للزيارة فرحة

Cover Image for للزيارة فرحة
نشر بتاريخ

زيارة المرضى والعجزة والمقابر. تأخذ نفاستها من تأكيد الدين على التكافل الاجتماعي والتآزر بين المسلمين. للأحياء وللأموات. ليس في الأمر ما يحرج أي طرف زائر ومزور. فبنو البشر في بواطنهم إحساس مشترك بالعطف، والروح الجماعية سبيل إلى إيقاظ الهمم لتتجاوز حدود الأنا المستعلية المستكبرة. من أجيال الحرمان والأحقاد كانت وراءها أياد بالعار قد تخضبت، عبر السنين.

لم يزل صوت الأم عائشة يتردد على مسامع الأطفال والقاطنين بحضن هذه الدار، نغمات حنان وعطف ووصال، جاء النداء صادقا: لنجعل من يوم العيد يوم الزيارات والاستزارات. لنجعل منه فرصة تدخل البسمة على شفاه الصغار والكبار من المحرومين المبتلين. لنجعل منه فرصة للتذكر والاعتبار .

هكذا كان النداء السامي، ينثر لحظات أنس يحظى بها نساء ورجال وأطفال في المستشفيات والجمعيات الخيرية. في البيوت والشوارع. ويصل حبل الدعاء نزيلي المقابر، من هم في حاجة إلى المواساة بعد انتهاء زمن الأعمال في الدنيا. فالميت منقطع الرجاء من عمله إلا ما كان من صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به، وله من الدعاء نصيب .

أعدت الأم عائشة كل شيء هدايا وموائد و لعبا، و كتبا وملابس. فكم من مريض تبهجه النظرة والابتسامة والهدية البسيطة . وكم من طفل في ملجأ تستهويه اللعبة فيفرح بها أشد الفرح. وها هي الفرصة تتجدد لتسبح تلك النفوس في عوالم بالبشر مليئة وبالمحبة متصلة هنيئة. وها هو الإنسان على موعد مع لحظات الأنس تسعد فيها المرأة بالمرأة والرجل بالرجل والطفل بالطفل والغريب بالغريب . فيبدو الكون مسرحا للبهجة والسرور .

انطلق الموكب في وقار وأناة تتقدمه الأم عائشة وقد ألقت كلماتها الطيبة المذكرة بالتزام آداب الزيارة: عدم الإزعاج، والتخفيف على المزورين، واجتناب كثرة الكلام، والمبادرة إلى المساعدة، واجتناب الإحراج بالإكثار من النظر إلى المريض المبتلى، وتجنب الجلوس على المقابر والمشي عليها، وأهم شيء الدعاء للمرضى والموتى. وكانت البداية من المستشفى المركزي فقد كان وصول الموكب في موعد الزيارة المحدد العاشرة والنصف صباحا. وانقسم الموكب إلى ثلاث مجموعات . انتقلوا بين غرف محددة أرقامها لكل مجموعة لتتمكن كل مجموعة من القيام بالواجب الإنساني بكل دقة وانضباط .

شد انتباه إحسان في الغرفة رقم ( 03 ) منظرُ عجوز يأخذها الشرود مأخذا مغرقا ، فأحست نحوها بكثير من الإشفاق، بدا أن بينهما علاقة وطيدة، كانت نظرة المرأة تعكس حزنا دفينا، عندما دنت منها أرسلت المرأة تنهيدة عميقة كأنها الزفير، في اختناق المتألم المصاب بالتهاب. طأطأت الرأس، وانتهت إليها دموع منسابة من عينين ضيقتين. لما سلمت عليها إحسان، زاد ألم البنت، عندما ألقت العجوز كلمات تنم عن الإحساس بالغربة وغياب المواسي والحبيب . لك الله يا هذا الغريب ! لك الله بعدما نسيك القريب. بعدما جفاك الحبيب ! كانت كلمات العجوز متقطعة، صادرة من صوت مبحوح. وكانت نظرتها تزداد حزنا. وقسماتها تتقطع ألما. اقتربت منها إحسان ومسكت يدها اليمنى برفق بين يديها، ومسحتها بدفء .

من أنت ؟

أنا إحسان . جئت لزيارتك .

هل تعرفينني؟

نعم أعرفك. حق المعرفة. أعرف فيك الأم والأخت والعمة والخالة والصاحبة . أنت كوردة لم تفقد يناعتها على رغم السنين. صوتك لم يزل معطاء بالصدق يا أماه ! فيك حنان الأم الذي فقدته، وحب الجدة الذي ما عرفته، وحنو الخالة الذي لطالما رجوته .

نزلت كلمات إحسان بردا وسلاما على قلب العجوز واستقامت في جلستها، والأعضاء منها تحتملها على مضض. وأحست لأول مرة بعد غياب ابنها وتركه لها في هذا المستشفى، أن الدنيا ما زالت بخير، و أن الأحبة ليس شرطا أن يكونوا أهلا وأقارب. فمحبة منبعها الرابط في الدين، تكون أمتن وأقوى من أية رابطة أخرى. ظلت هذه اللحظات مرسومة في قلب العجوز، وأيقنت أنها ظفرت بابنة تصلها بعد فقدانها لمن يصلها. وانتهى اللقاء بضرب الموعد مع لقاء متجدد. وواصل الموكب زياراته، ووزعت المجموعات الهدايا والأكل والابتسامات على المرضى . فكانت الفرحة عارمة لا تحدها الحدود .

ولما انتقلوا إلى الجمعية الخيرية، توزعت أعمالهم بين اللعب والحوارات والتعارف مع الأطفال مما أضفى على الزيارة جوا من الحب وأشاع بحرا من الدفء . فأحس أطفال الجمعية أن لهم لا محالة في هذا العالم إخوانا و أخوات، يشاركونهم همومهم ومشاكلهم. فانكسرت لديهم صورة عن المجتمع ظلت إلى وقت قريب قاتمة . وانطبعت في الذاكرة والقلب أمثلة بالخير حية إنها اللحظة التي يولد فيها جو الصفاء والحب والإخاء، فيغدو المجتمع لحمة واحدة متماسكة .

وانتقل الموكب في وقار بعد صلاة العصر في المسجد الجامع إلى المقبرة القريبة، و ألقوا على القبور نظرات اعتبار وتذكر وانطلق صوت أحمد مرددا آيات من الذكر الحكيم، تفجرت لمسمعها عيون خاشعة مشفقة .

كانت هذه الزيارات بداية عهد جديد، يتردد فيه الإنسان على أماكن معينة لإدخال الفرح والسرور على قلوب حزينة و ما أكثرها !

فيا لها من صاحبة و مربية و راعية ومعلمة الأم عائشة البشوش !.

شعر :

كن بشـــــــوشا لا تلين

كن عـــــــطوفا لا تهين
لليتامـــــى و الحيارى

للثـــــــــكالى إذ تصون
تمســـــح الدمع وتمحو

كــــــــــربة تبدو تكون
كم مــريض مد صوتا

بالــــــــدجى فيه شجون
كم عـــــــجوز مد خدا

فيه حــــــزن و حنين
يا أخــــــي أنت حضن

دافـــــــــــئ فيه سكون
كن مـــــــعينا لا تبالي

بالأذى لا تستكين
و انشر الخير و واس

مسلما يشكو يهـــــــون