جلست الجدة رضية في شرفة بيتها المنظم الجميل متأملة روعة المكان وعظيم صنعة الديان، ولسان قلبها الطاهر يلهج بالذكر والدعاء للوهاب المنان أن يحفظ الذرية ويباركها إلى آخر الأزمان، ويسعف الأمة الغارقة في الحروب والأدران، فهو القادر سبحانه أن يحول الأتراح إلى أفراح ويهون الأحزان، وينصر المقاومة الباسلة في أرض العزة ويخزي الأبالسة الصهاينة ويعز الأوطان.
ذاك ديدنها منذ أن وعت على الوجود، عطاء بلا حدود، ومحبة بلا قيود، وتهمم بآهات الثكالى والأيامى واليتامى، وحرص دائم على الانخراط في مجامع الخير والفضل، وخدمة القريب والبعيد، والصديق والغريب، شعارها ودثارها: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا؛ فما يدريك، فأن يكون العمل الصالح آخر عهد المرء بدنيا الأنام، فهو الفوز ورب السماء، أليس الناس يموتون على ما عاشوا عليه، ويبعثون على ما ماتوا عليه؟
أطلقت نظرها إلى زمن بعيد، وتذكرت أمها التي كانت تنحدر من الريف المغربي؛ أرض الأبطال ورجالات المقاومة الباسلة وجيش التحرير الذي كان لأهلها فيه مواطن أقدام، كيف كانت أمها الحبيبة تربيها على القيم العالية وتقدير خلق الله تعالى والسعي في خدمتهم؛ لم يكن كلامها زُبد ليل تذيبه شمس النهار، بل كان الحال عندها أقوى من المقال، والتربية بالقدوة أكبر من إلقاء الكلام الموجه دون أن يكون له أثر في الواقع اليومي.
تتذكر ما كانت تراه في بيت والديها العامر حينما كانت تجتمع الأسرة في مواطن الخير ومواسم القربات والأعياد ووقت الحصاد، قبل أن تهجم المدنية الزائفة على البيوت، وتقتلع ألفة أصحاب الدار، وتجتث لمتهم.
كان بيتهم قبلة للزوار، موائدهم ممدودة على الدوام للأحباب والأصحاب وسائر أهل الدوار، والفرحة والبشر لا يفارقان محياهم، وقلوب طاهرة وحده الوهاب عالم بما فيها من الأسرار، يقابلون الأحباب والجيران بحب وودّ وإكبار؛ عملا بوصية الأم الحكيمة، ذات الطهر والأنوار، وهي لا تفتأ توجه أولادها إلى أدب المعاشرة والحوار والجوار: “اطلق بشرتك وشد خبزتك”، وإن كانوا فعليا لا يبخلون بشيء مادي ولا معنوي إلا بذلوه دون إقتار.
كانت لمة الأحباب والجيران والخلان تزيد اللقاءات بهجة وفرحة، والاجتماعات راحة وألفة، ديدنهم جميعا بثّ المعروف في كل غدوة ورَوحة، بوجوه شرحة وقلوب سمحة، لم يسوّد الغدر والمكر والإحن والضغائن لها صفحة؛ لمة تزيد الود دون أن تضيع التقدير والاحترام الواجبين للصغير والكبير ولو بإماءة غير محسوبة أو سيء لمحة.
كانت نساء القبيلة تجتمعن لحياكة ثياب العيد أو لتحضير مؤونة العام من المعجنات، أو لغسل الحبوب وفتل السميد، أو لتبييض البيت ليكون مؤهلا لاستقبال الأفراد والمناسبات، أو لتجديد أواني النحاس بمهارة وتجويد، أما موسم الزيتون فذاك قصة أخرى، لأن الاجتماع لتحضير أشكاله المختلفة بين مشقوق ومهروس ومحمض وغيرها واجب الوقت عندهن الذي لا يحيد، وزينة المائدة التي لا تغيب.
وكما تجتمع نساء القبيلة على الطبخ وتعلم “التاويل” من جيل إلى جيل، يجتمعن، بدورية منتظمة، على الإنصات للقرآن الكريم ودرس فقيه الحي ذاك الرجل الصالح الأصيل، لم يكن بينهن من ولجت المؤسسات التعليمية لواقع التهميش الذي لطالما عانت منه البوادي والمداشير، لكنهن كن يستعضن عن ذلك بلماتهن المتكررة على الذكر والتفقه ولو لوقت ضئيل، فكن جميعا، وإن بدرجات متفاوتة، مدارس حية في التربية والصدق والكفاح ونشر الأمل والخير وإصلاح ذات البين والفطرة السليمة وترك ما نهى عنه النبي العدنان، عليه الصلاة والسلام، من كثرة السؤال وإضاعة المال وقال وقيل.
تململت الجدة رضية في مكانها وهي تسترجع شريط ذكرياتها التي ما زالت تتلذذ بذكرها وتشتم عبيرها وإن مرت عليها السنون وطالها التقادم لا الفقد؛ ذلك أنها كانت دائما حريصة على إحيائها داخل أسرتها مع الأحباب والجيران والأولاد والأحفاد، ساعدها على ذلك زوجها الذي كان منة من السماء نزلت عليها قبل أن يقبضه الله الرحيم إليه منذ بضعة أعوام، وكأنه استلها من ركام المدنية الزائفة في بلاد الغرب التي انتقلوا إليها، ليتعاونا معا على حفظ فطرتهما السليمة وسجاياهما الكريمة، كان لها نعم السند في بناء عش زوجية سعيد، موحد وملتئم، وعلى إنجاح علاقاتهما الاجتماعية بشكل منسجم.
لم تخلف يوما تراث الوطن وتقاليده جانبا، بل حرصت على اغتنام مواسم الخير للم الأسرة وربط أفرادها بالأصول، كان شعارها في معمعان الغرب وتجاذب الحضارات وتيارات المجتمع المتضاربة: “من ترك الأصول، حُرم الوصول”.
حرصت على أن تستفيد ذريتها من لب الحداثة لا مجرد مظاهرها، من جوهرها المساند للعلم والتطور، لا تياراتها الهادمة للقيم، الناكرة للنعم، الصامة آذانها عن المعالي والحِكم، فكانت نتيجة الكدح وخراج المسير أولادا صالحين مصلحين أكفاء مسؤولين، لوظائفهم متقنين، ولله داعين، ولأسرهم داعمين، وعلى الفضل ملتفين، عسى الله ذو الطول المجيد والأمر الرشيد يبقيهم دخرا للبلاد والعباد، نافعين على مر الأزمان الأوطان، سلفا عن خلف، سببا في لمة الأمة ووحدتها، إلى حين تحقيق الفتح المجيد والنصر التليد عبر الزمن المديد.
ذاك كان منى الجدة رضية، قبل أن يتوفاها الله تعالى في ليلة ندية من شهر القرآن والغفران، وسط أحبابها وأولادها وأحفادها، ضمن لمة حرصت عليها ولو في خريف العمر لما لمسته فيها من آثار الاجتماع على الذكر والورد، من تآلف القلوب وإجلاء الكروب والتغافل عن العيوب، وإرجاع القلب المسلوب إلى حضرة الله المعبود.
رثى الجدة رضية تلك الجوهرة الثمينة الصغير والكبير، وتعاهدوا أن حياتها بينهم في إحياء ما ربّتهم عليه من المكارم والمحاسن، والوفاء للمة الأسرة والأمة بلا انقطاع ولا انصياع.