كل من كان له حظ من هذه الدنيا يعلم جليا أن الحياة لها بداية ونهاية، لذلك يتبادر للذهن سؤال مشروع يطرحه الصغير والكبير، المسلم وغير المسلم، ألا وهو لماذا خلقت؟ كثير من الناس لا يملكون الإجابة عن هذا السؤال، ولكنها عند المسلم إجابة سهلة، تتمثل في قول الله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون 1 ، إنها حقيقة يعرفها كل مسلم يدرك حقيقة وجوده في الحياة، لم يخلقنا الله تبارك وتعالى لنأكل ونشرب ونتزوج ونموت… فقط. لكننا خلقنا لنعبد الله تعالى ونعرفه، فالدنيا لا قيمة لها بدون هذه الغاية. والعبادة الواردة في الآية الكريمة ليس بمفهومها الضيق صلاة وزكاة… بل بمفهومها الواسع كما قال ابن عباس في شرح هذه الآية: “إلا ليعبدون” إلا ليعرفوني، يعني يجب على المرء أن يجتهد في معرفة الله عز وجل من خلال السعي الدؤوب لله تعالى، دونما ملل ولا كلل. لكن في ظل هذه المتغيرات من اختلاط الصالح بالطالح، وانتشار الفتن كقطع الليل المظلم كما أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم، يغفل المرء عن هذه العبودية الحقيقية والكاملة لله تعالى.
تداعيات الغفلة عن الإجابة
الغفلة تزيد الحسرة والندامة وتولد التسويف وتزيل النعمة وتحجب عن الخدمة…
أنت في غفلة وقلبك سـاهي
ذهب العمر والذنوب كما هي
مضى الدهر والأيام والذنب حاصل
وجاء رسول الموت والقلب غافل
نعيمك في الدنيا غرور وحسرة
وعيشك في الدنيا محال وباطل
الغفلة عن انسجام الأقوال مع الأفعال
ذكر في عيون الأخبار عن شقيق البلخي أنه قال: الناس يقولون ثلاثة أقوال وقد خالفوها في أفعالهم. يقولون: نحن عبيد الله وهم يعملون عمل الأحرار. وهذا خلاف قولهم. ويقولون: إن الله كفيل بأرزاقنا، ولا تطمئن قلوبهم إلا بالدنيا وجمع حطامها. وهذا خلاف قولهم. ويقولون لا بد لنا من الموت وهم يعملون أعمال من لا يموت. وهذا أيضا خلاف قولهم) 2 .
فانظر لنفسك يا أخي: بأي بدن تقف بين يدي الله تعالى؟ وبأي لسان تجيبه؟ وماذا تقول إذا سألك عن القليل والكثير؟ فأعد للسؤال جوابا وللجواب صواب؛ يقول الله عز وجل واتقوا الله إن الله خبير بما تفعلون 3 . أي خبير بالخير والشر.
وجاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: مكتوب على العرش: أنا مطيع من أطاعني، ومحب من أحبني، ومجيب من دعاني، وغافر لمن استغفرني) 4 .
لذلك ينبغي للعاقل أن يطيع الله بالإخلاص في الطاعة، والرضا بالقضاء، والصبر على البلاء، وبالشكر على النعماء، وبالقناعة على العطاء.
الغفلة عن محاسبة النفس
من منا يقف مع نفسه كل ليلة ويحاسبها على كل صغيرة وكبيرة؟ كان الصحابة الكرام والسلف الصالح إذا اراد أحدهم أن ينام يحاسب نفسه على كل عمل وقول، ويعاتبها “لماذا لم تفعلي كذا؟ ولماذا فعلت كذا؟”.
وقال عمر رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتجهزوا للعرض على الله). يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية 5 .
لذلك فإن على كل مسلم أن يقف مع نفسه وقفة يحاسبها فيها في الدنيا، على كل فعلة فعلها وعلى كل كلمة قالها لأن الله شهيد على أعمالنا وأقوالنا بل حتى خلق الله تعالى سيكون علينا شهيدا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؛ يقول الحسن البصري رحمه الله: حتى اليوم سيكون شهيدا علينا: يقول كل يوم ها أنا يوم جديد ولعملك لشهيد فاغتنمني فإني لا أعود حتى يوم القيامة).
عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله” 6 الكيس من دان نفسه، من حاسب وعاتب ووقف مع نفسه وعمل لآخرته، والعاجز من أتبع نفسه هواها، اتبع شهواته وملذات الدنيا وشيطانه، وتمنى على الله وهو غافل عن التوبة والمحاسبة والعبودية لله تعالى، حتى يأتي ملك الموت وهو غافل عن الغاية العظمى التي خلقنا من أجلها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وأقلهم من يجوز ذلك” 7 .
الغفلة عن حقيقة الدنيا والآخرة
إلى طالب الخبز والمسكن والزواج والشغل والكرامة والاستقرار. إلى طالب العلم والأمن والسلام. إلى طالب الحق والعدل. إلى طالب السعادة في الدنيا والآخرة إلى طالب الجنة، إلى طالب القرب من الله تعالى) 8 .
يقول الحق تبارك وتعالى: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة 9 .
كلنا نعلم القولة الشهيرة التي تقول: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا). نعم قولة تحمل في طياتها مجموعة من الدروس والعبر للجمع بين الدنيا والفوز بالآخرة والنظر إلى وجهه الكريم، لكن للآسف الشديد قلبنا مفهوم هذه القولة وأصبح كثير منا يعمل لدنياه كأنه يموت غدا، ولا يعمل لآخرته كأنه يعيش أبدا.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: “إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل رجل سار في يوم شديد الحر فاستظل تحت شجرة ساعة، ثم راح وتركها” 10 .
ويقول صلى الله عليه وسلم: “الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، أو عالما أو متعلما” 11 .
ويقول أحد الصالحين: الدنيا صور).
وتتجسد الدنيا على أنها صورة من خلال القصة التالية:
منح لرجل يحب الدنيا كيس فارغ وقاعة كبيرة ممتلئة بالذهب والفضة والمال، وقيل له أدخل واملإ الكيس بما شئت، ولكن بشرطين: الشرط الأول لك 3 دقائق لأخد ما شئت، ثم الشرط الثاني نحذرك من النظر إلى مجموعة من الصور على الجدران، فقبل الرجل الشرطين، فتهيأ للدخول وبدأ العداد، ومع دخوله بخطوات رأى قصرا رائعا على الجدار مرصعا بالذهب والفضة فقال أول ما سأفعله بعد خروجي سأشتري مثل هذا القصر، ثم رفع رأسه إلى أفق القصر فرأى امرأة جميلة تنظر من الأعلى فقال ثاني ما سأفعله أتزوج مثل هذه المرأة الرائعة التي تدهش الأبصار، فخطى خطوة فرأى سيارة جميلة فقال اكتملت الحياة، قصر مرصع بالذهب والفضة، وامرأة جميلة أتزوجها، وسيارة فخمة نتنقل عليها، فجاءه الرجل وقال لقد انتهى الوقت المحدد، وهو لا يزال يتمنى على الله)، فهذا هو حال الدنيا فمن اجتهد ودان نفسه وعمل لما بعد الموت، فقد فاز بدارين، ومن اتبع نفسه هواها فقد خسر الدنيا والآخرة.
يـقـول الله تعــالى: ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا 12 .
ويـقول جل وعلا: قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى، بل توثرون الحياة الدنيا، والآخرة خير وبقى 13 .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له” 14 .
وقال علي رضي الله عنه: ارتحلت الآخرة مقبلة، وارتحلت الدنيا مدبرة، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل).
لقد ضرب الصحابة الكرام المثل الأعظم في المعرفة والإقبال على الآخرة، بالعمل الصالح والقول الحسن والسعي الدؤوب الى الله تعالى، دونما كلل أو ملل أو فتور. حيث حكي أن عليا رضي الله عنه عندما كان أميرا للمؤمنين جاءه أحد الرجال فرحا بعد شرائه بيتا، فقال لأمير المؤمنين أكتب لي عقدا لكي يبارك الله لي في بيتي، فكتب علي كرم الله وجهه، بعد بسم الله الرحمن الرحيم، اشترى ميت من ميت بيتا في سكة الغافلين لها أربعة أوجه، الموت ثم القبر ثم الحساب ثم الجنة أو النار.
لذلك ينبغي للعاقل أن يجعل حياته زاخرة بالأعمال الصالحة، والعبادات المشروعة التي تجعل حياة المسلم في عبادة مستمرة، تحول حياته كلها إلى قول حسن، وعمل صالح، وسعي دؤوب الى الله جل في علا، دونما كلل أو ملل أو فتور أو انقطاع، يعني أن حياة الإنسان يجب أن تكون كلها عبادة وطاعة وعمل صالح وقول حسن يقرب من الله تعالى، لكي تتحقق لنا العبودية الكاملة لله تعالى، ويسعد المرء في الدنيا والآخرة.
[2] كتاب مكاشفة القلوب ـ الباب السادس ـ للإمام الغزالي. ص. 26.\
[3] سورة الحشر الآية 18.\
[4] كتاب مكاشفة القلوب ـ الباب السادس ـ للإمام الغزالي. ص. 26.\
[5] سورة الحاقة الآية 18.\
[6] رواه الترمذي وقال حديث حسن ـ في كتاب البر والصلة حديث (1987).\
[7] رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. ورواه الترمذي وابن ماجه.\
[8] رسالة إلى كل طالب وطالبة إلى كل مسلم ومسلمة، الأستاذ عبد السلام ياسين.\
[9] آل عمران، الآية 152.\
[10] أخرجه الإمام أحمد في الحديث: (391/1).\
[11] أخرجه ابن ماجة في الحديث: (4112) والترمذي في الحديث: (2322).\
[12] الإسراء الآية 19.\
[13] سورة الأعلى من الآية 14 إلى الآية 16.\
[14] رواه الترمذي عن أنس، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6510).\