد إمكانية الطعن في قرار الرفض أمام أية جهة قضائية من جهة ثانية؛ سيجعل العملية برمتها في كثير من الأحيان فارغة من المضمون وهدرا للجهود. وإذا أضفنا إلى ذلك، الصعوبات التي يفرضها اشتراط توزع أعضاء لجنة الملتمس على ثلث جهات المملكة على الأقل، ما يعني أن غالبية الجمعيات لا تستطيع أن تتحول، بحكم طغيان الطابع المحلي على اشتغالها، إلى لجان ملتمسات، فإننا نكون حتما إزاء عقلية تحكمية تتهيب من جرأة المجتمع المدني.
وفي موضوع تقديم العرائض إلى السلطات العمومية، نلاحظ أن اللجنة أحالت تنظيم مسطرتها إلى القوانين التنظيمية للجهوية المتقدمة. وباستحضار مقتضيات القانون التنظيمي رقم 64.14 المتعلق بتحديد كيفيات ممارسة الحق في تقديم العرائض إلى السلطات العمومية، والمقتضيات ذات الصلة التي تضمنتها القوانين التنظيمية للجماعات الترابية، نسجل ما يلي:
– لا ترتب هذه المقتضيات أية التزامات قانونية على السلطات العمومية بشأن تعاطيها مع العرائض التي تتلقاها من الجمعيات ما عدا تعليل قراراتها بالرفض ودون أن تضمن للمعترضين حق الطعن في هذه القرارات؛
– إن اشتراط مضي ثلاث سنوات على التأسيس القانوني للجمعية من أجل التمتع بحق تقديم العريضة تشكل مساسا بحق هذا الصنف من الجمعيات في المشاركة في الحياة العامة، وتمييزا غير مبرر ضدها؛
– إن إحالة التحديد الدقيق للوثائق الواجب إرفاقها بالعرائض التي تقدمها الجمعيات على نص تنظيمي إذا أضيف إليه اشتراط أن تعمل الجمعيات طبقا للمبادئ الديمقراطية لأنظمتها الأساسية) بهذه الصيغة الفضفاضة يمكن أن يشكل مدخلا لرفض التعامل مع العرائض التي تقدمها بعض الجمعيات، كما أنه من زاوية أخرى، يعد تدخلا غير مبرر في عمل الجمعيات.
وفيما يتعلق بآلية التشاور العمومي، التي تعتبرها اللجنة الآلية الفضلى لتفعيل الديمقراطية التشاركية، وتعزيز انخراط المواطنين في الشأن العمومي، سجلنا أن القوانين التنظيمية للجماعات الترابية قد أوكلت تشكيل ونظام اشتغال هيئات التشاور العمومي للأنظمة الداخلية لمجالس هذه الجماعات؛ وهذا لا يخدم حداثة التجربة في ظل إرث قوي من الاستبعاد الاجتماعي والسياسي. وعلاوة على ذلك، نعتقد أن التمسك بعبارة “التشاور العمومي” عوضا عن عبارة أقوى دلالة على إرادة “الاشراك الفعلي” في رسم وتقييم السياسات العمومية ينبئ عن تصور قاصر للدور المطلوب من الجمعيات في إدارة الشؤون العامة؛ وهو التصور الذي تعكسه بجلاء مقتضيات القوانين التنظيمية للجماعات الترابية.
إن هذا التصور يعتبر الخيط الناظم لتوصيات اللجنة. وفي هذا الإطار، تؤكد أن الهدف من آليات التشاور هو تمكين السلطات العمومية من الإنصات والتواصل وتبادل المعلومات مع المواطنين ما يعني المراد من الديمقراطية التشاركية هو مجرد الانصات وليس الإشراك الفعلي للمواطنين والمجتمع المدني في القرار العمومي الذي يتطلب تقاسما حقيقيا للمعرفة والسلطة والمسؤولية.
وثاني ملاحظة يمكن تسجيلها بهذا الخصوص تتمثل في وجود توجه نحو احتواء المجتمع المدني والانتقال به من موقع القوة الاقتراحية القائمة على استراتيجية الضغط على السلطات العمومية من خلال التعبير عن مطالب ومصالح الفئات التي تمثلها مؤسساته، إلى موقع المتعاون المعني بالمساهمة في تخفيف الضغط على السلطات من خلال تقليص كلفة القرار الحكومي. ومما يزكي هذا الاستنتاج:
أ- تأكيد اللجنة على أن التشاور العمومي ينبغي أن يندرج ضمن منظومة أخلاقية وقانونية، حتى يتسنى له أن يؤدي وظيفته باعتباره آلية تشاركية تساهم في تقليص كلفة القرار الحكومي، وتمده بالشرعية اللازمة. فأية شرعية أخرى غير التسويغ تطلبها المؤسسات المفترض فيها أنها منتخبة ديمقراطيا؟
ب- ضمن جملة المبادئ التي ينبغي أن يقوم عليها التشاور العمومي، تشدد اللجنة على مبدإ التكامل بوصفه يساهم في استبعاد النزعة الخلافية والتنازعية التي تطبع أحيانا التفاعل بين المنظمات المدنية وبعض مؤسسات الدولة). فهل تريد اللجنة أن يتحول المجتمع المدني إلى موقع المتماهي مع السياسات الحكومية والمدافع عنها؟ إن وظيفة المجتمع المدني نقدية بالأساس وإذا تخلى عن هذه الوظيفة فقد معناه وأصبح أداة في يد الدولة.
ت- فيما يخص هيئات التشاور العمومي الجهوية والمحلية، دعت اللجنة المؤسسات العمومية لتحفيز وتشجيع خلق مجالس الأحياء واللجان المحلية للإعلام واليقظة وذلك بالموازاة مع تعزيز آليات التشاور العمومي المدنية والمواطنة، والتي يقصد بها -حسب تعريف اللجنة- مجموع الآليات والتنظيمات التي يؤسسها المواطنون وجمعيات المجتمع المدني والفاعلون الاجتماعيون، من أجل تأطير وتنظيم مشاركتهم في السياسات والقرارات العمومية. فما الذي يستدعي تدخل السلطات العمومية في خلق مجالس الأحياء واللجان المحلية ما دام أن هناك مجتمعا مدنيا قائما على المبادرة الحرة ويمكن أن يضطلع بهذه المهمة في استقلالية عن المؤسسات الرسمية؟ وأي منتوج ينتظر أن يسفر عنه تدخل المؤسسة الرسمية في مجال قوامه المبادرة الحرة والاستقلالية عن الدولة؟
يتأكد -إذن- من خلال هذه المناقشة، أن مخرجات الحوار الوطني لم تكن جريئة بالقدر الكافي لتؤسس لمشاركة حقيقة للفاعل الجمعوي في تدبير الشؤون العامة حيث ظلت مترددة في الاعتراف بحق هذا الأخير في المشاركة النشطة في الشأن العام في إطار قوامه التقاسم الحقيقي والفعلي للمعرفة وللسلطة وللمسؤولية. بل إننا نزعم أن هذا الحوار ظل على الدوام مهووسا، بحكم هيمنة التفكير البيروقراطي لغالبية مكونات لجنته القيادية، بهاجس الضبط والتحكم واحتواء الفاعل الجمعوي تهيبا من قدرته على التعبئة ومن قوته الاقتراحية.
خاتمة
يظهر من استعراض المواقف من مبادرة الحوار الوطني حول المجتمع المدني والأدوار الدستورية الجديدة أن هذه الأخيرة لم تكن متوافقا بشأنها ولم تتوفق في تحقيق الإجماع حول مخرجاتها رغم الجهود والأموال التي وظفت فيها. فإذا كانت الحكومة تسوق للتجربة باعتبارها مؤَسَسًة على المقاربة التشاركية، فإنها لم تستطع أن تستوعب ضمن سيرورتها فاعلين رئيسيين في المجتمع المدني استبعدهم منهجها وتحفظوا على مخرجاتها.
وإذا تجاوزنا هذا التباين في المواقف، فقد أظهر تشريحنا لتوصيات الحوار على ضوء المبادئ الدولية لحرية العمل الجمعوي أن هذه الأخيرة لم تستطع أن تستجيب لمتطلبات هذه المبادئ حيث ظلت متهيبة أحيانا ومترددة أحيانا أخرى. وهذا ما يدعم ما ذهبنا إليه من أن هذه المبادرة ظلت مهووسة باحتواء الفاعل الجمعوي وتوظيفه أكثر من سعيها لتحريره. ولعل تصاعد التشكيك في نشاط بعض الجمعيات وتضييق الخناق على بعضها مباشرة بعد إسدال الستار عن المبادرة، في وقت تغدق فيه الأموال على جمعيات محسوبة على السلطة، يزكي هذا الطرح. فهل سيظل المجتمع المدني المغربي أسير استراتيجية الاحتواء التي تنهجها الدولة؟ أم أن سياق الأحداث ستدفع في اتجاه إعادة ترتيب الأوراق؟
[2] اللجنة الوطنية للحوار الوطني حول المجتمع المدني والأدوار الدستورية الجديدة، مسودة مشروع قانون الجمعيات؛ الموقع الإلكتروني للوزارة المكلفة بالعلاقات مع المجتمع المدني؛ أخر زيارة بتاريخ: 3/5/2016.\
[3] التقرير، ص: 77.\