قال صلى الله عليه وسلم “أنا دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى بن مريم”.
لم يبعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فجأة، بل تمّت البشارة بقدومه منذ عصور وعصور، فقد كان العالم يحتاج إليه وينتظره.
جاء استجابة لدعوة خليل الله سيدنا إبراهيم رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وتصديقا لبشارة كلمة الله سيدنا عيسى وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ.
لذلك لم تكن بعثته صلى الله عليه وسلم حدثا عاديا مر عبر أبواب الزمن، بل كانت لحظة كونية انتظرها الأزل طويلا ليسلمها إلى الأبد الدائم. وببعثته ولد الكون من جديد، وأزال عنه ظلام العدم، وفتح عينيه من إغماءة الفناء. أرسله الله رحمة مطلقة لقومه ولزمانه ولمن يجيئ بعدهم من أقوام وأزمنة إلى يوم الدين.. كان ولم يزل وسيظل رحمة للعالمين. وهل هناك رحمة أوسع من قلب نبي قال عنه الله بالمؤمنين رؤوف رحيم.
قال له أحد الصحابة: “يا رسول الله إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان، فكنا نقتل البنات.. وكانت عندي ابنة لي، فدعوتها إلي فجاءت مسرورة بدعوتي لها، ومشينا حتى إذا أتينا بئرا قريبة فأخذت بيدها ورميتُ بها في البئر وهي تقول يا أبتاه يا أبتاه!”.. فبكي رسول الله حتى تقاطر دمعه.
كانت الدنيا ظلاما دامسا قبل بعثته. لكن بعض الناس كانوا يتهامسون سرا ويبشرون باقتراب ظهور نبيّ جديد.. لم يكن من ينتظره ويبشر بقدومه قلة، بل كانوا كثيرين..
زيد بن عمرو بن نُفَيْل واحداً منهم، مست قلبه نسمة علوية ونفحة ربانية فتحت مصاريع قلبه لاستقبال الحق فقال “إنني أعرف أن ديناً جديداً قد أطلّ، ولكني لا أعرف إن كنتُ أدركه أم لا”.
هجر الأصنام ذاكراً أنها لا تضر ولا تنفع لكنه لم يكن يدري الإله الذي آمن به، ولا يدري كيف يعبده.
ويروي لنا أحد الصحابة وهو عامر بن رَبيعة ما يأتي: سمعت زيد بن عمرو بن نُفَيْل يقول: “أنا أنتظر نبيّاً من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه. وأنا أومن به، وأصدّقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيتَه فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نَعْتُه حتى لا يخفى عليك.” قلتُ: هلمّ! قال: “هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينَه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه. ثم يُخرجه قومه منها، ويَكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب، فيظهر أمره. فإياك أن تخدع عنه، فإني طُفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم. فكان من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعتّه لك، ويقولون لم يبق نبي غيره”.
قال عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول زيد بن عمرو، وإقرائه السلام فرد عليه السلام وترحم عليه وقال: “رأيتُه في الجنة يسحب ذُيولاً”.
كانت البشارة واضحة، ارتاح لها قلب زيد. عاش حياته يتلمس بعثة النبي ويبحث عنه في وجوه الكبار والصغار وفي حكايات القادمين للطواف بالكعبة.
تحكي عنه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، فتقول، لقد شاهدت زيد بن عمرو شيخًا كبيرًا ظهره مسند إلى ظهر الكعبة ويقول؛ اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكنني لا أعلمه، ثم يسجد طويلاً.
سمعه الناس يقول بينما يلفظ أنفاسه حين قتله القوم: (اللهم إن كنت حرمتني صحبة نبيك فلا تحرم منها ابني سعيداً). وقد أدرك ابنه سعيد بن زيد الإسلام وأسلم مبكراً فكان من السابقين الأولين، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة.
جاء ابنه سعيد بن زيد رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي كان كما رأيت وكما بلغك، فاستغفر له، قال: “نعم، فإنه يكون يوم القيامة أمة وحده”.
ومضت دعوة النبي. وانغرست في الأرض ولعل أعظم تقدير ناله الرسول كان قول رب العزة عنه إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما. ثم انقطع الوحي من السماء، وبقيت بشارته صلى الله عليه وسلم لأمته بالنصر والتمكين، وإن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار.