لم تبد مؤسسة المخزن أي ردات فعل مستاءة من التقرير السنوي لمجلة الإيكونومست البريطانية حول مؤشر الديمقراطية في الوطن العربي، بعد أن وضعت نسختُها الأخيرة المغرب في خانة “الديمقراطيات الهجينة” إلى جانب أنظمة عربية ألفت التجاور على القوائم السوداء للتقارير الدولية. و لعل الجهات السيادية في المغرب تتعاطى باطمئنان مع آليات القياس المعتمدة من جهة لجان الاستطلاع في تقييم الأداء الديمقراطي للدول، من حيث انكبابها على المسح الشكلي للمعطيات والمفردات الديمقراطية في الدول موضوع التقييم, وهي المعطيات التي يستعرضها النموذج المغربي بخبرة وثقة تجعلانه في مبعدة عن المؤاخذة قياسا بالوضع العربي المتردي. لذا نجد التقرير يرتب المغرب على سلم “الديمقراطية” لا على سلم الاستبداد أو الشمولية، وربما يكون هذا منشأ الاطمئنان من جانب مؤسسة المخزن. فهو نظام ديمقراطي بوجه ما. وبما أننا عهدنا في التقارير الدولية ألا تلامس الحقيقة الماثلة بتفاصيلها إلا بمقدار، فإننا سنحاول الاقتراب أكثر من المشهد “الهجين” ونتتبع عناصره الدالة في مغرب ما بعد السابع من أكتوبر.
بعد مائة يوم من تعيين رئيس الحكومة، لا زتال الشحنات السالبة كامنة بأسرارها في معظم زوايا المشهد السياسي المغربي؛ فالمؤسسة التشريعية موقوفة التنفيذ، و الأغلبية الحكومية تبدو مشوشة الملامح حتى في ذهن رئيسها المفترض، فيما تتعطل تبعا لذلك سائر الوظائف الرقابية والتشريعية المعهودة في أي نظام “ديمقراطي”. أما المواكبات الإعلامية والبحثية فهي لا تتعدى وظيفة “تسمية الألوان” بالقدر الذي تتيحه كمية الشعاع الساطع! بعيدا جدا عن ملامسة حقيقة الأشياء ومواجهتها بالأسئلة الحارقة. في ظل مناخ التعطيل السائد والضارب بأقفاله على أبواب “المؤسسات” التي اعتادت تشخيص وظائف السلطات الرقابية أو التشريعية أو التنفيذية، تبرز مؤسسة المخزن في موقع المستحوذ على الصلاحيات، المستفرد بالسلطات، المتمتع بامتياز البت والحسم والتصديق على نحو يحاكي “حالة الطوارئ” بمسحة ناعمة.
ويكفي لاستجلاء ذلك تتبع السلوك السياسي للدولة خلال هذه المئوية المنصرمة للوقوف على طابعه الاستبدادي والاستفرادي في معالجته لعدد من القضايا العارضة أو في توجيهه لكثير من الأوراش الاستراتيجية، وما يوازي ذلك من صمت وعجز بل وتواطؤ من جانب النخب السياسية والمدنية.
1- لا يغيب عن تقدير المتتبعين ذاك السعي الرسمي من قبل الدولة في لجم حزب العدالة والتنمية ودفعه نحو هزائم أخلاقية وسياسية وانتخابية خلال الأشهر الأخيرة لولايته الحكومية. وهو ذات السعي الذي يمضي عازما على الإفشال الصريح للحزب في مشاورات تشكيل الحكومة. ليس من البراءة ولا المصادفة في شيء أن يتقدم زعيم حزب إداري من داخل فلك السلطة باستقالته بعد يومين من يوم الاقتراع، ليفسح المجال رحبا لرجل آخر من رجال الدولة (عزيز أخنوش) ليخوض واحدة من أشرس المعارك في إجهاد رئيس الحكومة ونسف كل مساعيه ودفعه دفعا نحو إشهار فشله. في الجانب الآخر حركت الدولة ملفا آخر تمكنت عبره من كسر الجناح الأيمن المتوقع في الأغلبية الحكومية والذي يمثله حزب الاستقلال، على النحو الذي يقلل من خيارات التوليف ويستجيب للصيغة التي تقبل بها السلطة العليا. ها هو رئيس الحكومة الآن يخوض معركة رد الاعتبار للذات وحيدا، أعزل، راضيا بالعاقبة المرة حتى لو كانت “حبسا” كما عبر ذات يوم. واثقا من جبروت السلطة التي تمسك بالحبل من خلف الستار الأبيض.
2- بنفس تحكمي استبدادي متعال عن كل ضابط، حركت وزارة الداخلية قبل أسبوعين أعوانها في سائر الدوائر الترابية لتنزيل قرارها القاضي بمنع مختلف الأنشطة الإنتاجية والتسويقية للباس “البرقع” من خلال توزيع إشعارات كتبت بلغة تهديدية آمرة في حق مواطنين يمارسون نشاطا مشروعا لا ينص أي قانون على تجريمه، تقضي بضرورة وقف أنشطتهم والتخلص من مخزون البرقع في أجل لا يتعدى 48 ساعة. هل كانت السلطة العليا تعي بخرافية القرار وكفره بكل الأعراف المؤسسية لدولة القانون؟ كان فقط سلوكا استقوائيا متعاليا يستفيد من رصيد الخوف الكامن في نفوس المواطنين من مغبة كسر إرادة سلطات المخزن.
3- في خطوة نكوصية تنضاف لمسلسل ردة المائة يوم، قدمت وزارة الداخلية قائمة بأسماء المناضلين في لجنة التتبع الخاصة بفئة الأساتذة المتدربين للمصالح الإدارية بوزارة التربية الوطنية، قصد استبعادهم من لوائح الناجحين بدعوى حصولهم على موجبات للرسوب. ليس واردا طبعا أن تكون السلطة العليا غير مطلعة على محضر 21 أبريل القاضي بتوظيف الفوج كاملا بعد مسار تكويني يتوج بمباراة تخرج شكلية. وليس غائبا عنها أيضا أن المحضر قد وقعه والي الرباط سلا والتزمت بضمان مخرجاته النقابات إلى جانب المبادرة المدنية. لكن هذه السلطة مكتفية برصيدها الاستبدادي الذي يجعلها في حل من أي التزام أخلاقي مهما اشتدت مواثيقه.
4- بعد التصديق على المرسوم 770-15-2 القاضي باعتماد صيغة التوظيف بالتعاقد في الإدارات العمومية، قامت السلطة العليا بتنزيل الصيغة على مدى واسع في قطاع التعليم ومنحه صيغة الاستدامة، رغم أن المرسوم يحصر اعتماد التعاقد في حال “اقتضت ضرورة المصلحة ذلك” وفي حال غياب الموظفين ذوي الكفاءة المطلوبة. ولئن كان الاستقرار الوظيفي شرطا جوهريا في جودة الأداء التربوي واستدامته، فإن المرسوم قد سلب المدرس، بمقتضى مرسوم التعاقد، صفة الموظف واستبدلها بصفة “أعوان متعاقدين ذوي خبرة، للقيام بوظائف ذات طابع مؤقت وعرضي”. يكفي التأمل في هذه الصيغة القانونية القدحية لنتوقع ملامح المدرسة العمومية التي يخطط لها القائمون على فرض قوانين استبدادية كهذه، في مناخ من الصمت والغياب والتعطيل.
5- بعدما اعتقد كثيرون أن الفضاء الافتراضي يوفر مساحات رحبة للتعبير عن الآراء و المواقف المختلفة بعيدا عن سطوة القانون ومساطره، قضت المذكرة الوزارية المشتركة بين العدل والداخلية بملاحقة مدونين بمقتضى قانون الإرهاب وفصوله الثقيلة. وقد تم تبعا لذلك اعتقال عدد منهم و متابعتهم بتهمة “الإشادة بفعل إرهابي”. وقد أدرك عدد من المدونين والنشطاء أن الجديد في الأمر ليس حادث اغتيال السفير في ذاته، بل هو قدرة المخزن على اقتناص الفرصة المواتية لتخترق هذا الفضاء وتخضعه لمساطرها التحكمية الاستبدادية، وأن روح السفير الروسي كانت فقط جسرا للمرور نحو هذا العالم الافتراضي وضمه لدائرة النفوذ والمتابعة المخزنية. وقد صرنا جميعا منذ اليوم تحت طائلة المتابعة بمقتضى هذا القانون أو ذاك.
ربما تفيد هذه العناصر الخمسة في تقدير طبيعة السلطة التي استفردت، على مدى مائة يوم، بكل الصلاحيات أصالة ودون واجهات مؤسسية. وربما تفيد أيضا في ملامسة مؤشراتها الاستبدادية التي برزت على نحو تزامني غير معهود. فقد استطاعت يد المخزن أن تبلغ مبالغ بعيدة أو تضمن مواطئ قدم في دوائر لم تطأها من قبل. وتكفي الإشارة هنا إلى كثافة التحركات التي عرفها المحيط الاستشاري للملك في مختلف القضايا والملفات بدءا من واقعة “الطحن” بالحسيمة، مرورا بمسلسل الانسداد الحكومي وحلقاته، وصولا للقرارات التي عرفها القطاع التربوي ومخرجات الجولة الإفريقية والسياسات الاستثمارية للدولة هنا وهناك. يحدث كل هذا في غياب تام لمؤسسات الرقابة والتشريع إلى أجل غير معلن. وإلى أن يحين ذاك الأجل تبقى دولة المخزن محافظة على رصيدها ضمن قائمة “الديمقراطيات الهجينة”. فيما يراها البعض أنظمة استبداد محض.