لماذا وقف إطلاق النار انتصار كبير للمقاومة وفلسطين؟

Cover Image for لماذا وقف إطلاق النار انتصار كبير للمقاومة وفلسطين؟
نشر بتاريخ

بعد 467 يوما من حرب الإبادة الوحشية التي شنها كيان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، ساعيا بشراسة كبيرة وجبروت طاغ لتحقيق أهدافه المعلنة والخفية من الحرب، اتفق “أطراف الصراع” على إنهاء القتال بعد الوصول إلى صيغ قبلها الكيان والمقاومة، يقع تنزيلها عبر مراحل.

وكما أثناء سير المعركة، وقبلها، وكما في يوم السابع من أكتوبر، وبعده، تحرّك أصحاب النوايا السيئة من بين ظهرانينا (كما هي عادتهم على مدار التدافع) لإشاعة “قراءة” انهزامية، تفرغ الاتفاق من محتواه، وتنزع عن السياق عمقه واتجاهه، وتبث روح التيئيس التي تفتت الإرادة، وتسوّق للرواية الصهيونية التي تعيش على وقع الوهم بعد أن صدمها الواقع.

فهل الاتفاق في صالح المقاومة وفلسطين؟ وهل يصح أن نعده انتصارا حقيقيا أم إننا إزاء هزيمة منكرة تشد معها القضية الفلسطينية عقودا إلى الوراء؟

في جواب واضح مباشر، ندلّل عليه بعد حين، نعم إننا أمام انتصار كبير حققته فصائل المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس وكتائب القسام. انتصار متعدد الأبعاد، استراتيجي، غير مسبوق، له ما بعده في مستقبل الصراع مع العدو.

وهذه خمسة أسباب كبرى تعزز هذا القول:

أولا: إسقاط أهداف العدو

رفع كيان الاحتلال الصهيوني منذ بداية عدوانه الوحشي الشامل أهدافا أربعة أساسية؛ القضاء على حركة حماس، تحرير الرهائن المحتجزين لدى المقاومة بالقوة، تهجير الغزّيين من القطاع أو من عدد من مناطقه، صياغة اليوم التالي للحرب دون حماس. وهدف مفصلي مستتر سنأتي إلى ذكره في السبب الثاني.

اليوم، وبعد أن وافقت “إسرائيل” على إنهاء العدوان، هل حققت أهدافها تلك؟ بل هل حققت ولو هدفا واحدا من “بنكها” المعلن هذا؟!

لنَعُدّ معا: حماس حافظت على وجودها مقاوِمة شامخة، كتائبها تضرب في الميدان وقيادتها السياسية تفاوض في الدوحة. الرهائن تأكد ألا عودة لهم إلا عن طريق التفاوض ودفع الأثمان، وهو ما جرى وسيجري. الغزاويون صمدوا وثبتوا ولم يبرحوا قطاعهم وأسقطوا خطط التهجير المختلفة (آخرها خطة الجنرالات في الشمال) وهاهم يستعدون اليوم للعودة. واليوم التالي للحرب تجري صياغته بأياد فلسطينية وبوساطة دول المنطقة (وآخرها لجنة الإسناد المجتمعي في غزة، والتي وافقت عليها حماس وفتح).

فشل العدو إذا في تحقيق أيّ من أهداف الحرب، وإذا أضفنا إلى هذه “الحقيقة”، تلك القاعدة الثابتة في علاقة حركات التحرر بالاحتلال؛ وهي أن صمود المقاومة انتصار وعدم تحقيق الاحتلال لأهدافه هزيمة، يتأكد لدينا أن اتفاق الدوحة انتصار حقيقي للمقاومة الفلسطينية وقضيتها العادلة.

ثانيا: إعادة القضية الفلسطينية إلى جوهر الصراع

أحد أسباب إطلاق هجوم السابع من أكتوبر والتفكير في معركة كبرى اسمها طوفان الأقصى من شأنها خلط جميع الأوراق، هي المرحلة التي كانت قد وصلت إليها “القضية الفلسطينية” برمتها؛ إذ كان العدو الصهيوني قاب قوسين أو أدنى من تحويلها من قضية احتلال إلى خلافات في بعض تفاصيل الحياة اليومية، ومن نضال شعب من أجل حريته إلى مسألة مساعدات وتخفيف المعاناة. وقد ساعد في بلوغ هذه المرحلة عدة أسباب، أبرزها: تماهي سلطة رام الله التام مع الكيان حتى غدونا أمام فرع أمني تابع تماما لتل أبيب، استمرار حصار غزة لأزيد من 17 سنة دون أن يتحرك العالم ودول العرب لإنهائه، التنامي المهول في ظل حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة للاستيطان في الضفة، الجسارة المتزايدة على الأقصى إلى الحد الذي بات فيه الاقتحام روتينا يوميا، المضي الإقليمي في خيار التطبيع والعمل على دمج “إسرائيل” في المنطقة باعتبارها “دولة طبيعية” ينبغي القبول بها والتعامل معها.

ثم إنه بعد صدمة الكيان يوم العبور العظيم، وبعد أن تحقق لقادة الكيان إجماع داخلي قوي على خوض حرب مدمرة ضد غزة ومقاومتها، وحين حصلت الدويلة اللقيطة على ضوء أخضر من “كبراء” العالم وصغراء المنطقة، حافظت “إسرائيل” على هدفها غير المعلن (تصفية القضية الفلسطينية)، وانتقلت به إلى السرعة القصوى والهدف السريع، عبر السحق العسكري والتهجير القسري (وخرائط نتنياهو في الأمم المتحدة التي محت فلسطين لم تكن عبثا، كما أن تهجير الغزيين إلى سيناء وكذا فلسطينيي الضفة إلى الأردن لم تكن محض كلام).

ولكن، كانت المقاومة بعنفوانها وبسالتها ومطاولتها لجبروت العدو، وكان الشعب الفلسطيني (خاصة في غزة العزة) بصموده وثباته ورسوخه في الأرض، الصخرة التي تكسّرت على صلابتها أطماع الكيان وهدفه النهائي بالقضاء على القضية. بل إن المعركة اليوم أعادت للقضية وهجها وجعلتها في سلم الاهتمام الدولي ودفعتها إلى واجهة المنطقة، والأهم أنها رسختها في قلوب أبنائها وفصائلها وعموم المدافعين عن الحق الفلسطيني باعتبارها قضية شعب يطلب الحرية ويجاهد لطرد محتله.

ثالثا: انتصار “فكرة المقاومة”

أحد أكبر الأعطاب التي تقع فيها القراءات السطحية للمعركة، النظر إلى الأضرار المادية والمكاسب الرقمية فقط ومساءلة قرار المقاومة بناء على ذلك. ومع التأكيد على أن كل قطرة دم أريقت وكل بناية هدمت هو إجرام صهيوني وإرهاب موغل في الوحشية ينبغي ألا يسقط ويلزم أن يساءل عليه مجرمو الكيان القتلة، فإنه يلزم بعد ذلك أن ننظر إلى جوهر الصراع وطبيعة القضية واتجاه الأحداث.

باختصار إننا إزاء قضية عمرت لقرن من الزمن، وإن الاحتلال الصهيوني -ومنذ تثبيت أركانه سنة 1948 وما تلاها- رسخ وجودا ماديا طاغيا؛ فأقام دولة وشيد جيشا وبنى مدنا وجلب سكانا، وطرد أهل الأرض وهجّرهم وحاصر ما بقي من شيء اسمه فلسطين وقطع أوصالها. وهو حين قام ويقوم بذلك وجد ويجد دعما دوليا وسندا من مستكبري العالم ويلقى تغاضيا بل وتواطؤا من إخوة العروبة والدم والدين. إننا أمام قضية حق وعدل تعيش أوضاعا جدّ صعبة، لا أقلها التفاوت الصارخ في القوة والتأييد التام لدويلة الاحتلال.

فأن تنبثق من وسط كل هذا الوضع الشديد التعقيد والصعوبة، فصائل مقاومة تحافظ على جوهر الصراع، وترسم أفقا لا تتزحزح عنه (تحرير كامل الأرض)، وتتقدم في كل مرحلة خطوة نحو هدفها، وتصانع واقعها الشديد الإحكام، وتطاول الكيان بجبروته ومن ورائه هذا الدعم اللامحدود، وأن تزرع “فكرة المقاومة” في جمهورها وتكسب “معركة الوعي” وسط شعبها، وأن تبلغ رفقة هذا الشعب العظيم مستوى من الاستعداد للتضحية بـ”اللحم الحي” بالروح والنفس والأبناء وكل شيء من أجل القضية، فإنه انتصار استراتيجي للفكرة والمبدإ والقضية وأي انتصار.

رابعا: ثبات “خارطة المواجهة”

سيتوقف العدوان الشرس والحرب الأطول في تاريخ الكيان دون أن يتغير شيء ذي بال في خارطة المواجهة ومرتكزات التدافع وقواعد الاشتباك، فالدويلة اللقيطة المجرمة ما تزال محاطة بالمقاومين والصامدين من كل جهاتها، وماتزال سماؤها وأرضها عرضة للقصف والدك، وما زال شعبها الطارئ لا يأمن على نفسه الغيلة في كل لحظة، ووجودها غير الشرعي ما يزال يقابل بالرفض وعدم القبول من شعوب المنطقة.

أن يخوض الكيان حربا مدمرة على أكثر من جبهة، وأن ينتهي به المطاف إلى عدم القضاء على واحدة منها، وأن ينهي عدوانه دون أن ينهي تهديدها له، فهو إخفاق استراتيجي لا تخطئه العين، ونتيجته المباشرة أن يجد الكيان نفسه في أي مواجهة قادمة أمام نفس القوى المتعددة والمكونات المتنوعة المستعدة للتضحية والمواجهة والقتال.

وإذا أضفنا إلى هذا الثبات في “خارطة المواجهة”، وهو ما يشكل أحد أهم مرتكزات قوة المقاومة، الإيقاع الذي ختمت عليه المواجهة؛ إثخان كبير في جيش الكيان في شمال القطاع، وثبات قوى كتائب المقاومة في الضفة، وصواريخ ومسيرات قادمة من اليمن السعيد… ثم إذا استحضرنا أن يوم العبور العظيم كان لأول مرة في تاريخ المواجهة مع الاحتلال يوم هجوم لا دفاع ولحظة توغل لا صد، لا شك نكون أمام مشهد صمود يطاول العدوان، و”خارطة مواجهة” -تتعاظم قوتها- لها كلمتها في مستقبل الصر اع.

خامسا: تراجع صورة “إسرائيل” في العالم

إننا بصدد صراع متعدد الأبعاد، حشد التعاطف والإسناد من قوى العالم ومؤسساته وشعوبه إحدى واجهاته التي خسرتها “إسرائيل” في هذه المعركة التاريخية.

لقد تهاوت السردية الصهيونية لدى جزء واسع من الرأي العام العالمي؛ فعوض الشعب المضطهد والجيش الذي لا يقهر وواحة الديمقراطية في المنطقة، ترسخت صورة جديدة عن كيان إرهابي متعطش للدماء، لا يرعوي عن قتل الرضّع والنساء والشباب وكل إنسان، ولا يتردد في تدمير كل شيء حجرا وشجرا وبشرا.

سقطت “إسرائيل”، وحلت محلها صورة شعب يعاني منذ 100 عام، يتعرض كل مرة للقتل والتدمير كلما طالب بحقه ككل شعوب الدنيا في الحرية. وتصدر المشهد صورة هذا الشعب العظيم الذي يدافع بكل ما يملك فداء لأرضه ودينه ومقدساته، ولكم تأثر سكان هذا الكوكب بمشهد “روح الروح” مثلا، واستغربوا هذا النظام الدولي الذي يقبل هذا الاحتلال الصهيوني السادي ويدعمه ضدا على حق أصحاب الأرض الأصلاء.

إن هذا الصعود الفلسطيني، الذي يقابله سقوط صهيوني مدوّ، سيكون قطعا له ما بعده في مسار معركة التحرير؛ فطلبة المعاهد والجامعات العالمية المرموقة الذين اعتصموا وتظاهروا وضغطوا هم صانعو القرار العالمي غدا، ونخب الدول ومثقفوها وساستها وفنانوها الذين انحازوا للحق الفلسطيني لهم كلمتهم داخل مجتمعاتهم وتأثيرهم… وكل مظاهر رفض هذا العدوان الوحشي التي شكلت تيارا عالميا لم يكن مسبوقا على مدار تاريخ القضية، موطن آخر من مواطن انتصار القضية الفلسطينية ومقاومتها البطلة.

إننا أمام محطة جديدة في مسار نضال الشعب الفلسطيني العظيم، محطة تاريخية بحق، مفصلية في ترسيخ الحق وتثبيت الوجود، وجوهرية في إيقاف مسلسل تضييع القضية. محطة مليئة عزة وكبرياء وصمودا وبطولة ورسوخا ومكاسب؛ أسقطت أهداف العدو ومراميه، وجدّدت طبيعة القضية ووهجها، ورسّخت فكرة المقاومة ونبلها، وحافظت على خارطة المواجهة وعناصرها، وسوّدت صورة الصهيونية في العالم.