لماذا تازة قبل غزة؟

Cover Image for لماذا تازة قبل غزة؟
نشر بتاريخ

بقدر ما كان يستفزني شعار “تازة قبل غزة” كنت أتساءل عن سر نحت هذا الشعار، المختزل لاختيار وسياسة وموقف وبروباغندا لتعبئة وحشد السذج والبسطاء، لماذا الإصرار على تازة وليس مدينة أخرى؟ فهل كان الاختيار مجانيا وعبثيا أو ضرورة موسيقية وجرسية؟ أم هو لا يخل من حمولة تاريخية وسياسية وحضارية، وصنعة إعلامية ومخابراتية؟

شغلني السؤال والبحث عند ظهور الشعار أول مرة متزامنا مع العدوان على غزة سنة 2008، ومع مقاطعة الملك حينها للقمة العربية العاجلة وامتناعه عن حضورها، غير أنه سرعان ما طواني الانشغال وطوى معي البحث والسؤال، لكن مع عودة وتجدد إطلاق الشعار والقصف به إعلاميا بقوة مؤخرا في كل المنصات والمنتديات بواسطة أسراب الذباب الإلكتروني.

عاودت البحث من جديد عما يربط تازة بالكيان الصهيوني، وفتشت في أسفار التاريخ، فوجدت رواية غريبة عجيبة عن أول محاولة لتأسيس دولة إسرائيلية في تاريخ المغرب على يد “هارون بن مشعل اليهودي” بمدينة تازة والنواحي، لكن سرعان ما أجهضت المحاولة، وللمفارقة، على يد أحد مؤسسي الدولة العلوية “المولى رشيد” .

فقد أورد هذه الرواية المؤرخ عبد الهادي التازي، ففي نهاية الدولة السعدية (1554-1659) وصعود الدولة العلوية (1666) عرفت بلاد المغرب الأقصى فراغًا سياسيًا، لهذا سعى العديد من ذوي الجاه والمكانة الاجتماعية إلى الانفراد بحكم مناطقهم، وكان من بينهم هارون بن مشعل “الذي استغل فرصة اختلال الأمور بفاس أواخر دولة السعديين، فحدثته نفسه بتأسيس إمارة يهودية على بعد 13 كيلومترا من تازة.

وقد كان هارون بن مشعل هذا من عائلة يهودية عريقة ذات نفوذ تجاري ولد بمدينة وجدة، فورث عن أسرته المجد والثروة والمكانة الاجتماعية في قلب البلاط السلطاني، ما جعله حاكمًا لمنطقة تازة يأمر ويطاع ويفعل ما يشاء حتى بالغ في ظلمه وجبروته.

وتحكي كتب التاريخ أنه كان يعيش في قصر يشبه القلعة الحصينة، وبيده مخازن من المؤونة تكفيه لسنوات عديدة، يسلبها من السكان الذين كانوا مضطرين إلى دفع الضرائب على أملاكهم، بل كان يجبر القبائل المحيطة على أن تهدي له بنتًا عذراء مسلمة كل عيد حصاد يهودي.

وكان هارون بن مشعل رجلًا فاحش الثراء ما مكنه من شراء العتاد والأسلحة وحتى ضمائر الرجال، مستعينًا بابنته زليخة كمترجمة للوفود الأوروبية، إذ كانت تتقن إلى جانب العبرية والعربية والدارجة المغربية، اللغات الفرنسية والإسبانية والإنجليزية بعدما تلقت تعليمها في مدارس البلدان الأوروبية.

ويروي بعض المؤرخين أن نهاية هذه الإمارة كانت على يد امرأتين هما زليخة ابنته وامرأة تازية مغربية مسلمة حرة.

ونورد الروايتين للتدبر والتأمل.

تازية حرة:

يقول المؤرخ عبد الهادي التازي: “كان ابن مشعل مارًا ذات يوم وإذا به يقف على امرأة تحمل طفلًا صغيرًا وبيدها جرة ماء طلب إليها أن تسقيه وهو يختبر – على ما يظهر – مدى شعورها نحوه، لكنها رفضت، وهنا مزق صغيرها! وجمعت الأم أشلاء الطفل ورجعت إلى القرية لتلهب الناس ضد ابن مشعل”.

زليخة العاشقة:

ويحكى أن زليخة بنت هارون بن مشعل وقعت في حب شاب مسلم، فأدخلته القصر وأسكنته معها وجعلته يحضر حفلات والدها التي كان يقيمها كل ليلة، وبينما كان يشرب ابن مشعل “الماحيا” ويوزعها على الحاضرين، كان الشاب يراقب ويسجل التفاصيل الدقيقة ومداخل القصر ومخارجه وأشكال الحراسة، وكان العشيق ينقل أسرار القصر إلى المولى الرشيد الذي كان يومها طالبًا بجامعة القرويين في فاس، إذا كان على اطلاع بتصرفات ابن مشعل، فجمع طلاب الجامعة حوله متجهين صوب “إمارة ابن مشعل” لإسقاطها، مستخدمًا الحيلة التي لم يذكر المؤرخون تفاصيلها، بينما تختلف عنها الحكايات التي تبدو أشبه بقصص ألف ليلة وليلة، منها ما يروى أن المولى الرشيد تنكر في زي فتاة مهداة إلى ابن مشعل، بينما اختبأ أصدقاؤه الطلاب في صناديق، لكن مهما يكن فقد استطاع المولى الرشيد الوصول إلى ابن مشعل وإقامة حد لجنون عظمته سنة 1663م.

يقول المؤرخ عبد الهادي التازي فيما يشبه الخلاصة وهو التازي أصلا، يومها كان واردا جدا أن ينوب المغرب عن فلسطين: “إن دولة “إسرائيل” كانت بالفعل على وشك أن تقتحم تازة، ثم تعم فاسًا لتنساب منها إلى البلاد الأخرى”، لأن هارون بن مشعل كان يحوز سلطة مطلقة على المنطقة، كما كان يملك المال والعدة التي تمكنه من إقامة دولة يهودية، هذا فضلًا عن السمعة التي منحها لنفسه.

فهل هذه أمنية وحلم يتجدد مع الصهاينة وطابورهم المتصهين الخامس، في ظل تكشف عدد من الخطط عن مطامع توسع صهيوني في العالم العربي قائم على تفتيت الدول العربية والإسلامية وإثارة النعرات العرقية والطائفية.

ونقول إن الرواية التاريخية مليئة بالخلاصات والعبر فهل من متدبر ومتأمل؟