للهجرة وهج وبريق..

Cover Image for للهجرة وهج وبريق..
نشر بتاريخ

للهجرة النبوية وقع عميق في النفوس، وتأثير كبير في قلوب المسلمين، كيف لا وموضوعها سيرة أشرف الخلق، وسيد المجاهدين، وإمام المتقين. ويعطي للهجرة أهميتها، ويرفع مكانتها، اعتبار النبي محمد صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة للمسلمين في أي وقت وحين، وفي جميع الظروف والأحوال، لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21].

لذا تشرئب أعناق المسلمين للاستفادة من هذا الحدث العظيم، وخاصة في هذه الظروف العصيبة التي يمر بها العالم الإسلامي حيث القدس مسلوبة، وغزة جريحة، والأوطان ممزقة، والأعداء تجاوزوا الأعتاب واستوطنوا قاع الدار. ففي هذه الظروف الحالكة نستحضر اثنتي عشرة سنة من الدعوة في مكة، والمسلمون مستضعفون، مضطهدون، مشتتون في الأرض، رايتهم منكوسة، وكلمتهم ضعيفة، ونبيهم صلى الله عليه وسلم يواجه الأعداء بألوان الحكمة والثبات، حتى هيأ الله تعالى له من ضيقه مخرجا، وأجرى الأحداث كنسيم الصباح هب لصالح الدعوة، فانتقلت إلى بقعة جديدة، وحمل رايتها أناس آخرون، فأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، حيث الأنصار في استقباله، لتبدأ أشواط جديدة في مسار الدعوة، تنتهي بفتح مكة بعد ثمان سنين من الهجرة، وبعد الفتح بسنتين تقريبا يحج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، في البقعة التي خرج منها مطرودا ومطاردا، فقواه الله بعد ضعف، ونصره بعد انهزام، وأثلج صدره بما وعده من الفتح المبين.

وحدث الهجرة يفتح للمسلمين اليوم أبواب الأمل في غد قريب ينصر الله فيه المستضعفين من أمته، ويثلج صدورهم بما يحبون ويرجون من العزة والكرامة.

والعدوان الذي يتعرض له المسلمون، والدماء الزكية التي تسيل على أرض فلسطين، ما هي إلا قطرة عرق من جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقطع الصحراء قطعا، ويطوي الفيافي طيا، للوصول للمدينة الشريفة، يصحبه في الطريق أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وبعد الوصول تبدأ المعارك والمواجهات، ليرتقي العشرات من المهاجرين والأنصار في طريق الدعوة، ذكرهم الله تعالى في كتابه بأوصاف الرفعة والعزة، فهم الرجال والشهداء والفائزون برضى الله تعالى.

شهداؤنا اليوم، والمقاومون، والصابرون، والفاتحون صدورهم لرصاص الأعداء، هم على طريق الرجال الأشاوس الذين صبروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينسجون على نفس المنوال، ولا ينقضون الغزل مهما اشتدت رياح الأعداء.

حدث الهجرة بلسم للأمة يتجدد كل عام، وسفينة النجاة تعب المحيط، محيط الفتنة والخيانة والمكر والهزيمة، لتصل إلى بر النجاة، والأمن، والسلام، والعزة، والكرامة. رجال المقاومة لا يلتفتون وبين أعينهم القدوة والمثال مجسدا في شخص النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من رجال صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23]، فلا يثنيهم عن مرادهم أزيز الرصاص، ولا دوي القنابل، ولا تثبيط المثبطين، ولا استهزاء الخائنين، فقد هجروا اليأس والقنوط والخوف والخنوع، وتسلحوا بالإرادة والعزم والثقة في الله تعالى. وبذلك يحققون معاني الهجرة وهم في خندق الجهاد، يتنسمون معانيها في قطرات دمائهم الزكية، ويسطرون أروع البطولات بما وصلت إليه أيديهم من العتاد، ولكن بقلوب كبيرة مؤمنة بموعود الله للمؤمنين بالنصر والتمكين.

وإذا كانت الهجرة المكانية من مكة للمدينة قد انتهت بالفتح، فإن الهجرة المعنوية، والقلبية، والجهادية، باقية ومستمرة ما بقي الصراع بين الحق والباطل، ففي الحديث: “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا” (رواه الشيخان من حديث عائشة ومن حديث ابن عباس).

وفي حديث آخر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه” (متفق عليه).

“إن الهجرة في حقيقتها موقف نفسي قبل أن تكون رحلة جسدية، إنها هجران للباطل وانتماء للحق، إنها ابتعاد عن المنكرات، وفعل للخيرات، إنها ترك للمعاصي وانهماك في الطاعات” 1.

وأكبر المعاصي التي يجب تجنبها والنفور منها، وأشدها قبحا وفحشا، هي موالاة الظالمين والركون للمعتدين في معركة الحق ضد الباطل، وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ [هود: 113]. فمن تولى الأعداء والخونة فهو منهم، والهجرة القلبية بكل ما تحمل من معاني العبودية لله، والتوكل عليه، ومحبة المؤمنين، ومعاداة الظالمين المعتدين، تعتبر شرطا من شروط الاقتداء والالتزام بمنهج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الدعوة والتغيير، فلا يجتمع في القلب متناقضان، ولا يستأنس الضدان؛ فإما هجرة كاملة إلى الله ورسوله أو ركون إلى الكفر والضلال والباطل. ولا دواء لمن تتناوشه سهام الباطل ومغريات الملذات والشهوات إلا التوبة إلى الله تعالى، ففي الحديث: “لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة” (أخرجه أبو داود وأحمد 4). فما يجريه الله تعالى من الأقدار إن هي إلا امتحان لقلوب المسلمين ليتوبوا إلى الله تعالى ويجدّوا في نصرتهم لإخوانهم في فلسطين.

وفي معركة الكرامة والعزة ضد الباطل والطغيان يلوح النصر للمؤمنين المقاومين، يرونه قريبا، ويراه الغافلون بعيدا، فالنصر على الأعداء أمل يراه المؤمنون بعين اليقين، ولهم من الهجرة شواهد وأدلة، فيزدادون ثباتا إلى ثبات، وقوة إلى قوة، ودروس الهجرة النبوية تظلل مسيرهم، وتذلل الصعوبات أمامهم، فإما نصر أو شهادة.


[1] محمد راتب النابلسي، كتاب الهجرة، ص9.