ما ندب ووجب في شهر رجب

Cover Image for ما ندب ووجب في شهر رجب
نشر بتاريخ

بين يدي الموضوع

قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا. (الفرقان 62). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن لله في أيام الدهر نفحات فتعرضوا لها، فلعل أحدكم تصيبه نفحة فلا يشقى”. وقد خرَّج ابن الدنيا والطبراني وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: “اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم، ويؤمن روعاتكم” 1.

وعن محمد بن سعيد قال: لما مات محمد بن سلمة الأنصاري، وجدنا في ذُؤَابَة سيفه كتابا: “بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن لربكم في بقية دهركم نفحات فتعرضوا له، لعل دعوة أن توافق رحمة فيسعد صاحبها سعادة لا يخسر بعدها أبداً” 2.

ونفحات جمع نفحة، وهي كما عرفتها كتب اللغة: نَفَحَ الطيبُ: انتشرت رائحته، والنفحة الطيب الذي ترتاح إليه النفس، والعطية.

وفي مقاييس اللغة: “نفح” النون والفاء والحاء: أصل يدل على اندفاع الشيء أو رفعه، ونفحت رائحة الطيب نفحا انتشرت واندفعت ولهذا الطيب نفحة طيبة ثم قيس عليه.

ومعنى نفحات الله تعالى عطاءاته وهباته العظيمة، فهناك عطاءات معنوية يكرم الله بها عباده المقبلين عليه فتعمهم رحمة الله وسكينته وطمأنينته وإيمانه وإحسانه ويقينه، فيفيض على قلوب عباده من فضل عطائه الإيماني الإحساني فيشبع تلك القلوب المقبلة المتعرضة للخيرات بمزيد من الإيمان واليقين والسكينة والطمأنينة والبركة والتوفيق ومن الأجر الذي لا يعد ومن علو الدرجات التي لا تحد.

وهناك عطاءات مادية يلمسها المؤمن في توفيق الله وبركته في الأرزاق والأوقات والأولاد وغير ذلك سبحان الله.

وقال الشيخ المناوي في فيض القدير: “أي اسلكوا طرقها حتى تصير عادة وطبيعة وسجية، وتعاطوا أسبابها رجاء أن يهب من رياح رحمته نفحة تسعدكم”.

وليست للنفحة وقت معلوم بل هي مبهمة في مواسم الخيرات والأوقات الفاضلة، فحري بالمؤمن أن يعزم النية ويشد العزم للتعرض لها في كل أوقات الطاعة ويزيد الهمة في النوافل وأوقات الذكر حتى تراه في كل وقت يكثر التعرض، فهو إما في عبادة أو طاعة أو ذكر أو استغفار، أو تلاوة للقرآن أو في عمل خيري أو دعوي، أو في موقف جهادي…

ومن مواسم الخيرات يأتي شهر رجب بما يحمل معه من خيرات وبركات لا تنكر، وهو من أشهر الله الحرم، وقد اعتاد الناس أن يخصوه بالصوم والعبادة والتهيؤ لرمضان المبارك، وفي جانب آخر يتصيد كثير من الناس هاته المواسم فيكثرون النكير على كل من يريد الطاعة والعبادة والصوم في هذا الشهر المبارك ينزعون منه كل فضيلة ليتركوه أقل من الأشهر الأخرى، دفعهم إلى هذا إنكار بعض البدع المتعلقة به كغيره، فنكروا على كل شيء، لذا كان حريا بنا أن نوضح الواضح حتى لا يحرم أحد نفسه من فضل هذا الشهر.

تعريف رجب

يقال رَجَبَ الرَّجل رَجَباً فزع. ورَجَبَ يَرْجبُ اسْتَحْيَا. ورَجَبَ الرجل رجَباً ورَجَبَهُ يَرْجُبُهُ رَجْباً ورُجُوباً ورَجَّبَهُ وتَرَجَّبَهُ وأرْجَبَهُ كلَّهُ هَابه وعَظَّمَهُ، فهو مَرجُوبٌ. وانشد شمر:

… أحمد ربّي فَرْقاً وأرْجُبه

أي أعظمه ومنه سمي رجب. وَرَجِبْتُ الشيء: هِبْتُهُ ورَجَّبْتُهُ عظَّمْتُهُ. ورجبٌ شهر سموه بذلك لتعظيمهم إياه في الجاهلية ولا يستحلون القتال فيه.

ورجب هو الشهر السابع في ترتيب الشهور العربية. قال تعالى: إنَّ عِدَّةَ الشُّهور عندَ اللهِ إثنَا عَشَر شهراً في كتَابِ اللهِ يَوْمَ خلقَ السَّمَاوَات والأرض. [التوبة 32]

وأخرج الصحيحان من حديث أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع فقال في خطبته: “إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض”.

وبهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع ما كان رائجاً عند العرب من اللعب بالشهور تقديماً وتأخيراً حسب مصالحهم بعد اتفاقهم على جعل أربعة أشهر محرمة ومعظمة لا يغيرون فيها على بعضهم البعض ويحرمون فيها القتل وسفك الدماء. ولكنهم بعد ذلك اخترعوا لعبة أخرى وهي النسيء ومفادها اللعب بالشهور القمرية.

فجاء الإسلام فحافظ على هيبة هذه الأشهر وأكد عليها وبينها: “السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان”.

وإنما خصَّصها بالذكر لأنها التي كان يتلاعب بها العرب، وزاد في التعيين في رجب لأن التلاعب فيه كان أكثر، ولأنه وقع منفرداً وربما أخروه إلى شعبان فوجب التبيين.

أسماء رجب

ذكر بعضهم أن لشهر رجب أربعة عشر إسماً:

  • شهر الله. وإنما ورد ذلك في حديث ضعيف
  • رجب.
  • ورجب مضر. وإنَّمَا أَضَافَ الشَّهْر إِلَى مُضَر لِأَنَّهَا تُشَدِّد فِي تَحْرِيم رَجَب, وَتُحَافِظ عَلَى ذلك أَشَدّ مِنْ مُحَافَظَة سَائِر الْعَرَب، فَأُضِيفَ الشَّهْر إِلَيْهِمْ بِهَذَا الْمَعْنَى.
  • منصل الأسنة: عن أبي رجاء العطاردي قال: (إذا دخل شهر رجب قلنا منصل الأسنة، فلم ندع رمحاً فيه حديدة ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناه وألقيناه.
  • والأصم: لعدم سماع السلاح فيه ولسكون السلاح وقعقعته فيه.
  • الأصب.
  • منفس.
  • مطهر.
  • معلى.
  • مقيم.
  • هرم.
  • قشقش.
  • مبرئ.
  • منفرد.
  • منصل الآلَّة.
  • رجم.
  • الهرم.
  • الحرام.
  • منزع الأسنة.
  • شهر العتيرة.

وقد نظمها في منظومة طريفة صديقنا الدكتور الشاعر عبد الله بن محمود الطويل من القاهرة في ثلاثة عشر بيتا وسماها “كشف العجب، عن أسماء رجب”. وذكرها كذلك الشيخ ابن حجر العسقلاني في رسالته: “تبيين العجب، بما ورد في شهر رجب”.

مكانة الأشهر الحرم

قال تعالى: إن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، مإِنْها أرْبَعة حرم، ذلك الدِّينُ القيم فلا تَظْلِمُوا فيهِنَّ أنفسَكُم (التوبة 35).

قوله: “فلا تظلموا فيهن أنفسكم” فسروا الظلم بأنه فعل المعاصي وترك الطاعات، لأن الله تعالى إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة. وإذا عظمه من جهتين صارت حرمته متعددة، فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح.

قال قتادة: “العمل الصالح أعظم أجراً في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن”. وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، إلا أنه هنا وقع في زمن فاضل ومعظم، لأن الطاعة والمعصية تتضاعف بحسب الزمان والمكان.

ورجب شهر من الأشهر الحرم له مكانته وفضله، وقد اعتاد الناس على الإكثار من فعل الخير والإجتهاد في الطاعات والعبادات فيه، وكل هذا مشروع ومندوب ومحبوب.

ولا تجد أمراً مثل هذا من أمور الدين إلا وتجد من غال فيه ومن أجحف ومن أراد أن يفند أمراً فأتى على الأخضر واليابس، وعليه فلا محيد من الرجوع إلى صواب السنة لنرى ما لرجب وما عليه وما المسموح به وما الممنوع.

وحتى لا يغيب عنا الواقع وفقهه لذا سنصم آذاننا عن بعض الأشياء التي كانت تفعل في رجب واندثرت مع الأيام، فلا فائدة من إحياء شيء والتكلم عن شيء مجهول عند الناس.

الصلاة في رجب

لم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا يصح، وهذه الصلاة وكيفيتها بدعة عند جمهور العلماء، ولا شك أنها من فعل الشيعة لأن طريقتها وأدعيتها توحي بذلك.

ولكن لا يمنع هذا المسلم من استكثار الخير والطاعة في هذا الشهر والإكثار من النوافل في جميع أيام الشهر ولياليه، لأنه ليس هناك دليل على المنع وإنما المنع سببه تخصيص يوم بعينه بنية بعينها وبكيفية بعينها رجاء ثواب مخصوص، وهذا ما لا يكون إلا بنص في المسألة.

 الصيام في رجب

نعم أنه لم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، ولكنه كذلك لم يصح عنه أيضاً المنع، ليبقى الأمر مباحاً حسب القاعدة: “الأصل في الأشياء الإباحة”. وليسارع المؤمن ويبادر للخير وللصوم ولاسيما أن كثيرا من الأخيار الأطهار من التابعين والسلف الصالح من هذه الأمة جعلوا من رجب وشعبان محطات للإستعداد لرمضان المبارك، فكان رجب بوابة لهم لرمضان فيه يستعدون بالصيام والقيام وقراءة القرآن.

ورد في صيام الأشهر الحرم حديث مجيبة الباهلية عن أبيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “صم من الحرم واترك” قالها ثلاثاً. وهذا الخبر ضعيف ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى.

وما جاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب. ضعيف كذلك. ولكن الأمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له قوم يصومون رجباً فقال لهم أين هم من شعبان؟

وما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه كان يضرب أكف الرجال في صوم رجب حتى يضعوها في الطعام وأبا بكر أنه رأى أهله يتهيؤون لصيام رجب فقال لهم: أجعلتم رجباً كرمضان. لأن نهيهم كان متجهاً لمن يصوم شهر رجب كله، لذا قال: أجعلتم رجباً كرمضان؟

وهذا ما جاء موضحاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يكره أن يصام رجب كله، وكان ابن عمر يرى أن يفطر منه أياماً وكان هذا دأب مجموعة من الصحابة والتابعين.

قال الإمام الشافعي رحمه الله: “أكره أن يتخذ الرجل صوم شهر يكمله كما يكمل رمضان”. وهذا الحكم ينصب على سائر الشهور سوى رمضان، لأن صومه بأكمله فريضة فيجب التمييز بين الفريضة والنافلة.

قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى: “وتزول كراهة إفراد رجب بالصوم ـ يعني بأكمله ـ بأن يصوم معه شهراً آخر تطوعاً، عن بعض أصحابنا مثل أن يصوم الأشهر الحرم أو يصوم رجب وشعبان.

وقد كان بعض السلف الصالح يصوم الأشهر الحرم كلها، منهم ابن عمر والحسن البصري وأبو إسحاق السبعي وقال الثوري: “الأشهر الحرم أحب إلي أن أصوم فيها”.

وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: “ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل شهراً قط إلا رمضان”. ومما يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يديم الصوم في كل شهر ولا يفطر إلا أياماً معدودات.

فدعوى بعض إخواننا أن صيام رجب بدعة منكرة وأنه لا أجر ولا ثواب فيه خال من المنطق وصواب السنة الكريمة، ولعل غرضهم أن يدفعوا بعض البدع فعمموا النهي وجاروا في الحكم. لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم الإثنين والخميس من كل شهر فهي ثمانية أيام، وكذلك الأيام البيض فهي ثلاثة أيام، والمجموع إحدى عشر يوماً ثابتة سواء في رجب أو غيره من شهور السنة، أضف إليها ما كان يزيده عليه الصلاة والسلام على هذه الثوابت الثابتة بالأدلة الصحيحة.

ـ اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان. يستأنس بهذا الخبر في فضائل الأعمال لضعفه فقد خرجه الإمام أحمد وضعفه الشيخ الألباني وقال بن رجب: روي عن أبي إسماعيل الأنصاري أنه قال: لم يصح في فضل رجب غير هذا الحديث. وفي قوله نظر فإن هذا الإسناد فيه ضعف.

وافعلوا الخيرَ لعلكم تفلحون. قاعدة عامة تطلب من المؤمن أن يبادر للعمل الصالح وفعل الخيرات ما دام ليس هناك نهي صريح أو تقييد بوقت معين، فيجب أن نلتزم به وألا نزيد عليه.

قال ابن رجب: شهر رجب مفتاح أشهر الخير والبركة، قال أبو بكر الوراق البلخي: شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر السقي للزرع، وشهر رمضان حصاد الزرع.

وهو شهر دعوة وجهاد كما أن منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة وتربية وجهاد خطوات لا تنفك إحداهن عن الأخرى، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يخطو خطوة إلا وهو يستحضر هاته العزائم الثلاث، ففي رجب كانت غزوة والتي سماها القرآن ذي العسرة، وكانت آخر غزواته صلى الله عليه وسلم.

وفي رجب كانت هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة. وتوفي النجاشي في رجب وصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة صلاة الغائب.

وكانت فيه معجزة الإسراء والمعراج في أصح الأقوال. وفتحت فيه دمشق على يد القائدين أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد رضي الله عنهما.

وكانت فيه كذلك معركة الزلاقة في الأندلس والتي انتصر فيها المسلمون بقيادة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين.

وانتصر في رجب المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين وتم فتح بيت المقدس وصليت أول جمعة في القدس عقب التحرير في رجب نسأل الله تعالى أن يحرره من اليهود الغاصبين وينصر المجاهدين آمين

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.


[1] أخرجه البيقهي في الشعب وحسنه الألباني في الصحيحة لشواهده.
[2] رواه الطبراني.