الحمد لله الذي حرم الظلم على نفسه وجعله بيننا محرّما، الحمد لله الذي فضّل الإنسان على كثير من خلقه وجعله مكرّما، أشهد أن لا إله إلاّ هو سبحانه نهى عن الفساد في الأرض وجعله ذنبا معظّما، وأشهد أنّ سيدنا وحبيبنا محمّدا عبده ورسوله أرحم الخلق بالخلق وأشدّهم على المظلوم تألّما، اللهم صلّ عليه وعلى آله وصحبه وعلى من اقتفى أثره استنانا وتعلّما.
وبعد،
كلّما حلّت علينا ذكرى مولد سيد ولد عدنان، إلا وأشرقت أنوار محبّته في الجنان، واشتاقت العيون لرؤية ذاك الحسن الفتّان، فتحركت المشاعر والأحاسيس وهام القلب الولهان فأنطق اللسان وأملى على البنان. فكُتبت المقالات، ونُشرت التدوينات، وأُنشدت الأشعار، وصدحت الأصوات بأعذب الألحان.
وللسنة الثانية على التوالي تأتي هذه الذكرى الغالية وحال الأمّة الإسلامية يمزّق الحشا ويفتّتُ الأكباد، والآلة الصهيونية الوحشية تقتّل الأحفاد والأولاد والأجداد، وغزّة أمام كلّ الدنيا تُباد، فتحدّث فؤاد إلى فؤاد، وهمس في أذنه قائلا: ماذا لو كان فينا اليوم سيد العباد؟
أكان يسكت عن هذا الظلم والفساد؟ …
أكان يكتفي بالتنديد والشجب على رؤوس الأشهاد؟ …
لا والله، وما ذاك له بخلق… بل كان سيقوم بالنصرة والإسناد، ويحثّ على المساعدة والإمداد، ويجمع شمل الأمة لتدحر هؤلاء الأوغاد، وتعيد الأمجاد.
فمن شمائله صلى الله عليه وسلّم نصرة المظلومين ومساندة المستضعفين. وهي خلق أصيل فيه. فقبل بعثته عليه الصلاة والسلام كان كما وصفته أمنا خديجة رضي الله عنها: “إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ” 1.
هو هكذا قبل أن يوحى إليه، وهو هكذا بعد أن أوحي إليه؛ يمقت الظلم والظالمين، ويناصر المظلومين، ويؤازر المستضعفين، ويحرّر المستعبدين، ويطعم الجائعين، ويمدّ يد العون للمحتاجين.
هو هكذا منذ ولادته، يتدفّق رحمة وعطفا، وينبجس رقّة ولطفا؛ يألم لمشهد امرأة كسيرة وشيخ ضعيف، يأسى لكل جرح ونزيف، ويغضب أشدّ الغضب عند كلّ إيذاء وتعنيف.
– شهد عليه الصلاة والسلام حلف الفضول وهو ابن خمسة عشر عاما، وهو حلف تعاقد فيه أصحابه وتعاهدوا على نصرة المظلوم أيّا من كان حتى يردّ إليه حقّه. وفي هذا الحلف قال عمّه الزبير بن عبد المطّلب:
إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا
ألا يقيم ببطن مكة ظالم
أمْر عليه تعاقدوا وتواثقوا
فالجار والمُعترّ 2 فيهم سالم
ولقد كان مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يفخر بشهود هذا الحلف، فقد قال لأصحابه يوما: «شهدتُ حلفَ المُطَيَّبين وأنا غلامٌ معَ عمومتي، فما أحبُّ أنَّ لي حُمْرَ النَّعَمِ وأني أَنكُثُه» 3.
وفي رواية: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى إليه في الإسلام لأجبت» 4.
كان الحلف قبل البعثة في بيئة تغزوها الجاهلية غزوا، ومع ذلك كان هناك شرفاء ذوو مروءة يتألمون لأجل مظلوم ظُلم، أو مستضعف قُهِر، ولا يكتفون بالتنديد، بل يأخذون على يد الظالم بالقوة حتى يردّ الحقّ لأصحابه. وكان مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع أصحاب النخوة والمروءة هؤلاء.
فلئن قال لأصحابه في حجّة الوداع: “خذوا عنّي مناسككم”. فهو هنا حينما أخبرهم عن حلف الفضول كأنّما يقول لهم: خذوا عنّي أخلاقكم، خذوا عنّي دينكم، كونوا مع الحقّ حيث كان، كونوا عونا للمظلوم، وغوثا للمحروم، وسندا للمعدوم، وحائطا منيعا في وجه كلّ جائر غشوم.
– و«قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ إرَاشٍ 5 بِإِبِلِ لَهُ مَكَّةَ، فَابْتَاعَهَا مِنْهُ أَبُو جَهْلٍ بن هشام، فَمَطَلَهُ بِأَثْمَانِهَا. فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَنْ رَجُلٌ يُؤَدِّينِي عَلَى أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ، فَإِنِّي رَجُلٌ غَرِيبٌ، ابْنُ سَبِيلٍ، وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقِّي؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ: أَتَرَى ذَلِكَ الرَّجُلَ – وَهُمْ يَهْزَءُونَ بِهِ، إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِمَا يَعْلَمُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ مِنْ الْعَدَاوَةِ- اذْهَبْ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّيكَ عَلَيْهِ. فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إنَّ أَبَا الْحَكَمِ بْنَ هِشَامٍ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقٍّ لِي قِبَلَهُ، وَأَنَا رَجُلٌ غَرِيبٌ ابْنُ سَبِيلٍ، وَقَدْ سَأَلْتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَنْ رَجُلٍ يُؤَدِّينِي عَلَيْهِ، يَأْخُذُ لِي حَقِّي مِنْهُ، فَأَشَارُوا لِي إلَيْكَ، فَخُذْ لِي حَقِّي مِنْهُ، رحمكَ اللَّهُ. فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: انْطَلِقْ إلَيْهِ، وَقَامَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامَ مَعَهُ، قَالُوا لِرَجُلِ مِمَّنْ مَعَهُمْ: اتْبَعْهُ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُ. فخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَهُ فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، فَاخْرُجْ إلَيَّ، فَخَرَجَ إلَيْهِ، وَمَا فِي وَجْهِهِ مِنْ رَائِحَةٍ، قَدْ اُمتقعَ لَوْنُهُ، فَقَالَ له: أَعْطِ هَذَا الرَّجُلَ حَقَّهُ. فقَالَ: نَعَمْ، لَا يبْرَحْ حَتَّى أُعْطِيَهُ الَّذِي لَهُ. فَدَخَلَ، فَخَرَجَ إلَيْهِ بِحَقِّهِ، فَدَفَعَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ لِلْإِرَاشِيِّ: الْحَقْ بِشَأْنِكَ. فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَقَالَ: جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ أَخَذَ الذي لِي. فجَاءَ الرَّجُلُ الَّذِي بَعَثُوا مَعَهُ، فَقَالُوا: وَيْحَكَ مَاذَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ عَجَبًا مِنَ الْعَجَبِ، وَاللَّهِ إِنْ هُوَ إِلَّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَمَا مَعَهُ رُوحُهُ فَقَالَ: أَعْطِ هَذَ الرجل حَقَّهُ، قَالَ: نَعَمْ لَا يبْرَحْ حَتَّى أُخْرِجَ إِلَيْهِ حَقَّهُ، فَدَخَلَ فأخَرَجَ إِلَيْهِ حَقّه فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. قَالَ: ثم لَمْ يَلْبَث أَنْ جَاءَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالُوا لَهُ: وَيْلَكَ مَا لَكَ فوَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: وَيْحَكُمْ وَاللَّهِ ما هُوَ إِلَّا أَنْ ضَرَبَ عليّ بَابي وَسَمِعْتُ صَوْتَهُ فَمُلِئْتُ رُعْبًا، ثم خَرَجْتُ إِلَيْهِ وَإِنَّ فَوْقَ رَأْسِي لَفَحْلا مِنَ الْإِبِلِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَامَتِهِ وَلَا قَصَرَتِهِ وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، وَاللَّهِ لَوْ أَبَيْتُ لَأَكَلَنِي [6] وَفِي رِوَايَةٍ – فَقَالُوا لِأَبِي جَهْلٍ: فَرِقْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ كُلَّ هَذَا؟ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ مَعَهُ رِجَالًا مَعَهُمْ حِرَابٌ تَلَأْلَأُ – قَالَ أَبُو قَزَعَةَ فِي حَدِيثِهِ -: حِرَابًا تَلْمَعُ وَلَوْ لَمْ أُعْطِهِ لَخِفْتُ أَنْ يَبْعَجَ بِهَا بَطْنِي 6.
اقتصّ صلى الله عليه وسلّم لكافر من كافر. إذ إنّ نصرة المظلوم لا تخصّ المؤمنين فقط، بل كلّ مظلوم على وجه الأرض نحن مطالبون بمآزرته ومساندته حتى تنكشف عنه الغمّة، وتزول عن سمائه الظلمة.
– وكان صلى الله عليه وسلّم يتألّم أشدّ الألم حينما كان أصحابه رضوان الله عليهم يؤدّون ضريبة إسلامهم ومخالفتهم لدين أسيادهم، وهو غير قادر على نصرتهم والدفع عنهم. فكان يخرج إلى الرمضاء -وبلال وعمّار وياسر وسمية وخبّاب وغيرهم يصهرون في الشمس ويعذبون أشدّ التعذيب- فينظر إليهم في حنو ويواسيهم قائلا: “صبرًا آل ياسرٍ، فإنَّ موعدَكم الجنةُ” 7، وكانوا إذا جاءوه محبطين يشكون إليه شدّة الإيذاء وبشاعة العسف، ثبّتهم وبشّرهم بالمستقبل المشرق الذي ينتظرهم بعد تجاوز المحنة والنجاح في امتحان التمحيص والتمييز -وقلبه يتقطّع أسى ألاّ يستطع الذود عنهم-: لقد “كانَ الرَّجُلُ فِيمَن قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فِيهِ، فيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمْرَ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ..” 8.
بأبي وأمّي أنت يا رسول الله؛ ما أعظمك! وما أحلمك! وما أرحمك!
فَـإِذا سَـخَوتَ بَلَغتَ بِالجودِ المَدى
وَفَـعَـلـتَ مـا لا تَـفعَلُ الأَنواءُ
وَإِذا عَـفَـوتَ فَـقـادِراً وَمُـقَدَّراً
لا يَـسـتَـهـيـنُ بِعَفوِكَ الجُهَلاءُ
وَإِذا رَحِــمـتَ فَـأَنـتَ أُمٌّ أَو أَبٌ
هَـذانِ فـي الـدُنيا هُما الرُحَماءُ
وَإِذا غَـضِـبـتَ فَإِنَّما هِيَ غَضبَةٌ
فـي الـحَـقِّ لا ضِغنٌ وَلا بَغضاءُ 9
– ولما دخل صلى الله عليه وسلّم المدينة عقد معاهدات مع القبائل اليهودية الثلاث -التي كانت مستقرة بالمدينة- لتكوين مجتمع موحد ومتعاون يضمن العيش الكريم ويحمي المدينة من الأطماع الخارجية. لكن اليهود هم اليهود؛ خبث ومكر ونقض للعهود. فقد كانت أمنيتهم أن ينهزم المسلمون في غزوة بدر، فيعودون إلى المدينة أذلة ضعافا فيستأصلون آنذاك شأفتهم، ويقضوا على ما تبقى منهم، لكنهم خابوا وخسئوا. فزادهم هذا النصر العظيم حنقا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصحبه.
ثمّ إنّ امرأة مسلمة جاءت بجلب لها إلى سوق بني قينقاع فباعته، وجلست إلى صائغ من أجل حليٍّ لها، فجعل اليهودي ومن معه يريدونها على كشف وجهها، فأبتْ، فقام رجل منهم وعمد إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها وهي لا تَشعر به، فلما قامت انكشفَت عورتها، فضحكوا منها، فصاحت، فوثب رجلٌ من المسلمين على اليهودي فقتله، وشدَّت يهود على المسلم فقتلوه، فغزاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمس عشرة ليلة، فنزلوا على حُكْمه، وغنِم المسلمون ما كان لهم من مال، إذ لم يكن لهم أرض ولا نخل، فقد كانوا صاغة، فساروا إلى أذرعات من أرض الشام، فلم يَلبَثوا بها إلاّ قليلًا حتى هلكوا.
من أجل امراة واحدة كُشفت عورتها أعدّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم لهم جيشا وحاصرهم حتى أذعنوا ونزلوا على حكمه، ثمّ أجلاهم عن المدينة. فبالله عليكم كيف كان سيفعل عليه الصلاة والسلام لو رأى ما يحدث اليوم للمسلمات في فلسطين الحبيبة؟
كيف سيكون ردّ فعله وهو يشاهد غزّة قد سوّيت بالتراب؟
ماذا كان سيفعل وبنات المسلمين تتعرضن للتعنيف والاغتصاب، والأطفال قتلى قد تمزقت أجسادهم الغضّة وأمهاتهم تشوى أكبادهم من ألم وعذاب؟
– ومرّ مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بأبي مسعود البدري رضي الله عنه وهو يضرب غلاما له فقال له: “اعْلَمْ، أَبَا مَسْعود، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْك مِنْكَ عليه« فَالْتَفَت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو مسعود: يا رسول الله، هو حُرٌّ لِوَجْهِ الله، فقال: «أَما لو لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ ـ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّار” 10.
– ولمّا رجع المهاجرون من أرض الحبشة سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالَ: “ألا تحدِّثوني بأعاجيبِ ما رأيتُمْ بأرضِ الحبشَةِ، قالَ فِتيةٌ منهم: بلَى يا رسولَ اللَّهِ، بينا نحنُ جلوسٌ مرَّت بنا عجوزٌ من عجائزِ رَهابينِهِم تحملُ علَى رأسِها قُلَّةً من ماءٍ، فمرَّت بفتًى منهم فجعلَ إحدى يدَيهِ بينَ كتفيها ثمَّ دفعَها فخرَّت علَى رُكْبتَيها فانكسَرت قُلَّتُها، فلمَّا ارتفَعتِ التفتَت إليهِ فقالَت: سوفَ تعلَمُ يا غُدَرُ إذا وضعَ اللَّهُ الكرسيَّ وجمعَ الأوَّلينَ والآخِرينَ وتَكَلَّمتِ الأيدي والأرجلُ بما كانوا يَكْسِبونَ، فسوفَ تعلَمُ كيفَ أمري وأمرُكَ عندَهُ غدًا. قالَ: يقولُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: صدَقَتْ صدَقَتْ، كيفَ يقدِّسُ اللَّهُ أمَّةً لا يؤخَذُ لضَعيفِهِم مِن شديدِهِم؟” 11.
تفاعل صلى الله عليه وسلّم مع قصة هذه الراهبة التي تعرّضت للظلم، رغم أنّها ليست على دينه ولا هي بأرضه، واستغل الفرصة ليربي أصحابه على نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وإسناد المستضعف. وكأنّما يقول لهم: إنّكم إن تخاذلتم عن نصرة المظلوم، وتقاعستم عن مساندة المستضعف، فلن يطهركم الله أبدا.
– وحينما جاءته قبيلة خزاعة – وكانت في عقدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعهدِه – تشكو عدوان بني الدئل بن بكر بمساعدة قريش عليهم، قال عليه الصلاة والسلام لزعيمهم عمرو بن سالم الخزاعي: نُصرت يا عمرو بن سالم. وجهزّ جيشا قوامه عشرة آلاف مجاهد وفتح مكّة وانتصر لقبيلة خزاعة.
– ولم يخصّ النبي صلى الله عليه وسلّم بنصرته ومساندته الإنسان وحده، بل امتدّت رحمته ومؤازرته لتشمل الحيوان والطير. فقد دخل صلى الله عليه وسلم يوما حائطًا لرجلٍ من الأنصارِ فإذا فيه جملٌ، فلمَّا رأَى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حنَّ وذرِفت عيناه، فأتاه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فمسَح ذِفراه فسكت، فقال: من ربُّ هذا الجملِ؟ لمن هذا الجملُ؟ فجاء فتًى من الأنصارِ فقال: لي يا رسولَ اللهِ، فقال: “أفلا تتَّقي اللهَ في هذه البهيمةِ الَّتي ملَّكك اللهُ إيَّاها؛ فإنَّه شكَى إليَّ أنَّك تُجيعُه وتُدئِبُه” 12.
– ومرّ الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم -وهم في سفر- على حمّرة 13 معها فرخان، فاستغلّ بعضهم فرصة غياب النبي صلى الله عليه وسلّم لقضاء حاجته، فعمدوا إلى الفرخين فأخذوهما. والفَرْخُ هو الصَّغيرُ مِنْ أولادِ الطَّيْرِ، فجاءتُ الحُمَّرةُ فجَعَلتْ تُفرِّشُ 14، فجاء النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: «مَنْ فَجَعَ هذه بولَدِها؟ « أي: مَنْ أَحْزَنَها وخوَّفَها وأحرق قلبها بأَخْذِ صِغارِها؟ “رُدُّوا ولَدَها إليها” 15 أي: أعيدوا لها صغارها وفلذات كبدها. وهذا مِنْ رحمتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونصرته للمستضعف والمظلوم أياّ ما كان وأيّا من كان وحيثما كان. فالظلم ظلم وطعمه مرّ سواء أصاب الإنسان أو مسّ الحيوان.
يا إخوتي؛ بالله عليكم، إذا كانت هذه رحمته ونصرته لعصفورة صغيرة أخذوا فراخها، كيف يفعل إن رأى امرأة ذبحوا صغارها، وقتّلوا زوجها، وخرّبوا بيتها، واحتلوا أرضها، ودمّروا وطنها، وأجْلوا جيرانها؟
ماذا سيفعل إن شاهد على التلفاز أمّا تحمل رضيعها الشهيد وتجري به باكية إلى المشفى علّها تنقذه؟ ماذا سيفعل إن رأى أطراف الصغار متناثرة هنا وهناك وشيخ كبير ميت لا يجد من يدفنه؟ ماذا سيفعل إن رأى قنّاصا خبيثا يصطاد فتى بعدما حصل على بعض الطعام لأهله فأرداه قتيلا والكيس في يده يحمله؟
وكيف سيتصرّف إن رأى تخاذلنا عن نصرة إخواننا، وتقاعسنا عن إسنادهم، وتطبيعنا مع عدوهم، بل وسعي بعضنا لإرضاء الصهاينة بخيانة بني جلدتنا؟
هل كان لينظر إلينا؟ وهل كنّا نستطيع استقباله والنظر إليه؟
واسوأتاه!!! واخجلاه!!!
وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله وصحبه وحزبه.
[2] المعتر هو الزائر الغريب.
[3] أخرجه أحمد (1655)، وابن حبان (4373)، والحاكم (2870) باختلاف يسير عن عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه.
[4] البيهقي، السنن الكبرى، (13080).
[5] قبيلة إراش هي قبيلة قديمة مذكورة في كتب الأنساب، وهي بطن من قبيلة كهلان، من القحطانية.
[6] هذا الخبر رواه ابن إسحاق في “سيرته” (ص 159)، ورواه أبو نعيم في “دلائل النبوة” (ص 210 – 212)، والبيهقي في “دلائل النبوة (192 – 193، ج2).
[7] أخرجه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (1508)، والحاكم (5666)، وأبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (6664) باختلاف يسير. عن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري وتفرد به عن مسلم (3612) عن خبّاب بن الأرت رضي الله عنه.
[9] هذه الأبيات من قصيدة ولد الهدى فالكائنات ضياء للشاعر أحمد شوقي.
[10] أخرجه مسلم (1659)، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري رضي الله عنه.
[11] أخرجه ابن ماجة (4010)، وأبو يعلى(2003)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[12] أخرجه أبو داود (2549) واللفظ له وأحمد (1745)، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
[13] الحمّرة أو قنبرة البادية ويقال له أيضا القبّرة وطائر صغير من الطيور الصحراوية قليلة الطيران تحب الجلوس على الأرض وتبني أعشاشها على الأرض.
[14] أي: تَطيرُ وتُرفْرِفُ فزعًا؛ لفَقْدِ فَرْخَيْها وصَغِيرَيْها.
[15] أخرجه أبو داود (2549) واللفظ له وأحمد (1745)، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.