في العديد من المحاضرات والندوات أفاجئ الجمهور بسؤال قد يبدو غريبا ومستفزا، وقد لا يخطر ببال الكثيرين، ماذا لو لم تكن فلسطين ومحنتها ونكبتها وجرحها النازف؟ هل سيكون العالم بهذا الشكل؟ وهل سيكون العرب والمسلمون بهذا الوضع؟
غالبا ما كانت الإجابات تتجه إلى منحى، يؤكد أن عدم زرع المشروع الصهيوني في فلسطين، وعدم حدوث نكبة 1948 كان سيُغيّر جذرياً موازين القوى والسياسات في الشرق الأوسط، وأن خريطة الشرق الأوسط الجيوسياسية كانت ستبدو مختلفة، وربما كان العرب والمسلمون سيركزون أكثر على بناء دولهم والتنمية والديمقراطية بدلاً من الصراع المستمر، ولم تكن لتتشكل حركة المقاومة الفلسطينية، ولا كانت ستنشأ محاور إقليمية تتصارع حول هذه القضية، وكان غياب إسرائيل سيغير موقف الولايات المتحدة وأوروبا من المنطقة، كما كان سيخفف من حدة التوتر بين الغرب والعالم العربي الإسلامي، باختصار شديد، سيكون العالم أكثر سلاما، وأقل توترا، والمنطقة أكثر استقرارا.
لكن عمق الجواب عن السؤال ومنحاه الثاني، هو ماذا تعلمنا هذه النكبة المزمنة؟ وماذا تتعلم الأمة وأجيالها منها؟ ألم تكن فلسطين مدرسة مفتوحة نتعلم منها معاني الهوية وقيم الانتماء، ودروس الرجولة والفداء والصمود والبقاء؟ واختبارا عمليا لإنسانية العالم وضميره ومنظومة قيمه؟
في بداية المقال أشير إلى أن “لو” هذه، هي تعليمية استشرافية استفسارية، وليست “لو” الاعتراضية المذمومة، المنهي عنها في قول رسول الله ﷺ: “احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا، وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان” وهو ما ضرب الله لنا عليه الأمثال نهيا كقوله: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا.
1-فلسطين مدرسة الأجيال
علمتنا فلسطين أن المقاومة ليست فعلاً ظرفياً بل موقفاً وجودياً، في خيم اللاجئين، في الزنازين، في شوارع القدس وغزة ونابلس، تشكلت معانٍ جديدة للصبر، للإيمان، للكرامة، من انتفاضات الحجارة إلى صواريخ القسام، برهنت فلسطين أن الإنسان حين يُحرم من كل شيء، يبقى قادراً على صناعة المعنى والمقاومة. قال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ [الشورى: 39]
لقد تحوّلت فلسطين إلى فضاء لتعليم الأجيال أن الحق لا يُقاس بالقوة، وأن احتلال الأرض لا يشرعن الاحتلال، وأن التاريخ لا يُكتَب بمن يملك السلاح فقط، بل بمن يملك الرواية والذاكرة.
2-فلسطين جرح وابتلاء
فلسطين جرح، لا لأن شعبها ضحية فقط، بل لأنها كشفت عمق التمزق في العالم العربي والإسلامي، وكشفت كذلك زيف النظام العالمي الذي يُشرّع الاحتلال ويغض الطرف عن جرائم الحرب. هذا الجرح تحوّل إلى ابتلاء وامتحان، للأمة ولأفرادها، وللنخب وللشعوب. قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ \[آل عمران: 142]
في امتحان فلسطين، سقطت أنظمة، وانهارت شعارات، وتكشفت مساحات واسعة من الخيانة والتواطؤ. لكنها كانت أيضاً امتحاناً للإيمان الجماعي، للإرادة، ولقدرة الشعوب على حمل القضايا الكبرى، رغم التضييق والتشويه.
3-فلسطين ومشروعية الجهاد
فلسطين ترسخ مشروعية الجهاد بمعناه القتالي في عصر الهيمنة، حيث لم يعد الجهاد مفهوماً مغترباً عن الواقع أو أداة للعنف المعزول، بل دفاعاً مشروعاً عن الأرض، والحق، والهوية، في مواجهة استعمار استيطاني مدعوم من القوى الكبرى. إنها المثال الحي على شرعية النضال المسلح حين تغلق السياسة أبوابها وتُغتال العدالة الدولية، وفلسطين هي المكان الوحيد في العالم الذي لا خلاف فيه حول شرعية السلاح ومشروعيته، بنص القوانين الدولية والقرارات الأممية، ولولا فلسطين لمات مفهوم الجهاد في الأمة. قال تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190]
4-فلسطين قبلة وبوصلة جامعة
وسط الفوضى والانقسامات، بقيت فلسطين رمزاً لوحدة الأمة، قضية يتفق حولها المختلفون، وبوصلة تعيد ترتيب الأولويات. في لحظات الصدق، تتحول فلسطين إلى رابطة روحية و سياسية تتجاوز الحدود والهويات الفرعية، وتُعيد تعريف مفهوم “الجماعة” ككيان قيمي يتجاوز التنظيم.، وترسخ مفهوم الأمة رغم التشرذم والتفتت، فالمصير مشترك والتهديد موحد: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92]، فكما يؤكد الإمام ياسين رحمه الله: “لا تناقض إذا بين النوايا المعلنة منذ أربعة عقود ونيِّف وبين التطبيقات والإجراءات العالمية الفعلية المتجلية في طرد العرب من فلسطين، وتثبيت أقدام الشتات اليهودي في فلسطين، ومحرقة بغداد، ومجازر البوسنة والهرسك الرهيبة. وفي التطبيقات العالمية الفعلية الإجرائية منذ أربعة عقود ونيف ما يثبت أن الاستعمار الذي أملى إعلان الحقوق والحريات هو نفس الاستعمار قبل إعلانها، بل هو بعد الإعلان أشد ضراوة.” 1
5-فلسطين كاشفة فاضحة
إن أكبر ما فعلته فلسطين هو كشف زيف الشعارات: شعارات حقوق الإنسان، العدالة، القانون الدولي، والحياد. أمام جرافات الاحتلال وجثث الأطفال وتواطؤ المؤسسات الدولية، لم يبق للغرب إلا خطابه المزدوج سياسة الكيل بمكيالين. وكأن فلسطين خُلقت لتفضح، لا لتُنسى؛ لتكون مرآة يرى فيها العالم صورته بلا مساحيق، وما حدث بعد 7 أكتوبر جعل قيم الغرب وشعاراته تتهاوى تحت أقدام غزة. قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ[البقرة: 11]
وفي هذا السياق كتب الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “خذَلَ الرأيُ العام العالمي مسلمي فلسطين، وطاح شعار “حقوق الإنسان” الذي لا ترتفع صيحاتُه إنْ تكلم اليهود. وخذَلهم إخوانهم المسلمون، عجزا لما هم تحته في مشارق الأرض ومغاربها من معاناة للحكم الجبري القومي اللائيكي.” 2
من المؤكد أنه منذ ما يزيد عن قرن من الزمن، ظلت فلسطين جرحاً نازفاً في جسد الأمة العربية والإسلامية، وموضع اختبار دائم للضمير الإنساني، فهي لم تكن مجرد قضية سياسية أو نزاع إقليمي، بل غدت مدرسةً تتشكل فيها معاني المقاومة، ويتكوّن عبرها الوعي، وتنكشف من خلالها هشاشة الشعارات الأخلاقية التي يتغنى بها النظام الدولي، ففلسطين لم تكن مأساة عابرة، بل قدرٌ تاريخيٌّ كشف ما تحت السطح، وفجر ويفجر أسئلة مصيرية، من قبيل، من نحن، من هم، وما هو جوهر الصراع في هذا العالم. ثم إن فلسطين امتحان مستمر للوعي، للصدق، وللإنسانية ذاتها، وليس الجرح الفلسطيني علامة ضعف، بل شهادة حياة: أن الشعوب لا تموت ما دامت تحمل قضاياها في القلب، وتُعلّم أبناءها أن الحق لا يسقط بالتقادم. قال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [الحج: 40]، ف”قضية فلسطين بداية المواجهة الحاسمة بين الحق والباطل، بين الجاهلية والإسلام. مع الجاهلية تنَبؤٌ يهودي بمملكة صهيون الألفية. ومع الإسلام وعد الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بالنصر المبين، وبالخلافة على منهاج النبوة، وبظهور هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون.” 3